التاريخ: شباط ٢٨, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لم تعد أميركا في المصاف الأول للبلدان الديموقراطية - ميشيل غولدبرغ
منذ مطلع السبعينات، تنشر منظمة "فريدوم هاوس" غير الربحية الداعِمة للديموقراطية، والتي تأسست عام 1941 لتعبئة الرأي العام الأميركي ضد النازية، دراسة استقصائية سنوية لتقييم الحريات السياسية والمدنية في البلدان حول العالم. وفي هذا الإطار، تُصنَّف البلدان على مقياس من مئة نقطة، عبر استخدام 25 مؤشراً، بينها الآليات الانتخابية والحقوق الفردية وسيادة القانون.

على امتداد عقود من الزمن، اعتبر الجمهوريون والديموقراطيون على السواء القيَم التي تدافع عنها "فريدوم هاوس" المموَّلة جزئياً من الحكومة الأميركية، بأنها قيَم أميركية في جوهرها، وشغلت الولايات المتحدة عموماً مرتبة متقدّمة في مؤشر "فريدوم هاوس". غير أن ذلك بدأ يتغيّر في الآونة الأخيرة.

لقد صدرت للتو الطبعة الأحدث من تقرير "الحرية في العالم"، وهو التقرير الأساسي الذي تنشره "فريدوم هاوس". للسنة الثانية على التوالي، نالت الولايات المتحدة 86 نقطة في المؤشر، بتراجعٍ عن عام 2009 حيث سجّلت 94 نقطة. وفقاً لرئيس "فريدوم هاوس"، مايكل أبراموفيتز، إنها أدنى درجة تحصل عليها الولايات المتحدة منذ بدء الدراسة الاستقصائية.

على الرغم من أن أميركا لا تزال تُصنَّف في خانة البلدان الحرة، لم تعد مرتبتها الآن خلف كندا ودول الشمال وحسب، بل أيضاً خلف اليونان ولاتفيا وماوريشيوس. وقد ورد في التقرير أن "المعدل الأميركي الإجمالي الحالي يجعل الديموقراطية الأميركية أقرب إلى نظراء يعانون من صعوبات مثل كرواتيا منه إلى أقرانٍ تقليديين مثل ألمانيا أو المملكة المتحدة".

بعد عامَين على تسلّم ترامب سدّة الرئاسة، أثبتت الديموقراطية الأميركية، من نواحٍ كثيرة، أنها قادرة على الصمود إلى حد كبير. فالعديد من المجرمين الذين ساعدوا في انتخاب ترامب أصبحوا في السجن أو سيدخلون السجن قريباً. كما فاز الديموقراطيون بالسيطرة على مجلس النواب عام 2018، وبدأوا بفرض ضوابط على سلطة الرئيس. وقد أسقطت المحاكم بعضاً من أفظع سياسات ترامب المعادية للمهاجرين، منها جهوده الهادفة إلى إبطال "القرار المؤجّل للواصلين أطفالاً" (DACA). غالباً ما تؤدّي المحاولات التي يقوم بها ترامب والتي تنم عن ديماغوجيا عنصرية، إلى تعبئة الرأي العام ضده. لقد تجدّدَ الحراك المدني؛ فبحسب منظمة "فريدوم هاوس"، شهد تصنيف الولايات المتحدة على صعيد حرية التجمّع تحسّناً خلال العام المنصرم.

غير أن التقرير الصادر عن "فريدوم هاوس" يضعنا أمام سببَين على الأقل يستدعيان الاستمرار في دق ناقوس الخطر.

السبب الأول هو أن الديموقراطية تستغرق عادةً أكثر من عامَين كي تنهار. فقد ورد في التقرير: "في أماكن أخرى في العالم، في بلدان مثل المجر أو فنزويلا أو تركيا، كانت فريدوم هاوس تراقب فيما ترضخ المؤسسات الديموقراطية تدريجاً للضغوط من القيادة المناهضة للديموقراطية، بعد مقاومةٍ أولية في معظم الأحيان". وقد قال لي أبراموفيتز إن زيادة الفساد وتراجع الشفافية – وكلاهما من صفات الإدارة الأميركية الراهنة – هما "في معظم الأحيان مؤشران تحذيريان عن وجود مشكلات في الديموقراطية"، بما يؤدّي إلى تقويض ثقة الرأي العام بشرعية المنظومة.

