| | التاريخ: آذار ٦, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان | تحتفل مصر هذه الايام وتحديدا في 9 مارس بمئوية الثورة المصرية، اول انتفاضة ثورية شعبية في تاريخ مصر الحديث، واكثرها تأثيراً في الحياة السياسية والاجتماعية والفنية للمصريين، انها ام ثورات المصريين، والنموذج الفريد الذي يخاطب مخيلة واحلام المصريين في الحرية والعدالة الاجتماعية عبر الاجيال، لذلك لم يكن غريبا ان تستلهم ثورة 25 يناير عام 2011 ضد مبارك، وثورة 30 يونيو عام 2013 ضد الاخوان اهم دروس وعبر تلك ثورة 1919 العظيمة.
تبدأ وقائع الثورة برغبة سعد زغلول وبعض قيادات الجمعية التشريعية للسفر الي لندن ثم الي باريس لعرض مطالب مصر في الاستقلال امام مؤتمر السلام في فرساي، وقد رفضت سلطة الاحتلال البريطاني التصريح لهم وشككت في مشروعية تمثيلهم للشعب المصري، ما دفع زغلول ورفاقه لتشكيل ما عرف بهيئة الوفد المصري والتي سعت الي جمع توكيلات من كل المصريين في الريف والحضر، مسلمون واقباط ويهود، فقراء واغنياء، للحديث باسمهم والسعي بالطرق السلمية المشروعة لتحقيق استقلال مصر، هكذا تشكلت من اليوم الاول للحراك السياسي جبهة وطنية عريضة تضم ممثلين عن معظم الاحزاب والفاعليات السياسية علاوة عن ممثلين لكل الاديان، الامر الذي ضمن الوحدة الوطنية واكد مفهوم المواطنة والمساواة بين الجميع، ومدنية الثورة، والسعي الى تأسيس دولة مستقلة ديموقراطية.
اما الدرس الثاني من دروس الثورة الام فهو حملة التعبئة والحشد والتي اعتمدت علي حراك شعبي واسع يرمي الي جمع التوكيلات من عموم المصريين، كانت صيغة جديدة تضمن التواصل السياسي والدعاية والتجنيد وبناء قواعد تنظيمية فضلا عن صيغتها القانونية والتي تنيب الوفد في الحديث باسم المصريين في قضية الاستقلال، وبحسب التقديرات فقد نجح الوفد في جمع اثنين مليون توكيل في شعب كان تعداده 14 مليونا! مما اضطر سلطة الاحتلال للموافقة علي سفر الوفد الي مؤتمر الصلح في باريس . والمدهش ان الصيغة السلمية الهادئة لحملة التوكيلات استخدمتها حركة تمرد التي مهدت لثورة 30 يونيو عام 2013 وقامت بجمع استمارات من المواطنين تطالب بسحب الثقة من الرئيس السابق محمد مرسي والدعوة لانتخابات مبكرة، وقد اعلنت الحركة انها جمعت 22 مليون استمارة، في عملية حشد واسعة اسهمت ولاشك في الاطاحة بحكم الاخوان، واكدت تواصل تقاليد وخبرة ثورة 1919 وانتقال دروسها عبر الاجيال.
ويمكن القول ان العمل الجبهوي هو احد اهم دروس ثورة 1919، والذي فوت علي الاستعمار فرصة اللعب بورقة «فرق تسد» بين الاحزاب، او اللعب بورقة الفتنة الطائفية وهما ورقتان يجيد الاستعمار البريطاني اللعب بهما وتفتيت الحركات الوطنية . واعتقد ان هذا الدرس تعلمته الاجيال المصرية عبر التاريخ، فلم ينجح الحراك السياسي ضد دستور 1930 وحكومات الاقلية الاستبدادية الا بعد تشكيل جبهة وطنية في العام 1935 نجحت في الضغط علي الملك فؤاد واجباره علي اعادة العمل بدستور 1923، وتكرر درس الجبهة الوطنية عند تشكيل لجان الطلبة والعمال عام 1946 للمطالبة بالاستقلال التام، وصولا الي جبهة العمل المشترك الواسعة في حركة كفاية عام 2004، ثم بين شباب ثورة 25 يناير في ميدان التحرير وميادين الثورة، وعندما انتهي العمل الجبهوي نجح الاخوان في اختطاف الثورة والدولة.
لكن سرعان ما عاد العمل الجبهوي في 30 يونيو 2013 والذي كان بحق احد اهم ادوات الاطاحة بالاخوان، فقد وقف الازهر والكنيسة والقوي المدنية والجيش ضد الاخوان، لكن للأسف سرعان ما انتهت هذه الجبهة، وهو ما عانت منه ايضا ثورة 1919 عندما ضرب الانشقاق هيئة الوفد المصري في باريس، وبعد اقل من سبعه اشهر من اعلانه، ليمهد الطريق امام ظهور حزب الوفد بقيادة سعد زغلول. الذي نجح في قيادة الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال التام غير المشروط والدفاع عن دستور 1923 شبه الليبرالي وحتي قيام ثورة يوليو 1952.
