|
|
التاريخ: كانون ثاني ٢٩, ٢٠١٩ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
جدعون ليفي لبيني موريس، أنت مخطئ: اليهود والعرب يمكنهم العيش معاً هذا ما يفعلونه أصلاً |
بيني موريس: جدعون ليفي مخطئ بشأن الماضي والحاضر، وأعتقد بشأن المستقبل أيضاً |
تنشر "قضايا النهار" اليوم حوارا مهما جرى مؤخرا بين مثقّفَيْن إسرائيليين بارزين على صفحات صحيفة "هآرتس" يناقشان من موقعين متضادين قضايا الاحتلال والعلاقة الإسرائيلية الفلسطينية ومسألة خيار الدولة الواحدة والدولتين. (ترجمة نسرين ناضر)
بيني موريس، أنت مخطئ: اليهود والعرب يمكنهم العيش معاً هذا ما يفعلونه أصلاً - جدعون ليفي
"جدعون ليفي مخطئ بشأن الماضي والحاضر، وأعتقد بشأن المستقبل أيضاً"، هذا ما كتبه المؤرخ بيني موريس في صحيفة "هآرتس". الماضي هو من اختصاص موريس، ولذلك سأكتفي بالإشارة، رداً على حجّته، إلى أن الفلسطينيين عارضوا، منذ البداية، الصهيونية التي رأوا فيها قوةً استعمارية اجتاحت بلادهم وجرّدتهم من مقتنياتهم واحتلّتهم. هذه هي الحقيقة من وجهة نظرهم، وهو ما يصعب دحضه. فلا الحق البيبلي في الأرض ولا وعدٌ إلهي ولا المحرقة تعنيهم.
حتى في ما يتعلق بالحاضر، سأكتفي بالتعليق على السهولة التي يُنكر فيها موريس همجية الديكتاتورية العسكرية في الأراضي، والتي هي فعلاً من الأسوأ في العالم. فهل من مكانٍ آخر يشهد، منذ أكثر من 50 عاماً، مداهمات ليلية للمنازل حيث يُنتزَع المواطنون، بما في ذلك الأولاد، من أسرّتهم؟ هل من بلدٍ ديموقراطي آخر حيث يوجد ملايين الأشخاص من دون جنسية؟
غير أن المشكلة الأساسية في موقف موريس هو توقّعاته بشأن المستقبل، والتي عبّر عنها في مقابلة مع "هآرتس" قائلاً: "سيتراجع هذا المكان مثل دولة شرق أوسطية ذات أكثرية عربية". وأضاف أن اليهود سيبقون "أقلّية مضطهَدة أو تُرتكَب مجازر بحقها". لا يترك هذا التوصيف للأوضاع خياراً سوى الدمار الكامل، من دون معالجة الأسباب.
موريس على قناعة بأن ما كان سائداً في الماضي سيستمر أيضاً في المستقبل. يجب أن يعلم، بوصفه مؤرِّخاً، أن الأمور ليست على هذا النحو، ولن تبقى كذلك إلى ما لانهاية. يصف المستقبل وكأنه توأم الحاضر. أسوأ من ذلك، يراه من خلال عدسة العِرق والتغطرس. إذا كان موريس يتحدّث عن العرب، وإذا استمروا على هذا المنوال إلى ما لانهاية، فهو على حق. إنها نهاية العالم، لكنْ ثمة احتمالٌ آخر.
ينظر موريس إلى الحاضر، حيث تناضل أمةٌ من أجل حريتها، بما في ذلك عبر اللجوء إلى العنف، مثلما فعلت جميع الأمم في التاريخ، ويستنتج أنهم سيبقون كذلك على الدوام. يرى أمةً لم تُعامَل قط بإنصاف ويستنتج أنها ستبقى على هذه الحال إلى ما لانهاية. يستنتج أنهم سيلجأون إلى القتل على الدوام. سواءً كانوا خاضعين للاحتلال ويعانون من الظلم، أم حصلوا على العدل والمساواة، سيستمرون دائماً في سرقة السيارات، وقتل نسائهم، وسيتصرفون بوحشيةٍ على الدوام.
في رأيه، القتل يسري في عروق العرب منذ الولادة، ولذلك لا إمكانية هنا لقيام بلدٍ يتّسم بالمساواة في الحقوق، حيث يعيشون مع اليهود المستنيرين والمتقدّمين.
