التاريخ: كانون ثاني ٢٤, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
حذارِ من خدعة الدولة المدنية - أمين الياس
ليست المرّة الأولى التي أكتب فيها في "المدنيَّة" و"العلمانيَّة"، وأظنّ أنَّها لن تكون الأخيرة. وكلّ مرّة أكتب في هذا الموضوع ليقيني بأنّه هناك الكثيرين الذين لا يزالون يستخدمون الهامش بين المفهومَين لبثّ المزيد من المغالطات والاضطرابات في وعي الرأي العام، اللبناني منه والعربي.

فئات المنادين بالدولة المدنية ومصالحهم

يمكنني أنْ أقسّم المنادين بالـ"مدنيَّة" أقسامًا ثلاثة. قسم أوَّل هو عبارة عن "العلمانيّين" الذين يعيشون في المجتمعات العربيَّة ذات الغالبيّة المسلمة. فهؤلاء يمكن القول عنهم أنّهم فئتان أيضًا. فئة مجاهرة بمبدأ العلمانيَّة ساعية لتوضيحه ونشر الوعي الخاصّ به بين الناس، وفئة بائسة فاقدة الأمل بإمكانيَّة تطوّر المجتمعات العربيَّة، فتقوم باعتماد تعبير "المدنيَّة" بحجّة أنَّها لا تريد استفزاز الرأي العام أو المرجعيات الدينيَّة، وأنَّ تعبير "العلمانيَّة" مرفوض في هذه المجتمعات ولا يمكن جذب الناس إليه.

الفئة الثانية مؤلّفة من "الطائفيّين". وهؤلاء يشكّلون الفئة الأخطر. فهم يستعملون مصطلح "المدنيَّة" تارة من أجل إبعاد الشبهة الطائفيَّة عنهم، و تارة من أجل تغيير معادلات سياسيَّة واجتماعيَّة لمصلحتهم الطائفيَّة، وطورًا من أجل المناورة السياسيَّة بهدف الكسب الطائفي - السياسي أو لمحاولة الخروج من أزمة تلمّ بهم. وغالبًا ما يكون هؤلاء، سياسيّون كانوا، أم مثقّفون أم أبواق، يخدمون ما كان المفكّر والسياسي موريس الجميّل قد أطلق عليهم في خمسينيات القرن العشرين صفة "النيو - إقطاع - سياسي"، والذي يُعدّ أخطر وأخبث من الإقطاع التقليدي، ذلك أنّه يجمع في ذاته، قيم الإقطاع القديم، والاستعداد الدائم لخدمة الأجندات الأجنبيَّة، وقيم التعصّب الطائفي العنصري، وإرادة سحق وإفقار وتسخيف الشعب بشكل دائم للمحافظة على مركزه وسطوته على الناس وموقعه في النظام الإقطاعي - الطائفي المتحالف مع السلطة الدينيَّة وحيتان المال.

الفئة الثالثة هُم الإسلاميُّون الذين، وبعد أنْ اصطدموا بواقع ممارسة السلطة وتدبّر الشؤون الزمنيَّة واقعيًا، أدركوا ولمسوا فشل مشروعهم الإسلامي بشكل كبير، فما كان منهم إلّا أنْ أخفوا مشروعهم الإسلامي - بما يعنيه من أسْلَمَة الدولة والمجتمع - بستار "المدنيَّة"، الذي يبدو يستخدمونه بأوجه شتّى. فمدنيَّة الإخوان المسلمين في مصر مثلًا كانت شعارًا لدولة أرادوها "ذات خلفيَّة إسلامية"، وكذلك الامر بالنسبة لحزب راشد الغنوشي في تونس.

فعندما يشعرون بالقوّة والتمكّن، يقوم الإسلاميُّون بإعلان مشروعهم جهارًا وصراحة: نريد الدولة الإسلاميَّة، وإحياء الخلافة، أو ولاية الفقيه، وتطبيق الشريعة الإسلاميَّة. أمّا حين يشعرون بالضعف والتراجع فيهربون فورًا إلى مصطلح "المدنيَّة"، طارحينه حلًّا وسطًا بين نموذج الدولة الدينيَّة ونموذج الدولة العسكريتاريَّة كما عرفتها المجتمعات العربيَّة منذ خمسينيَّات القرن العشرين. فهذا التيار الإسلامي يريد الخروج من نمط هذه الدولة العسكريتاريَّة، والتي يطلق عليها اصطلاحًا تعبير "النظام"، للدخول في مرحلة من "الدولة المدنيَّة" حيث هناك مصالحة ما بين "النزعة المدنيَّة" بما هي من إبعاد للعنصر العسكري (المترافق والتوجّه الديكتاتوري)، وفكرة "الإبقاء على الدين في المساحة العامة" من خلال أسلمة المجتمع والتشريع وشكل الحياة في الدولة. هذا تمامًا ما حاول أنْ يقول به الإخوان المسلمون في مصر وفي تونس بعد وصولهم إلى الحكم عشية ما عُرف بـ"الربيع العربي".

