التاريخ: شباط ١, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
سرديّة بوتين التاريخيّة حول النزاع السوريّ... بِمَ يصطدم نجاحها؟ - جورج عيسى
في وقت تنشر الإدارة الأميركيّة الغموض حول شكل وتوقيت انسحاب جنودها من سوريا، تدرس موسكو مختلف التداعيات المحتملة لهذه الخطوة كي تبني عليها سياستها المستقبليّة في المنطقة. ربّما يسهّل الانسحاب الأميركيّ على الروس التحكّم بآليّة إنهاء النزاع في سوريا، وهي آليّة تمكّنوا من رسم ملامحها الأولى بعد الانتصارات الميدانيّة التي حقّقوها منذ تدخّلهم في النزاع. لكنّ هذه الانتصارات قاصرة وحدها عن تحقيق أهداف الكرملين.

"اجعلوا قصّة روسيا عظيمة مرّة أخرى"

جاء التدخّل العسكريّ الروسيّ في سوريا للدفاع عن سرديّة جديدة أرادت موسكو الترويج لها. لكنّ هذه السرديّة لم تكن فقط هدفاً تسعى موسكو إلى تحقيقه من خلال الحرب، بل كانت جزءاً من تكتيكات الحرب عينها في بعض الأحيان. على سبيل المثال، رأى الباحث والصحافيّ الروسيّ مكسيم ترودوليوبوف أنّه: "في سوريا، موسكو تدافع عن سرديّة لا عن دولة". كتب ترودوليوبوف في "مركز ويلسون" الأميركيّ بعد الضربة الغربيّة على سوريا في نيسان الماضي، أنّ الكرملين يفضّل "سرديّة عسكريّة" بالنسبة إلى سوريا، لأنّها "تضع #روسيا والولايات المتّحدة على قدم المساواة. إنّ سرديّة عسكريّة تجعل سوريا قصّة لقوّتين عظيمتين تحاربان للهيمنة في جزء مهمّ من العالم".

لكنّ العقوبات الأميركيّة على روسيا "ليست قصّة جذّابة بالنسبة إلى الكرملين، وخصوصاً حين تستهدف النخب الروسيّة الثريّة، هي تحدث ألماً اقتصاديّاً" على الروس الذين لا يستطيعون الردّ عليها بسبب ضعف اقتصادهم. ويشير الباحث إلى أنّ الكرملين يريد أن ينشر "دراما أنّ قوّة شرّيرة تدفع لتغيير النظام وأنّ قوّة خيّرة تدافع عن حكومة شرعيّة في أمّة سيّدة". وأضاف أنّ الكرملين "يبدو أنّه يحبّ قصّة عظيمة أكثر من دولة عظيمة. اجعلوا قصّة روسيا عظيمة ثانية، لا روسيا نفسها، تبدو أنّها الاستراتيجيّة".

يوضح تحليل ترودوليوبوف جزءاً من الدعاية السياسيّة التي تعتمدها روسيا في صراعها مع الأميركيّين. هذه النظرة، على الرغم من أهمّيتها، لا تقدّم إحاطة شاملة بالأهداف التي دفعت روسيا إلى الانخراط في نزاع مكلف. فهذه النظرة تعبّر في نهاية المطاف عن صراع محدّد على مستوى تكتيّ لا استراتيجيّ يعود بالنفع على روسيا لفترة زمنيّة طويلة.

ما هي سرديّة بوتين الخاصّة؟

لعلّ المدير العام ل "المجلس الروسيّ للعلاقات الدوليّة" أندريه كورتونوف كان أفضل من عبّر عن سرديّة استراتيجيّة حاولت روسيا الترويج لها على مستوى عالميّ وتستبدل من خلالها خطاباً غربيّاً ساد النقاش السياسيّ في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. في تشرين الثاني الماضي، انطلق كورتونوف في بداية مقاله، من مقدّمة تطرح مفارقة مهمّة تُعرّف من خلالها القارئ إلى التحوّلات الاستراتيجيّة في صناعة القرار داخل روسيا. أشار الباحث إلى أنّ الشرق الأوسط لم يشكّل قطّ أولويّة استراتيجيّة لروسيا كما هي الحال بالنسبة إلى أوروبّا أو حتى آسيا الوسطى. لكنّ أحداث الربيع العربيّ قدّمت لروسيا "تحدّيات" و "فرصاً" جديدة كما رأى كورتونوف الذي تابع أنّ بوتين قدّم "سرديّته الخاصّة" في مقابل "السرديّة الغربيّة" التي جعلت خطّ الانقسام الأساسيّ في العالم على أنّه "بين الديموقراطيّة والاستبداد". وأضاف: "السرديّة الروسيّة الجديدة، المصاغة بعد بدء الربيع العربيّ، جادلت أنّ هذه المقاربة لم تعد ذات معنى في عالم ما بعد الحداثة. خط التقسيم الحقيقيّ لم يكن بين الديموقراطيّة والاستبداد، لكن بين ‘النظام‘ و ‘الفوضى‘".