يكتب موريس أن لا أحد، ما عدا الجالسين في مقاهي باريس، يمكنه أن يصدّق وَهْم الحل القائم على إنشاء دولة واحدة. غير أن الدولة الواحدة موجودة منذ 52 عاماً، لكن الوضع ليس ديموقراطياً. انطلاقاً من منزلي في رمات أبيب التي كانت قرية عربية في ما مضى تُعرَف بالشيخ مونّس، أودّ أن أقترح إمكانية أخرى.
لا داعي لأن تكون متفائلاً كي تؤمن بهذا. موريس مقتنع بأن العرب لن يسامحوا أبداً إسرائيل على ما فعلته بهم. لقد بادر اليهود سريعاً إلى مسامحة الألمان على جرائم أشد فظاعة بكثير. وسامح السود في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا البيض. وأصبحت فرنسا وألمانيا حليفتَين مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية.
وحدهم الفلسطينيون لن يسامحوا. يجب أن يُدرك المؤرّخ أن الأمور يمكن أن تكون مختلفة، وأنه إذا تحمّلت إسرائيل مسؤولية أخلاقية عن ممارساتها وكفّرت عن أخطائها وأصلحت الأمور ودفعت تعويضات وتصرّفت باحترام، فسوف يسامحونها.
صحيحٌ أن الديموقراطية في العالم العربي لا تبعث على الأمل، لكن الفلسطينيين أثبتوا أنه يمكنهم التصرف بطريقة مختلفة، في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في الأراضي وانتخابات الكنيست في إسرائيل. لم تتسنَّ لهم قط فرصةٌ كاملة لإظهار ذلك لأنه لم تُرفَع عنهم قبضة الاحتلال الإسرائيلي.
على الرغم من كل المشكلات، تُقدّم مدينتا حيفا ويافا اللتان تضمان خليطاً من العرب واليهود، دليلاً حياً عن إمكانية وجود نوع مختلف من الحياة. ويمكن أن تُقدّم المستشفيات والجامعات واتحادات كرة القدم الإسرائيلية مؤشراً أيضاً عن المستقبل.
لكن عندما تكون عنصرياً قومياً متشدداً، ومتيقّناً من أنك تواجه وحوشاً أدنى منك، ليس هناك ما يمكن التكلم عنه ولا مَن يمكن التكلم عنه – والخلاصة هي أن الأبوكاليبس يلوح في الأفق. هذا مناسب جداً: ليس هناك من أمل، ولا شيء يستحق النضال من أجله. يمكننا أن نواصل ممارساتنا التعسّفية وانتظار النهاية المريرة التي لا مفرّ منها.
صحيح، هم ليسوا نرويجيين. ونحن، بيني موريس؟ هل نحن نرويجيون؟ هل فسادنا نرويجي؟ الحكم الديني؟ الجهل؟ الطرقات؟ الاحتلال؟ في اليوم الذي سنصبح فيه نرويجيين، عندما نعامل الفلسطينيين بمساواة وعدل، قد تُفاجأ. فهم أيضاً قد يصبحون نرويجيين، إذا كان هذا ما تتمنّاه.
وعندئذٍ قد توافق أنتَ أيضاً على العيش معهم. أنا أفضّل منحهم فرصة بدلاً من الاستمرار في قمعهم واللجوء إلى الخداع عبر الكلام عن حل الدولتَين، ثم إما الغرق في الانحدار وإما الفرار إلى الولايات المتحدة.
كاتب عمود خاص في صحيفة "هآرتس"
جدعون ليفي مخطئ بشأن الماضي والحاضر، وأعتقد بشأن المستقبل أيضاً - بيني موريس
في نهاية المطاف ستكون هناك دولة واحدة بين المتوسط والأردن، لكنها ستكون مختلفة تماماً عن الدولة التي يتصوّرها.
الماضي
نَعَتني جدعون ليفي في أحد مقالاته بـ"الباحث الذي قدّم خيارَين، التطهير العرقي أو الإبادة"، مستنداً في ذلك إلى كلامٍ قلته في مقابلة مع آري شافيت. هذا مرتبط بالطبع بما جرى عام 1948. قد يفهم القارئ غير العارِف من كلام ليفي أنه بدلاً من القضاء على العرب، اختار اليهود طردهم. إنما ليس هذا ما قلته.
قلت آنذاك وأكرّر القول الآن بأنه كان أمام اليهود احتمالان عام 1948: إما أن يرتكب العرب إبادةً بحقهم - ولا شك لدي في أنه لو انتصر العرب عام 1948 لتعرّض اليهود لمذبحة جماعية - وإما أن يَطرد اليهود العرب دفاعاً عن أنفسهم، أو أقلّه يمنعون مَن لاذوا بالفرار وطُرِدوا من العودة.
