التاريخ: كانون ثاني ١٦, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
نظام الطائف أنعش السلام وخنق الاقتصاد - غسان العيّاش
القاعدة السارية في الخطاب السياسي هي تلافي الانتقادات الجوهرية لاتفاق الطائف.
لقد أرسى نظام الطائف توزيعا طائفيا جديدا في السلطة بعد حرب أهليّة مديدة، ويُخشى أن تعتبر الدعوة إلى مراجعة أحكامه تحريضا ضمنيّا على إحياء الاقتتال أو اللعب بالتوازنات الدستورية الطائفية المستقرّة منذ نهاية الحرب.

لكن الحرص على السلم الأهلي لا يجوز أن يجمّد العقل ويمنعه من البحث في إصلاح النظام، عندما يُظهر خللا في آلياته أو يتبيّن أنه يُلحق ضررا فادحا بالحياة الوطنية.

الطائف، بالكاد، حقّق نوعا من السلام بين الفئات اللبنانية. مع أن العلاقات الطائفية السياسية ليست مستقرّة وهناك، على الدوام، اجتهاداتٌ وتفسيراتٌ متباينة أدّت إلى انسدادات متوالية في شرايين النظام، تمثّلت بتعطيل المؤسّسات الدستورية تباعا، الواحدة بعد الأخرى.

وبما أن مشكلة لبنان الأولى اليوم هي مشكلةٌ اقتصادية، والمخاطر الداهمة هي مخاطر مالية لا يعرف أحدٌ مداها، فهناك ما يبرّر ترك هذا البحث السياسي الطائفي جانبا وطرح الموضوع من زاوية أخرى: أي اقتصاد لبناني أنتجه عصر الطائف، وأيّة إدارة اقتصادية أفرزها النظام الجديد؟

من دون الغوص في تفاصيل الأرقام التي يتداولها اللبنانيون كل يوم، لا حاجة إلى التأكيد على أن النتائج الاقتصادية والاجتماعية في ربع القرن الأخير تشكّل فشلا ذريعا للنظام. وإذا كان نظام الطائف قد خلّص البلاد من حرب المدافع، فقد وضعها بالمقابل أمام أخطار الحروب الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن احتمالات إفلاس البلد، للمرّة الأولى في تاريخه.

نموّ ضعيفٌ ومديونية هائلة، بحيث ان نموّ الدين العام بلغ ثلاثة أضعاف النموّ الاقتصادي منذ بداية التسعينات وحتى اليوم. خلال السنوات الإحدى عشرة الماضية تضاعف الدين العام أمام أعين اللبنانيين، رغم الدعوات اليومية إلى لجم العجز المالي وتحقيق الإصلاح. البطالة إلى ارتفاع ومستوى المعيشة إلى انخفاض، الفقر يتزايد ويضمّ تحت عباءته كل يوم أعدادا جديدة من اللبنانيين. بنية تحتية متهافتة وخدمات عامّة تقترب، أحيانا، من العدم. عجز فاضح عن مواجهة مشاكل الكهرباء والنفايات والصحّة والتعليم الرسمي، بمختلف مستوياته... إلى آخر السلسلة المعروفة من الإخفاقات.

يجب ألّا نخشى القول بأن هذه النتيجة ليست فشلا للأشخاص الذين حكموا، فقط، بل هي، بالدرجة الأولى، فشلٌ للنظام ذاته.

لا يعني ذلك دعوة للرجوع إلى النظام السابق، الذي قاد البلاد إلى الفوضى والتقسيم والاقتتال. المقصود أن الدستور الذي وُضعت ركائزُه في مدينة الطائف، كما طُبّق، هو الذي مهّد لسقوط الدولة وماليتها واقتصادها وخدماتها على هذا النحو المريع، لأنّه قضى على وحدة السلطة وأسّس دولة برؤوس كثيرة، ووزعها مراكز نفوذ ومنافع على "بارونات" الطوائف.

صحيحٌ أن الدولة أرضٌ وشعبٌ وقوانين وسيادة، ولكنّها أيضا مشروعٌ اقتصادي اجتماعي، يهدف إلى تحقيق الرخاء والاستقرار للمواطنين ويؤسّس لمستقبل مطمئن للأجيال الآتية. ولا يستقيم مشروع اقتصادي، خاص أو عام، إلا بوحدة الرأس والإدارة. وطالما أن قادة البلد، كما أثبتوا، لا يتوحّدون طوعا إلا على التقاسم غير المشروع للمنافع، فإن دستور الطائف، عندما أطلق النار على وحدة السلطة وأرداها، جعل اللبنانيين ومصالحهم جسدا ضعيفا يتطاير وسط العواصف الهوجاء.

إذا كانت العودة إلى النظام القديم مرفوضة وخارج البحث، فالواجب يقضي بابتداع الحلول الخلّاقة لإدارة البلد بطريقة جديدة، مثل التوزيع الجدّي والحقيقي للإدارة الاقتصادية والاجتماعية بين سلطة مركزية وسلطات محلية.

أو أن يضمن الدستور بصورة قاطعة وجود موالاة ومعارضة، على أنقاض المفهوم السطحي الراهن للميثاقية. إن التوسّع في تفسير الميثاقية جعل تمثيل كل القوى في الحكومة شرطا لازما لتشكيلها، مما جعل الحكومات ساحة للصراع السياسي الدائم، أو سوقا لتقاسم المنافع، فحال ذلك دون قيام موالاة تحكم ومعارضة تراقب وتصوّب المسار.