نجاح الحرب الروسيّة في سوريا هو جزء من نجاح فرض هذه السرديّة على مستوى العالم. إنّ استعجال ترامب تقليص قوّاته العسكريّة في الخارج وعدم اهتمام أوباما بفرض "خطّه الأحمر" ليسا سوى جزء من توجّه أميركيّ للابتعاد عن "الفوضى" في بعض دول العالم. وقد تكون المحاذير الأوروبّية من الانخراط العسكريّ الموسّع في سوريا، في أحد أوجهها، خوفاً من السقوط في دوّامة "الفوضى" هذه. وعلى قاعدة أنّ موسكو نجحت في إعادة الاستقرار إلى جزء كبير من الأراضي السوريّة، يحاول بوتين دفع الأوروبّيّين والخليجيّين إلى تمويل إعادة الإعمار.

ضحايا "هندسة السرديّة التاريخيّة"

بطبيعة الحال، هنالك ضحايا لانتصار السرديّة الجديدة على ما عداها من السرديّات. ف "النظام" أو "الاستقرار" سيصبح هو محور الفصل بين الخاسرين والرابحين في معركة "هندسة السرديّة التاريخيّة في سوريا" بحسب تعبير الصحافيّ عظيم ابرهيم الذي كتب أنّ المتظاهرين ضدّ الأسد سيتمّ إعادة تصويرهم على أنّهم "أعداء الاستقرار". لكن ما قد يهمّ روسيا أكثر بحسب كورتونوف هو الانتصار على السرديّة الغربيّة لا على تلك السوريّة. وعلى أيّ حال، لم يكن نجاح بوتين في نشر خطابه الخاص نجاحاً مطلقاً كما أنّه لم يأتِ من دون أكلاف حتى على النفوذ الروسيّ نفسه.

فالانخراط في النزاع السوريّ ضاعف أعداد اللاجئين إلى أوروبّا ممّا عزّز فرص صعود اليمين المتطرّف. ساهم الأخير بإدخال أوروبا في حالة من "الفوضى" السياسيّة التي أثّرت سلباً على استقرارها. وهذا سبب آخر قد يدفع الأوروبّيّين إلى التلكّؤ في عمليّة إعادة الإعمار، تضاف إليها مجموعة من الأسباب الأخرى من أبرزها، الاعتراض الأميركيّ وغياب الحلّ السياسيّ.

اعتراف بمحدوديّة النجاح

حتى كورتونوف يعترف بحدود النجاح الروسيّ فيلفت النظر إلى أنّ تركيا وإيران بدتا وكأنّهما "غير قادرتين أو غير راغبتين" في السيطرة على عدد من المجموعات المقاتلة المرتبطة بهما. وأضاف أنّ النجاحات العسكريّة الميدانيّة "جعلت دمشق غير محفّزة لمناقشة تسوية سياسيّة في جنيف". ورأى أنّ أيّاً تكن القيادة فيها، سيكون عليها البحث عن شركاء آخرين ذوي قدرات ماليّة أكبر من تلك التي تملكها روسيا وإيران وتركيا.

إذا تمكّن بوتين من دفع الغربيّين للمساهمة في إعادة الإعمار فقد يحقّق عندها انتصاره شبه الكامل في النزاع السوريّ، على المستويين العسكريّ والسرديّ. لكن إلى الآن، لا يبدو أنّ هذا الأمر يلوح في الأفق. ففرض العقوبات الأميركيّة والأوروبّيّة على النظام السوريّ يظهر في أحد جوانبه أنّ الغرب غير مقتنع، أقلّه بشكل كامل، بخطاب "الاستقرار" في مقابل "الفوضى". قد يكتب للسرديّتين الروسيّة والغربيّة أن تتواجها طويلاً على طريق صياغة الخيارات الأساسيّة في سوريا وفي العالم خلال السنوات وربّما العقود المقبلة.