اختار اليهود ألا يكون مصيرهم القتل، وقد أصابوا في اختيارهم هذا. لكن حتى التطهير العرقي انطلاقاً من التعريف الذي وُضِع لهذا المصطلح في العقود الأخيرة بالاستناد إلى ممارسات الصرب في البوسنة في التسعينات – حتى هذا التطهير العرقي لم يُمارَس هنا. فما جرى هنا كان صراعاً بين شعبَين ادّعى كلٌّ منهما أنه صاحب الحق على الأرض نفسها.
بين تشرين الثاني 1947 وآذار 1948، شنّت ميليشيات العرب في أرض إسرائيل، والتي سُمّيت لاحقاً الفلسطينيين، هجمات على اليهود، وفي نيسان - أيار 1948، هُزِمت هذه الميليشيات على يد منظمة الهاغاناه التي تولّت الدفاع عن اليهود. ثم في أيار-حزيران 1948، اجتاحت جيوش الدول المجاورة دولة إسرائيل وهاجمتها، وهذه الجيوش مُنيت أيضاً بالهزيمة في نهاية المطاف.
خلال تلك الحرب، غزت القوات اليهودية نحو 400 متّحد عربي كانت تشكّل قواعد للميليشيات الفلسطينية واستضافت لاحقاً الجيوش الغازية (مثلما شكّلت المتحدات اليهودية قواعد للقوات اليهودية)، وقد لاذ معظم السكان بالفرار أو طُرِدوا - إنها "الخطيئة الأصلية" التي يتحدّث عنها ليفي.
إشارة إلى أن بعض العرب الذين غادروا البلاد فعلوا ذلك بناءً على نصيحة من القادة العرب أو تحت تأثير الضغوط منهم أو بناءً على تعليماتهم، على غرار ما جرى في حيفا في نيسان 1948.
خلال الحرب، وضعت الحكومة الإسرائيلية سياسةً الهدف منها منع عودة اللاجئين (الذين كانوا قد حاولوا تدمير المتحد اليهودي)؛ وقد نُفِّذت هذه السياسة فعلياً على الأرض. إنما لم تكن هناك سياسة لـ"طرد العرب"، وهكذا مكث نحو 160000 عربي ولم يغادروا، أي نحو خُمس مجموع السكان في البلاد.
هناك مسؤولون أقدموا على طرد العرب (ييغال ألون، اسحق رابين)، وآخرون لم يطردوهم (بنيامين دونكلمان، موشيه كرمل). غير أن الأكثرية لاذت بالفرار أو دُفِعت إلى الفرار. وهذا ليس "تطهيراً عرقياً" بالمعنى الدقيق للعبارة.
خلال الحرب، أقدم الطرفان على قتل مدنيين وأسرى حرب. وقعت المجزرة الأولى في الحرب في كانون الأول 1947، عندما قتل العرب 39 يهودياً في مصافي النفط في حيفا. لكن خلال الحرب، قتل الجانب اليهودي عدداً من العرب يفوق عدد اليهود الذين قتلهم الجانب العربي. (والسبب هو أن اليهود سيطروا على مئات القرى العربية، في حين أن العرب سيطروا على نحو عشرة متحدات يهودية – ولم يحتل الفلسطينيون متحداً يهودياً واحداً. وقعت المجزرة الأكبر بحق اليهود خلال الحرب عندما قاتل الفلسطينيون المسلّحون إلى جانب القوات الأردنية لغزو مستوطنة كفار عتصيون في 13 أيار 1948).
حكاية العدوان العربي على اليهود – في جولات العنف في الأعوام 1920 و1921 و1929 و1936-1939 و1947-1948 - غائبة تماماً عن مقال ليفي. في المقال، اليهودي هو دائماً المعتدي، والعربي هو دائماً الضحية. العربي هو دائماً المفعول به، لا الفاعل. ليس مسؤولاً عن شيء. يُصدّق ليفي الرواية العربية التي تعتبر العودة إلى صهيون فعل اجتياح عاماً، ضارباً عرض الحائط بالمنطق والعدالة، ولذلك فإن العنف ضد الاجتياح يندرج، في رأيه، في إطار الدفاع المشروع عن النفس ضد جهةٍ معتدية.
