|
|
التاريخ: كانون ثاني ١٧, ٢٠١٩ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
السودان يثور على مؤبد لا يستحقه - صالح عمار |
حين تولى الرئيس السوداني عمر البشير السلطة في بلاده كان الإتحاد السوفياتي وزعيمه ميخائيل غورباتشوف لا يزالا موجودين، وجدار برلين لم ينهار بعد، وجورج بوش الأب يحاول إثبات ذاته كرئيس للولايات المتحدة بعد سنوات حافلة من إدارة رونالد ريغان. ولم يكن أحد ممن يعرف الطفل مارك زوكبيرغ إبن الخامسة من عمره يتخيل أن عبقريته ستصل لإكتشاف يغير حياة البشرية وسلوكها (الفيس بوك)، ربما ببساطة شديدة لأن الانترنت دخل الفضاء العام بعد سنوات على وصول البشير للرئاسة!
ليس هناك أكثر ما يشرحُّ الانتفاضة المتواصلة الآن في السودان، من هذه المقارنات المثيرة عن رئيس وصل إلى السلطة في عهد سابق لإستخدام شبكة الإنترنت يحكم شعباً 60٪ من سكانه تحت سن الـ24 عاماً! ذلك أن البشير هو الديكتاتور الأطول حكماً حالياً بين كل رؤساء العالم بالشراكة مع الرئيس الأوغندي يوري موسفيني. وحالة الغضب السائدة الآن بين أغلبية السودانيين مُوجهة إلى حكم رجل واحد أدار أحد أكبر بلدان العالم مساحة ووفرة في الموارد، من خلال ايديولوجيا ليس في أجندتها حرية الإنسان وتوفير ضروريات الحياة، بل بدا أن جُل اهتمامها التعجيل بنقله إلى الحياة الأخرى حيث تنتظره الجنة.
ومحصلة هذا الوضع بعد ثلاثين عاما من حكم البشير إنسداد كل أفق بحيث تسودُّ قناعة راسخة بين ملايين السودانيين الذين يعيشون أسفل خط الفقر، وبدرجة أكبر بين الشباب الذين ولدوا في سنوات حكمه، أن كل الابواب مغلقة أمامهم، ولم يعد هناك ثمة أمل في قادم السنوات ولذلك تُشارك أعداد كبيرة منهم منذ أسابيع في التظاهرات المطالبة برحيله.
ولفقدان الأمل هذا جذور عميقة كان آخرها الإعلان المفاجئ والمبكر في آب (أغسطس) عام 2018 عن إعادة ترشيح الرئيس لدورة رئاسية جديدة في الإنتخابات المقرر إجراؤها في العام 2020 رغم أن الدستور لا يعطيه الحق في الترشح من جديد بعدما أكمل دورتين. وبإعلان رغبته الإستمرار في حكم البلاد، تسبب البشير في خنق الحياة السياسية وأغلق الابواب أمام كل المبادرات المطروحة للإنتقال السلمي للسلطة. ولم يعد أمام السودانيين المتطلعين لعهد جديد من حلٍ سوى البحث عن بدائل أخرى غير الإنتخابات، أو انتظار نهاية ولايته المقبلة بعد ست سنوات. والبشير ديكتاتور بالمجان، أي لا يُوفر للسودانيين أي دافع للصبر بعد ثلاثين عاماً من التجربة، وقد فقدوا أبسط مقومات الحياة مثل الخبز الذي بات عُملة نادرة في سودان اليوم. يكفي فقط أن السودان حالياً يتنافس مع فنزويلا في الإرتفاع السريع للاسعار (التضخم)، وأن حكومته لا تستطيع توفير إحتياجات الحياة مثل الخبز والوقود وحتى الماء.
وكل الدلائل الموضوعية تُشير بما لايدعًّ مجالاً للشك إلى أن فرص تحقيق تحسن إقتصادي بالإعتماد على القدرات الذاتية في ظل هذا الوضع تبدو منعدمة لأن البلد في حالة إفلاس ودين داخلي وخارجي ثقيل. ولن يُقدم له الإقليم والعالم مُساعدات إلا للحالات الإنسانية الطارئة لأسباب عديدة منها مُذكرة القبض الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (2009) وتنقله بين المحاور الإقليمية المتصارعة مما جعل كل الدول تتعامل معه بريبة، على رُغم مشاركة السودان بأكبر جيش في حرب اليمن بالوكالة عن السعودية والإمارات وتقديمه معلومات ثمينة للمخابرات الاميركية والاوروبية، وتنازلات حتى عن أراضي دولته للجيران لكسب رضاهم.