والدرس الثالث المهم من ثورة 1919 هو ضرورة وجود زعيم قادر علي تحريك الجماهير وبلورة اهداف الثورة، وقيادتها، وهنا يبرز دور سعد زغلول والذي نجح في تقديم نموذج للزعيم الوطني الصلب، القادر علي التفاوض مع القصر والاحتلال من موقع القوة، وفي الوقت ذاته يستطيع الرفض والعودة للجماهير التي منحته وهيئة الوفد المصري توكيلا للحديث باسمها، ورغم حدوث انشقاق داخل هيئة الوفد، الا ان كاريزما سعد زغلول مكنته من تشكيل حزب الوفد، وادعاء انه الحزب الذي يجسد الامة المصرية كلها، المعني ان سعد زغلول وقيادة الوفد عبر تاريخه وحتي 1952 حرصت علي تأكيد فكرة ان الوفد ليس حزبا، وانما هيئة تجسد الشعب المصري استنادا الي حركة التوكيلات ثم الي ان الوفد فاز بأغلبية ساحقة في كل الانتخابات البرلمانية غير المزورة - للأسف كانت قليله - والتي اجريت في مصر خلال الفترة شبه الليبرالية ( 1923-1952 )، وتكفي الاشارة الي ان اجمالي الفترات التي تولي فيها الوفد الحكومة لا تزيد عن 8 سنوات فقط خلال هذه الفترة.
واعتقد ان دور سعد زغلول ووجود حزب الوفد قد مكن ثورة 1919 من تحقيق بعض اهدافها، صحيح ان مصر حصلت علي استقلال منقوص من بريطانيا، ودستور1923 شبه الليبرالي الا ان ثورة 1919 نجحت نظريا في تأسيس مملكة دستورية، تقوم علي مدنية الدولة وعدم خلط الدين بالسياسة، والمساواة بين المواطنين امام القضاء، اضافة الي تامين مناخ ثقافي وسياسي يقوم علي التعددية وحرية التفكير والابداع، وهو ما سمح بظهور مفكرين ومبدعين في كل المجالات واثر بعمق في اجيال عديدة من المصريين كما اثر في المنطقة العربية . والمفارقة ان انتفاضة 25 يناير لم تتعلم او تستوعب هذا الدرس من ثورة 1919 حيث لم تمتلك تنظيما قادر علي حشد وتعبئة الزخم الثوري الذي انفجر في ميادين الثورة، كما افتقدت للزعامة الكارزمية التي جسدها سعد زغلول،وعانت من تنافس وصراع الزعامات، من هنا بقيت مجرد انتفاضة وعجزت عن ان تتحول الي ثورة، اذ تعثرت وفشلت في تحقيق اهدافها.
اما الدرس الرابع من دروس ثورة 1919 فهو ان الجماهير سبقت القيادة تماما كما حصل في انتفاضة 25 يناير، فقد سبق تحرك شباب الثورة كل الاحزاب السياسية القائمة وفضح ضعفها، وهو ما حدث تقريبا في ثورة 1919، حيث ارسل سعد زعلول احتجاج إلى لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية، أعلن فيه أنه يطلب «الاستقلال التام» لمصر، ما دفع سلطات الاحتلال في 8 مارس الي اعتقال زعماء الوفد، ثم نفيهم في اليوم التالي إلى «مالطة». وبمجرد انتشار اخبار النفي يوم 9 مارس خرجت مظاهرات الاحتجاج في القاهرة والمدن الكبرى، وكان الشباب - كما في 25 يناير وغيرها من الانتفاضات الشعبية - قاطرة التحرك الثوري خاصة طلبة المدارس الثانوية والعليا ثم انضم لهم بقية المصريين. هكذا تجاوزت تحركات الشارع قيادة الوفد وسعد زغلول، والذي لم يدعو الي الثورة! ولعل مقابلة شباب الثورة مع عبدالعزيز فهمي احد زعماء الوفد تكشف عما اقصد، حيث قال لهم: «انكم تلعبوا بالنار دعونا نعمل في هدوء ولا تزيدوا النار اشتعالًا»!!
ولحسن الحظ لم يستمع الطلبة الثائرين للنصيحة وانطلقت الثورة، وانتشرت ولأول مره في الريف وشارك فيها كل الطبقات والفئات في اوسع واهم تحرك شعبي، ما ارغم سلطات الاحتلال - بعد اقل من شهر علي بداية الثورة - من اطلاق سراح سعد زغلول وزعماء الوفد، والسماح لهم بالسفر الي مؤتمر فرساي، لكن المفاوضات تعثرت، ما ادي الي اطلاق بريطانيا تصريح 1922 الذي اعترف باستقلال منقوص لمصر وكتابه دستور جديد، وهي نتائج مهمة.. لكن هناك من يري ان ثورة 1919 فشلت في تحقيق الاستقلال، ولم تهتم بالعدالة الاجتماعية او البعد العربي لمصر، لكن مهما كان من امر هذه الانتقادات.. فان 1919 كانت ثورة حقيقية غيرت المجتمع المصري والحياة السياسية حيث شاركت المرأة فيها، واثرت الثورة في زعماء ثورة العشرين في العراق وكانت بمثابة نموذج ملهم لهم وللثورة السودانية عام 1924، وفي ثورة 1925 في الشام، اضافة الي تأثيرها العميق في شخصية المهاتما غاندي الذي اعرب عن اعجابه الشديد بها والاستفادة منها في صياغة افكاره. | |
|