على غرار العرب، يتجاهل ليفي تماماً: أ) الرابط التاريخي بين اليهود وأرض إسرائيل والذي هو في أساس الصهيونية وتبريرها؛ وب) حاجة اليهود إلى ملاذ آمن يقيهم من الإجرام التاريخي لغير اليهود بحقهم – لا سيما إجرام المسيحيين، إنما وأكثر من مرة، إجرام المسلمين أيضاً. اليهود، وفقاً للرواية العربية، هم مجرد زمرة من اللصوص قرّروا، لسببٍ من الأسباب، سرقة أرض إسرائيل من سكّانها العرب.
وفيما ينظر ليفي إلى الماضي، يتجاهل أيضاً واقع أن القيادة الصهيونية وافقت - في الأعوام 1937 و1947 و1978 و2000 و2007 و2008 - على حلٍّ مستند إلى تنازلٍ عن الأراضي، في حين أن القيادة الفلسطينية - في عهود الحاج أمين الحسيني وياسر عرفات ومحمود عباس - رفضت باستمرار أي تسوية اقترحها البريطانيون والأمم المتحدة والحكومات الإسرائيلية (ما دام عباس يرفض القبول بصيغة "دولتَين لشعبَين" ويقول، في كلامٍ مخادع، إنه يدعم قيام "دولتَين" من دون أن يأتي على ذكر كلمة "شعبَين"، الفارق بين الرئيس الفلسطيني الحالي وأسلافه هامشي).
الحاضر
صحيحٌ أن القيادة الإسرائيلية الراهنة رفضت فكرة إقامة دولتَين لشعبَين، وتعمد تالياً إلى زيادة الاستيطان في الأراضي – وهذا أحد الأسباب التي تدفعني إلى الشعور بالسرور في حال سقوط حكومة بنيامين نتنياهو. (ثمة أسباب أخرى – التديّن المتزايد، محاولات تقييد الديموقراطية والقضاء عليها، الفساد الشخصي، إلخ.). لم أدعم يوماً نتنياهو الذي تُثير ممارساته قرفي.
يدعم ليفي، إن كنت أفهم بطريقة صحيحة، استمرار نتنياهو في الحكم، ربما استناداً إلى المنطق الثوري الذي يندرج في إطار الكليشيهات، وهو أنه كلما ازدادت الأمور سوءاً، بات الوضع أفضل في المستقبل. لعلّه، شأنه في ذلك شأن زميله في صحيفة "هآرتس"، بيني زيفر، مفتونٌ بالرجل وزوجته. ربما يدرك أن سياسة نتنياهو تقود بالضرورة إلى دولة واحدة ذات أكثرية عربية – أي نهاية إسرائيل كدولة يهودية.
يصف ليفي نظام الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي بأنه "ديكتاتورية عسكرية هي من الأشد قسوةً في العالم". إنه غلوٌّ شديد. لطالما عارضتُ الاحتلال، الاحتلال المسيحاني، من وجهة نظر أخلاقية. ربما لاحظ ليفي أنني، وخلافاً لعدد كبير من أصدقائه، سُجِنت (لفترة وجيزة) بسبب معارضتي للاحتلال. ولم أكن مطلقاً من الأشخاص الذين اعتبروا نظام الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي "مستنيراً". (انظر الى ما أوردته بالتفصيل عن هذا الموضوع في كتابي "ضحايا الحق" Righteous Victims).
لطالما قام الاحتلال على العنف (من خلال الجيش وجهاز الأمن الداخلي "الشاباك" والشرطة الإسرائيلية)، والسجن ونَفي الخصوم، فضلاً - هنا وهناك - عن قتل معارِضي الاحتلال (الذين يُسمّيهم قادتنا "إرهابيين"، على الرغم من أن معظم المعارِضين صوّبوا سكاكينهم، في الأعوام الأخيرة، ضد المستوطنين والجنود أو الشرطة). إنما القول بأن الاحتلال هو "ديكتاتورية عسكرية هي من الأشد قسوةً في العالم"؟
ألم يسمع ليفي قط بمآثر نظام الرئيس السوري بشار الأسد في الجوار؟ أو مآثر جيراننا الأبعد قليلاً، أي الأئمة في طهران (أو الأنظمة في عدد كبير من البلدان في أفريقيا وآسيا)؟
صحيحٌ أنه في الغرب، ليست هناك شعوبٌ تحكم شعوباً أخرى، وتُعتبَر مثل هذه السيطرة، عن حق، لا أخلاقية. إنما من جهة أخرى، ينبغي على الصحافي المتمدّن أيضاً أن يسأل كيف وصلت إسرائيل إلى الوضع الراهن - كيف طُوِّقت إسرائيل وهُدِّدت في أيار - حزيران 1967، وما أعقب ذلك من رفض منظمة التحرير الفلسطينية تحقيق السلام، ورغبتها في إبادة إسرائيل، وتملّصها من الاقتراحات عن التنازل في مجال الأراضي. ويجب أيضاً الوقوف عند الجانب الإشكالي الذي يترتّب، من وجهة نظر أمنية، عن تسليم أراضٍ إلى نظام عربي (وهذا ما تكشفه الأحداث التي شهدها قطاع غزة عندما انسحبنا منه عام 2005).