ولا يتمتع البشير بقدرات فردية أو كاريزما يمكن الإعتماد عليها بما يشبه الضوء في نهاية النفق. ووفقاً للراحل حسن الترابي زعيم جماعة "الإخوان المسلمين" التي دبرت إنقلاب (30 يونيو 1989)، تولى أفراد التنظيم ترتيب كل خطوات الاستيلاء على السلطة، ووضعوا البشير على رأس الإنقلاب كصاحب رتبة عسكرية، وكان إسمه الثالث في قائمة المرشحين للقيادة. وحتى مطلع عام 2000، وبإعترافه شخصياً، كان التنظيم الاخواني يُدير كل شيء. وهناك عبارة منسوبة للترابي في تلك المرحلة، وهي "أن البشير هبة السماء". غير أن ديناميكيات وتقلبات الوضع السياسي في السودان كانت تخبئ في نهاية المطاف واقعاً آخر، فقد إنشق التنظيم الإسلامي على نفسه بسبب الصراع على الزعامة، واستفاد البشير من الخلافات فأزاح الترابي عن السلطة بمعاونة نائبه علي عثمان محمد طه الذي ظل ممسكاً بمعظم الملفات المهمة حتى العام 2006 حين خلفه نافع علي نافع في اداء نفس الدور. بكلام آخر، لم يمتلك الرئيس السوداني كاريزما وإحتراماً حتى وسط النخبة الحاكمة رغم إضطرارهم في معظم الاحيان للإنصياع لتوجيهاته شكلياً.
والذي ساعد على إستمرار العلاقة بين الإسلاميين والرجل حتى اليوم هو تفويضه الكامل للوزراء والمساعدين في قضايا اساسية مثل الإقتصاد والتعليم والصحة وتركيز إهتمامه على الإمساك بالملفات العسكرية والامنية، ويصلح هذا كدليل على إفتقاده لمشروع حقيقي لإدارة الحكم. ولهذا السبب إتسمت سنوات حكمه بالتخبط والعشوائية وتجريب كل الشعارات والنظريات وهو ما فتح لمساعديه والموالين له، مجالاً لخصخصة مشوبة بالفساد، إلى درجة أن معظم المنشآت القليلة المتبقية اليوم وذات القيمة مرهونة للشركات الاجنبية، والصينية منها على وجه التحديد.
وفي سياق الحديث عن الفساد، يمكن الجزم أن كل الخيوط تنتهي عند أفراد عائلته. فالاسرة المكونة من عشرات الاشقاء والشقيقات وأحفادهم وأقاربهم تعمل بأكملها كوسيط مالي لكل من أراد الثراء والإستمرار في السوق السودانية. كانت صحيفة الغارديان البريطانية نشرت في العام 2010 معلومات عن إمتلاك البشير لتسعة مليارات دولار في بنوك بينها Lloyds Banking Group. ومع أن وجود مبلغ كهذا في خزينة البشير وأسرته يبدو مُجانباً للمنطق بالنظر إلى الفقر المدقع الذي يعيش فيه السودانيون وإفلاس خزينة الدولة، إلاّ ان الدهشة تزول إذا تذكرنا أن حكومة البشير حصلت على (70) مليار دولار من عائدات النفط بين الاعوام 1999 وإلى 2014 حين توقف ضخ البترول بسبب الصراع في جنوب السودان.
وأكثر من ذلك، ومع أن خزينة الدولة مفلسة لاقصى حد ويقوم افراد الامن بنهب أموال الافراد والشركات بالقوة تحت حجة إيداعها في البنوك، إفتتح قبل فترة قصراً جديداً لافراد أسرته يحتل مساحة تُقدر بنحو 15 الف متر مربع في أحد أهم مواقع الخرطوم. وفي القصر أدوات ترفيه غير معهودة لدى السودانيين مثل ملاعب الغولف، وكلف تشييده اكثر من 25 مليون دولار وتم إستجلاب معظم مواده من خارج البلاد وبخاصة من تركيا والصين وماليزيا، وتولت شركة تركية تصميمه والإشراف على بنائه".
ومع ذلك، تظل أكبر أخطاء البشير الأخلاقية والسياسية على الإطلاق هي الحروب والإبادة على أسس دينية وعرقية ضد اهالي جنوب السودان ودارفور والتي كانت نتيجتها تصويت 99% من سكان الجنوب لصالح الإستقلال عن الدولة التي يديرها الرجل بعد فقدان مليونين من أرواح البشر فيما لاتزال "حمامات الدماء" تسيل في دارفور مسرح أكبر جريمة إبادة في القرن الواحد والعشرين والتي بسببها أصبح مطلوباً للعدالة الدولية. وهو رئيس الدولة الوحيدة المطلوب لدى المحكمة أثناء وجوده على سُدة السلطة!