ثانياً، إذا كان الأميركيون يتجاهلون بصورة متزايدة كلام ترامب، فهذا لا ينطبق على القادة الأجانب. تُسجّل السلطوية صعوداً في مختلف أرجاء العالم – فبحسب تقرير "فريدوم هاوس"، تشهد الحرية العالمية تراجعاً للسنة الثالثة عشرة على التوالي. ورئاسة ترامب هي واحدة من نتائج هذه النزعة، لكنها تحوّلت أيضاً عاملاً مساهِماً في تسريعها.

ثمة أسبابٌ كثيرة للسخرية من الفكرة القائلة بأنه لدى الولايات المتحدة واجبٌ مقدّس بالعمل على تعزيز الديموقراطية حول العالم – وهي فكرةٌ كانت موضع إجماع في السياسة الخارجية الأميركية في ما مضى. إحدى الذرائع التي سيقت خلف شن الولايات المتحدة حرباً في العراق هي أنها ستساهم في نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. لكن في عهد ترامب، نتعلّم أن تعاطي الولايات المتحدة مع العالم بطريقة غير أخلاقية على الإطلاق وقائمة على الصفقات التجارية، ينطوي على مخاطر.

فقد أدرك السلطويون، في مختلف أنحاء العالم، أنهم لن يدفعوا ثمناً ديبلوماسياً حقيقياً على خلفية قمعهم للمراسلين أو حتى قتلهم. عام 2017، قال الرجل القوي في كمبوديا هون سين عن الصحافيين: "يدرك دونالد ترامب أنهم مجموعة فوضوية". وفي وقت لاحق من العام نفسه، أرغمت حكومته إحدى كبريات الصحف المستقلة في البلاد على الإغلاق. وقد حافظت إدارة ترامب على ولائها لولي العهد السعودي على الرغم من التقييم الذي توصّلت إليه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) بأنه أصدر الأمر بقتل جمال خاشقجي، كاتب العمود الخاص في صحيفة "واشنطن بوست".

وقد لفت أبراموفيتز إلى أنه جرى اقتراح قوانين أو إقرارها في ما لا يقل عن 17 بلداً لفرض رقابة على الإنترنت باسم مكافحة "الأخبار الكاذبة"، مضيفاً: "لم يبتدعوا هذا الأمر من تلقاء أنفسهم!"

في حال فاز مرشحٌ ديموقراطي بالرئاسة سنة 2020، سوف تُمارَس ضغوطٌ كثيرة لتجاوُز هذه المرحلة البغيضة ومسامحة مَن كانوا متواطئين فيها. لا نُجيد محاسبة النخب في أميركا؛ فمهندسو حرب العراق والأزمة المالية عام 2008 أفلتوا من العقاب إلى حد كبير.

مع ذلك، آمل بأن نتمكّن من حشد الإرادة السياسية اللازمة للإقرار بحجم الخيانة الشديدة التي ارتكبتها الإدارة الحالية بحق المثل العليا الأميركية. سوف نحتاج إلى جردة حساب كاملة عن التآكل المؤسسي الذي تسببت به رئاسة ترامب، والمبالغ التي جناها ترامب ومعاونوه نتيجةً لذلك.

يُقدّم العالم دروساً عن العوامل التي تجعل الديموقراطيات ضعيفة وهشّة أكثر مما يُقدّم دروساً عن السبل الآيلة إلى إعادة إحيائها. قد لا تؤخَذ أميركا من جديد على محمل الجد في موقع النصير العالمي للديموقراطية الليبرالية. إنما قد تتمكّن على الأقل من استنباط طريقة منهجية لنبذ اللاليبرالية. لسنا البلد الوحيد الذي سيحتاج إلى ذلك.

كاتبة عمود خاص في صحيفة "نيويورك تايمز"
 ترجمة نسرين ناضر