استعمال الدولة المدنية ضد العلمانية

إذا أتينا إلى اللغات الأجنبيَّة حيث تطوّر فيها علم السياسة تطورًا مُطردًا منذ كتاب "الأمير" لمكيافيللي، بخلاف اللغة العربية التي لم يشهد فيها علم السياسة أي تطوّر كما قال الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، فإنَّ تعبير الدولة المدنيَّة (Etat civil – Civil State) لا معنى له على الإطلاق. الأمر نفسه ينطبق على اللغات الجرمانيَّة. وحين استعمل جون لوك تعبير "المدني" (Civil) فإنَّه استعمله للحكومة وليس للدولة. الحكومة تكون مدنيَّة (عكس عسكريَّة)، أمَّا الدولة فهي بحسب لوك سيكولاريَّة (Secular State) وهي العلمانيَّة بنسختها الإنكليزيَّة.

إنَّ مشروع الدولة المدنيَّة بات الملجأ الوحيد حاليًّا، في مرحلة انسحاق المشروع الإسلامي في كلّ المنطقة وتكشّف ملامحه، لهؤلاء الإسلاميّين في هزيمتهم الثقافيَّة والحضاريَّة والسياسيَّة بدءًا من العراق وصولًا إلى تونس والمغرب. أمَّا بعض المفكّرين والمثقّفين، الذين يدّعون المدنيَّة، فإنَّهم يبرّرون دفاعهم عنه بوجه مفهوم "العلمانيَّة" بالقول أنّ هذا الأخير إنتاج غربي الهوى ولا يمكن تطبيقه في المجتمعات ذات الغالبيَّة المسلمة حيث لا كنيسة ولا كهنوت وحيث المجتمع لا يزال متمسكًا بتديّنه. غير أنَّ المحزن في هؤلاء المفكّرين "المدنيّين" أنّهم مستهلكون مفرطون، كما هي حال كلّ المجتمعات العربيَّة، للمنتجات الغربيَّة بمختلف أشكالها، لكن عندما يأتي الأمر إلى القيم المنتجة لهذه السلع التي يقومون باستهلاكها، نجدهم يضعون ألف حاجز وحاجز مُعيدين الكلام في "شرخ" – وصفه المفكّر الكبير جورج قرم بالـ"أسطوري" – بين الشرق والغرب، وأنّ ما يُعمل به في الغرب لا يمكن أن يُعمل به في الشرق، وكأنَّ كلتا المنطقتين تنتميان إلى كواكب مختلفة، وذلك بخلاف كلّ التاريخ الشاهد على مدى التلاقح الذي حصل ولا يزال بين شواطئ المتوسّط. فإذا كان هذا التلاقح قد تمّ منذ آلاف السنين، لماذا يبدو مستحيلًا في أيامنا هذه حيث بات الكوكب بفعل الثورة الرقميَّة والتكنولوجية وثورة الاتصالات بيتًا واحدًا.

العلمانيون

مقابل هذا التيار "المدني"، نجد على الضفة الاخرى مفكّرين علمانيّين وتيارات علمانيَّة لا يرون إمكانيَّة لخلاص المجتمعات العربيَّة إلَّا بالعلمانَّية. معتبرين "الدولة المدنية" تعبيرًا فارغ المحتوى وممالأة، وحتى تواطؤًا للتيَّارات الإسلاميَّة على اختلاف درجات أصوليّتها وسلفيّتها، يرى هؤلاء في العلمانيَّة هذا النهج العقلاني الثوري الذي بدونه لا إمكانيَّة للمجتمعات العربيَّة أنْ تقوم بنهضتها وبالتالي تحقيق نموّها المستدام. لا مجال من الآن فصاعدًا بالنسبة إليهم للمواربة أو للتحايل. على مجتمعاتنا أنْ تواجه مشكلتها المتمثّلة بوهن العقلانيَّة. هذه الأخيرة لا إمكان لنموّها إلَّا في مجتمعات لديها الإرادة بالتغيير والخروج من التقليد. وبالتالي يجب الفصل بين الدين كمنظومة وبين الدولة والمجتمع. هذا في المبدأ. العلمانيَّة عندهم ليست مفهومًا غربيًا، بل هي مفهوم إنساني كوني، يطبّق في المجتمعات العربيَّة بما يناسب واقعها، تمامًا كما طُبّق ويطبّق في المجتمعات الأوروبيَّة والاميركيَّة والآسيويَّة وبعض الإفريقيَّة. فلا ديموقراطيَّة ولا مواطنيَّة ولا عيش معًا ولا نمو مستدام ولا حداثة ولا تداول للسلطة ولا ترميم لكرامة الفرد ولا تحرّر للمرأة ولا خروج من فكرة الجماعة الأكثريَّة والجماعة الأقليَّة إلَّا في العلمانيَّة التي هي الإسمنت الجامع لكلّ هذه المنظومة الديموقراطيَّة المواطنيَّة القائمة على المساواة والعقلانيَّة وفكرة أنَّ الفرد هو قيمة مطلقة.