المستقبل
في ما يتعلق بالمستقبل، ما زلتُ أعتقد أن فكرة إقامة دولتَين لشعبَين وتقسيم الأراضي هما الأساس الوحيد للتوصّل إلى حل من شأنه أن يُحقّق درجةً ما من العدالة للشعبَين. (مَنحُ "العدالة" الكاملة لطرفٍ واحد يؤدّي حكماً إلى إسقاط أي إمكانية بإحقاق "العدالة" للطرف الآخر). لكن على غرار ليفي، أعتقد أيضاً أنه يتعذّر تحقيق ذلك راهناً، وربما من غير الممكن على الإطلاق تحقيقه في المستقبل.
لكنني أضيف أنه لطالما ساورتني شكوكٌ حول واقعية تقسيم أرض إسرائيل التي خضعت للانتداب البريطاني بطريقة تؤدّي إلى حصول اليهود على 78 إلى 80 في المئة من الأراضي في حين يكتفي العرب بـ20 إلى 22 في المئة. حتى لو كان هناك فلسطينيون مستعدّون لتوقيع مثل هذا الاتفاق، سيرفضه الشعب الفلسطيني، بقيادة "حماس" و"فتح"، رفضاً قاطعاً، ولن يعمّر الاتفاق طويلاً.
يقتضي اتفاقٌ مستند إلى حل الدولتَين، بالضرورة، منح الفلسطينيين حيّزاً مكانياً يُتيح لهم استيعاب مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين من لبنان وسوريا. يجب أن تضم هذه الأراضي 95 في المئة من الضفة الغربية (وفق ما اقترحه الرئيس الأميركي بيل كلينتون في كانون الأول 2000)، إلى جانب قطاع غزة والقدس الشرقية وشرق الأردن، وربما أيضاً جزء من سيناء. من دون هذا الامتداد للأراضي، لن يكون اتفاق الدولتَين مستداماً.
اتفاق السلام المستند إلى التقسيم لا يبدو واقعياً في ظل الظروف الراهنة، وماذا يقترح ليفي بدلاً من ذلك؟ دولةٌ لجميع مواطنيها، دولة ديموقراطية واحدة بين المتوسط ونهر الأردن. تبدو فكرة جيدة – لا سيما إذا كنتَ جالساً في أحد المقاهي في باريس أو لندن، لكننا نعيش في غابة الشرق الأوسط، محاطين ببلدانٍ، ويا لها من بلدان ناجحة، مثل سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن والسعودية؛ باختصار نحن محاطون ببلدان عربية مسلمة بعيدة عن تبنّي قيم الديموقراطية والتسامح والليبرالية.
أليس الفلسطينيون مسلمين (ما عدا نحو 5 في المئة ينتمون إلى الديانة المسيحية)؟ هل يتّصف نظام "حماس" في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بالليبرالية والتسامح والديموقراطية؟ هل من أسسٍ تدفعنا للاعتقاد أن الفلسطينيين سيتصرّفون بطريقة مغايرة عن تصرفات إخوانهم العرب في أماكن أخرى؟ باختصار، هل يمكن تشبيه الفلسطينيين بالنرويجيين؟
الحل المستند إلى إقامة دولة واحدة لليهود والعرب هو بمثابة وصفة للعنف والفوضى المتواصلَين، ومن شأنه أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى قيام بلدٍ واحد ذي أكثرية عربية – وأقلية يهودية مضطهَدة ومستعدة لفعل أي شيء للهروب، مثلما فعل أبناء الجاليات اليهودية في البلدان العربية عندما طاردهم جيرانهم بين عامَي 1948 و1965.
يلفت ليفي، في مقاله، إلى العداء والكراهية اللذين انتشرا في أوساط العرب تجاه اليهود خلال الأعوام المئة الماضية (وبدرجة أقل، انتشرت أيضاً كراهية في أوساط اليهود تجاه العرب). وعن حق. من وجهة نظر العرب، سرقنا البلاد منهم، ودسنا على كرامتهم، ووضعنا عدداً كبيراً منهم في السجون، وقتلنا ذويهم بالآلاف.