ولا يُكلف البشير نفسه إبتداع أساليب عقلانية في مواجهة المحكمة المستندة على قرار من مجلس الامن الدولي سوى سلاحه المُفضل والمكرور تهييج المشاعر القومية والدينية للسودانيين والزعم بان المحكمة تستهدف الافارقة. بينما الزعماء الافارقة الاكثر إحتراماً لشعوبهم ومصالحها يسلكون طريقاً مختلفاً على شاكلة أوهورو كنياتا رئيس كينيا والذي وافق طوعاً على الوقوف امام المحكمة وحصل على براءته من إتهاماتها. وجنبّ بذلك شعبه خسائر إقتصادية وسياسية كبيرة كانت ستكون شبيهة بتلك التي يدفعها السودانيون الآن. غير أن البشير إختار أن يقتفي أثر روبرت موغابي الذي رحل عن السلطة بعد أن دمر زيمبابوي وكل رصيده المعارك الكلامية مع الغرب والطرق على ثنائية السود والبيض والتذكير بتاريخه النضالي بالتزامن مع فشل كامل في إدارة الدولة.
وليس هناك من دليل على أن البشير وصل لمحطته النهائية أكثر من تخبطه الآونة الاخيرة بين الدول والاحلاف. فعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2017 ان البشير طلب منه إقامة قاعدة روسية على البحر الاحمر وحمايته من اميركا. وقبل أسابيع وصل بشكل مفاجئ إلى العاصمة السورية بعد سنوات من القطيعة معها، وكأول رئيس عربي يصل دمشق التي يقاطعها كل جيرانها تقريباً. وفي الوقت ذاته، أعلنت إسرائيل أكثر من مرة أن السودان يتفاوض معها ووافق على فتح مجاله الجوي أمام طيرانها. ويطير وزراؤه وهو في معيتهم بمناسبة ودون مناسبة (كحضور إفتتاح أجزاء جديدة في مطار إسطنبول او مباراة لكرة القدم مع أسرته في موسكو) بين عواصم دول متصارعة ومع ذلك ترفض جميعها مساعدته حتى بمجرد سفينة وقود او قمح.
ولنظام البشير تاريخ حافل من العداء والحروب مع جيرانه؛ ففي عقد التسعينيات دخل في حروب وصراعات مباشرة مع أثيوبيا وأوغندا واريتريا ومصر والسعودية وعدد آخر من الدول المناهضة لمشروع تصدير الإرهاب والتطرف إلى اراضيها. ولاتزال الكثير من البلدان تنتابها الشكوك حول مساهمة السودان في تهديد إستقرارها.
وبعد 30 عاماً من حكم البشير وقد بات في أواخر السبعينات من عمره، يبدو مسار الأحداث مغايراً لما يشتهيه الرئيس السوداني. شعبه وجيرانه ومعظم دول العالم ضده وقد زفت ساعة الرحيل. لكنه وكغيره من الطغاة لايريد أن يُصدق ذلك ولايزال يهزُّ بعصاه راقصاً على جماجم ضحاياه ويرفض التعاطي مع الواقع بعد أن مرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر إلى درجة أن رجال الدين حلفاءه الاوفياء إنقلبوا عليه تحت ضغط الشارع، ويؤيد عدد كبير منهم خلعه بفتاوى شرعية. ومع ذلك فلن تنتهي مشاكل السودان وأزماته برحيل البشير. والسؤال الذي يشغل الاذهان لكل المهتمين هو: هل سيكون الإنتقال سلساً أم سينجرف السودان إلى طريق الخراب؟ بالطبع لاتوجد إجابة شافية على السؤال لكن يتوقف الامر على النخبة السودانية ومدى نجاحها في توحيد التيارات المختلفة وأجندة الدول الإقليمية والعظمى.
وما يبعث على الإرتياح أن السودانيين بتنوعهم العريض وتناقضاتهم المعروفة يتوجهون للوحدة في كيانات كبيرة هذه الايام. وإيقاع التصريحات والمواقف كلها تسير متناغمة نحو التمسك بالإنتقال السلمي الذي يضمن مشاركة أكبر قطاع من السودانيين في إدارة بلادهم.
شعب السودان (حوالى 40 مليون نسمة) وشبابه يُقاتلون في هذه اللحظة ببسالة لانظير لها وهم عُزل أمام رصاص الأمن. لكنهم أيضاً على يقين بأنهم سينجزون ثورتهم وحدهم دون مساعدة مادية من أحد. جُلّ ما يأمله الثوار من الدول الغربية إستخدام الوسائل الديبلوماسية والاقتصادية المتاحة، لتسهيل الانتقال من حُكم الرجل الواحد، نحو الديموقراطية في هذا البلد.
صحافي سوداني حاصل على جائزة Thomson Foundation للعام 2016 - نائب رئيس تحرير صحيفة (التغيير) السودانية |
|