عندما كنتُ في تونس في أيلول الفائت متكلّمًا في "علمانيَّة من عندنا" ومنتقدًا فكرة "الدولة المدنيَّة" لما تحمله من غموض وإبهام، وكان ذلك في مؤتمر حول الحريَّات استقبله بيت الحكمة في قرطاج، اقترب منّي رجل مسن، وهو السيّد رضا تليلي، وهمس في أذني التعريف التالي للدولة المدنيَّة: "عندنا في تونس، الدولة المدنيَّة هي نتيجة التسوية الانتهازيَّة ويمكن القول التنازل المتبادل بين العلمانيّين التونسيّين والإسلام السياسي في تونس وذلك بهدف تقاسم السلطة بعد ثورة 2011. وهذا شكل سياسي مختلق من أجل إخفاء الخبث السياسي الموجود في تونس"، ثمّ أهداني كتابًا صادرًا في ذكرى وفاة والده المفكّر والمناضل الديموقراطي التونسي أحمد تليلي، ثمّ أضاف، طالما الإسلاميُّون ضعفاء فستجدهم يختبئون خلف مصطلح "الدولة المدنيَّة". ولكنّ عندما يشعرون بالقوّة من جديد، فإنَّ دولتهم المدنيَّة ستصبح فورًا إسلاميَّة بما يضرب مفهوم المواطنيَّة والمساواة والحريات. من هنا، فإني أسمح لنفسي القول: "حذارِ من خدعة الدولة المدنيَّة" فإنها ليست إلَّا مرحلة عند الإسلاميّين الضعفاء اليوم لينقضّوا على الدولة والمجتمع فيما بعد فارضين تصوّرهم للحياة وللدين وللدولة وللمجتمع ولكلّ شيء.

علمانية لبنانية مشرقية أو نظام تعددي

أمَّا فيما خصّ الدعوات إلى الدولة المدنيَّة في لبنان، فأقول أيضًا: حذارِ ممّن يريدون نزع الصفة العلمانيَّة عن هوية دولتنا. إنَّ الدولة اللبنانيَّة، كما يقول الدستوري الكبير إدمون ربّاط هي علمانيَّة في هويّتها، وكلّ ما يرد في دستورها من بنود تكرّس الطائفيَّة فإنها ذات طبيعة مؤقّتة. لكلّ اللبنانيّين الراغبين ببناء دولة ذات ديمومة وازدهار وعزّة أقول: حذارِ من أيّ دعوة للتنازل عن علمانيَّة دولتكم تحت مسميًّات "المدنيَّة" التي تريد أخذ البلد نحو شكل طائفي رأينا كيف مارسه أنفسهم الذين يطالبون بهذه "المدنيَّة" مهما كانوا. وإنْ لم يستطع اللبنانيّون تطوير علمانيّتهم الخاصَّة بهم وعيشها وتطبيقها في حياتهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة فعليهم أنْ يكونوا صادقين مع انفسهم وأنْ يختاروا نظامًا يتلاءم وتنوّعهم الطائفي بما لا يسمح لطائفة بالهيمنة على أخرى.

لا مستقبل من دون وضوح وصدق وصراحة. فإمَّا علمانيَّة لبنانيَّة مشرقيَّة متناسبة وواقعنا وحاجاتنا وتنوّعنا ومستقبلنا وكرامة الإنسان البشري، وإمَّا نظام يكرّس التنوّع الطائفي بما يعنيه من اعتراف بعدم القدرة على العيش معًا على أساس المواطنيَّة واقتصار هذا العيش على تعايش كونفدرالي بين جماعات طائفيّة متعدّدة لكلّ منها تصوراتها للحياة وللدولة وللمجتمع وللإنسان. أمَّا عمليَّات التحايل فإنَّها لن تأخذنا إلَّا إلى مزيد من التقهقر والمشاكل وربما الحروب. فلنستعِد كلمة رئيس الجمهوريَّة اللبنانيَّة ميشال عون في مؤتمر "الديموقراطية" العام الفائت (2018|) حين قال بما معناه أنّه لا مناص لتحقيق الديموقراطيَّة والمساواة من إقامة "الدولة العلمانيَّة". فلماذا، ولمن نتنازل عن مشروع الدولة العلمانيَّة لصالح مشروع دولة مدنيَّة مبهمة؟

أستاذ جامعي متخصص في التاريخ وكاتب في "اليوم الثالث"