هل يمكن نسيان هذه الأمور عندما يُقيم العرب، معنا، دولةً واحدة؟ ألن يكون من المنطقي أكثر، بالنسبة إلى العرب، أن يستخدموا الدولة الجديدة للانتقام واستعادة السيطرة على الأرض والمنازل التي "سُرِقَت" منهم عام 1948 وفي السنوات اللاحقة؟ لا شك أيضاً في أن الثروات التي يتمتع بها اليهود نسبياً في البلاد ستكون مغريةً للعرب الأقل يُسراً. وسوف تُسجِّل مستويات الإجرام على خلفية الاستيلاء على الأملاك زيادة كبيرة.
في العشرينات والثلاثينات والأربعينات، طالبت حفنةٌ من اليهود، من خلال مجموعتَي "تحالف السلام" (بريت شالوم) و"اتحاد" (إيحود)، بقيام دولة ثنائية القومية. لم تسلك الفكرة مطلقاً طريقها إلى التنفيذ. فقد رفضتها الأكثرية الساحقة من اليهود، وكان العرب أقل دعماً لها (لم يدعمها أحد تقريباً في الواقع).
والعدد القليل من اليهود - أقل من نصف معسكر انتقالي أو ما يُعرَف بـtransit camp - الذين دعموا الفكرة، لم ينجح قط في حل "المشكلة الديموغرافية" في مواجهة الواقع المتمثّل بوجود أكثرية عربية وأقلية يهودية بين المتوسط والأردن. إذا تمتعت الدولة الواحدة بالديموقراطية وضمّت أكثرية عربية، فمن شأن الأكثرية أن تُقرّر طابع الدولة ومسار عملها. وفي هذه الحالة، سيتعرّض اليهود للتهميش، ثم يُطرَدون خارجاً.
تواجه الفكرة التي يقترحها ليفي عن إنشاء دولة واحدة، المشكلة نفسها. هناك راهناً نحو 6 إلى 7 ملايين عربي والعدد نفسه تقريباً من اليهود بين المتوسط والأردن.
في غضون عقدٍ أو اثنَين، سيُصبح العرب أكثرية راسخة نظراً إلى تسجيلهم معدلاً أسرع على مستوى النمو السكاني – وهذه الأكثرية ستنمو فور إنشاء الدولة الواحدة، وبعد أن يسعى العرب في تلك الدولة إلى عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين من لبنان وسوريا والأردن إلى البلاد (وما السبيل كي يمنع اليهود ذلك؟)
ثم سيكون سلوك الدولة الواحدة، ذات الأكثرية العربية، متطابقاً مع نمط حياة أكثرية السكان. هل ستزول عادةُ القتل حفاظاً على شرف العائلة؟ هل سيختفي العنف والإجرام، والقيادة المتهوّرة والفساد الحكومي والعشائري، التي تتجلّى بصورة يومية في المجتمعات العربية؟ ما الذي سيجعل اليهود يعيشون في بلدٍ كهذا؟
سوف يغادر اليهود هذه البلاد، مثلما غادروا الجزائر وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن. قد يكون ليفي من أواخر اليهود الذين لا يزالون قابعين في أرض أحلامهم. فليستمتع بذلك. إذا سُمِح لنا أن نعود إلى الواقع للحظة، يبدو لي أن ما كان قائماً سوف يستمر. سيستمر نظام الاحتلال في العمل. سوف يعاني العرب، واليهود أيضاً (ولو أقل بعض الشيء). وربما كان ليفي على حق، وقد يستمر ذلك لمئة سنة إضافية، مع أنه تساورني شكوكٌ في هذا الصدد.
في نهاية الأمر، سوف تتبلور الدولة الواحدة. سوف يفرض عليها اليهود سيطرتهم إلى أن تتغلّب عليهم العقوبات الدولية والتمرد العربي والضغوط من الدول المجاورة. عندئذٍ ستصبح هناك دولةٌ ذات حكومة عربية وأقلية يهودية متناقِصة.
ستنضم هذه الدولة العربية الـ24 إلى جامعة الدول العربية. ستغرق دولة فلسطين رويداً رويداً في رمال الشرق الأوسط إلى جانب الدول المجاورة لها، بعد استنفاد احتياطيات النفط في شبه الجزيرة العربية.
مؤرّخ إسرائيلي
(ترجمة نسرين ناضر) |
|