التاريخ: كانون الأول ٢٩, ٢٠١٠
 
عودة المسألة الاجتماعية إلى تونس

الاربعاء, 29 ديسيمبر 2010
توفيق المديني *


شهدت تونس خلال الأسبوع الماضي احتجاجاً اجتماعياً لافتاً في محافظة سيدي بوزيد (265 كلم جنوب العاصمة تونس)، على أثر إقدام المواطن محمد بو عزيزي (26 عاماً) وهو خريج جامعة وعاطل من العمل على إحراق نفسه إثر تعرّضه للضرب على يد شرطيّ بلدية صفعه على مرأى الجميع في سوق المدينة، بعدما رفض الامتثال لأوامر بحجز الغلال والخضروات التي كان يبيعها على عربة مجرورة من دون حمل ترخيص من البلدية.


وقد شكلت هذه الحادثة الشرارة الأولى للزلزال الاقتصادي والاجتماعي الذي ضرب هذه المحافظة التونسية النائية الواقعة في الجنوب الغربي على الحدود التونسية – الجزائرية، وقادت إلى تفجير انتفاضة شعبية ذات طابع اجتماعي عمّت المدن والبلدات التونسية في تلك المحافظة، وكان يقودها الشبان العاطلون من العمل الذين عمدوا إلى احتلال المقر الإقليمي لمقر الاتحاد العام التونسي للشغل، وإضرام النار في مقرات حزب التجمع الدستوري الحاكم. وهو ما أدّى بالسلطات التونسية إلى مواجهة هذه التظاهرات باستخدام العنف، الأمر الذي نجم عنه مقتل شاب، وجرح العشرات.


قبل سنتين، وتحديداً في مطلع 2008، كانت محافظة قفصة التي تقع هي أيضاً في الجنوب التونسي، والتي اشتهرت تاريخياً بأعمال استخراج الفوسفات من أرضها وفق الطريقة النموذجية للأنماط الاستعمارية الفرنسية، قد شهدت كذلك ما بات يعرف بانتفاضة الحوض المنجمي، التي شارك فيها عمّال المناجم وعائلاتهم، والعمال والعاطلون من العمل وطلاّب المدارس. وكانت العناوين الرئيسة لهذه الانتفاضة الشعبية، تتمثل في الاحتجاج ضد مظاهر الفقر المدقع وارتفاع الأسعار، وانتشار ظاهرة البطالة، وضد الفساد المستشري في نظامٍ محلّي يقوم على التحالفات الزبائنية، والعصبيات القبلية والعائلية.


القارئ الموضوعي لهاتين الانتفاضتين الشعبيتين، يصل إلى نتيجة محددة وهي أن جذرهما واحد، وهو اقتصاديٌّ اجتماعي بامتياز ينبعث من هيمنة الشعور بالظلم، في ظل تفشي أزمة البطالة، لا سيما بطالة حاملي الشهادات الجامعية من الشبان. فإلى جانب الثروات التي جلبتها العولمة الليبرالية، التي انخرطت فيها تونس منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، والتي استفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.


وجاءت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي لها تأثيرات مباشرة في الاقتصاد التونسي، لتعمق الشروخ والتشققات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتكون لها إسقاطات مدمرة على حياة ووسائل عيش الفئات الاجتماعية الفقيرة والعاطلين من العمل.


خلال التسعينات وبداية الألفية الجديدة كثر الحديث عن «معجزة» الاقتصاد التونسي، وعن أن تونس تحولت إلى نموذج ناجح للتنمية يُحتذى، وهو ما تحاول المعطيات الماكرو-اقتصادية الترويج له. وهذا ما جعل تونس تحظى بسمعة جيدة في المجال الاقتصادي، لا سيما من جانب المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية بعامة.


غير أن مع مرور الوقت، بدأت تتكشف نقاط الضعف الهيكلية التي تعاني منها «المعجزة التونسية»، إذ أخفقت في تحقيق قفزة في النمو الاقتصادي، كما أن الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي نمت في ظل العولمة الليبرالية، والتي كانت مفتاح وأساس نجاح التنمية، تعيش الآن مرحلة الطحن الطبقي في ظل تراجعها الكبير، حيث إن أفراد هذه الطبقة دفعتهم الظروف الاقتصادية إلى البحث عن أعمال إضافية، فضلاً عن أن أكثرية أفرادها يعيشون بالقروض، كما أن الجرح الآخر النازف للاقتصاد يتمثل في ازدياد عدد العاطلين من العمل من صفوف خريجي الجامعات بنسبة عالية جداً، وإن كانت الحكومة تتحدث عن نسبة 17 في المئة.


والأزمة الاجتماعية الآن تكمن في سوء توزيع الثروة ومنافع التنمية، وتفاقم البطالة والفقر والفروق الاجتماعيّة، لدرجة أنّ الكثير من الشبان يموتون في قوارب بحثاً عن هجرةٍ إلى الضفة الشمالية للمتوسط. إضافة إلى أن الفلاحين قَحُلَت أرضهم بسبب الجفاف، فضلاً عن تراجع أهمّ إيراد للطبقات الفقيرة وهو تحويلات العمّال المهاجرين.


ففي ظل الأزمة الحالية، يلمس المراقب في تونس تراجعاً كبيراً في دور الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي لعب في السبعينات والثمانينات دوراً أساسياً في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمال والطبقات المتوسطة، كما لعب دور الحزب المعارض من خلال الاشتباك مع السلطة حول موضوع الحريات الديموقراطية. وكان من تداعيات ما يسمى بـ «المعجزة التونسية» انحسار موجة المدّ الديموقراطي في البلاد، حين استخدمت السلطات الحجّة المستمرّة المتمثلة في محاربة الحركة الإسلامية الأصولية، لإقفال الباب أمام الحريّات العامّة، ومنع أيّ نضال اجتماعيّ مشروع، وقمع قوى المجتمع المدني في الداخل، والذي وصل إلى حدود غريبة.


والمعروف أن أكثر ما ميّز تونس عن كثير من مثيلاتها في العالم العربي، ذلك الترابط بين النضالات من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والنضالات المتعلقة بالحريات الديموقراطية من أجل بناء دولة القانون وإرساء مجتمع مدني حديث وعادل.

* كاتب تونسي.