| | التاريخ: كانون ثاني ١١, ٢٠١٩ | المصدر: جريدة الحياة | | السادات... الداهية أم المغامر؟ - خالد عزب | إن دهاء السادات بات هو الحاكم لتصرفاته من 1970 إلى 1973، فقد تمرَّس في السلطة، وفي السياسة عموماً. أولى العواصف التي واجهته عقب توليه الحك خلفا لعبدالناصر، أطلقها كبار رجال الدولة الذين رأوا أن المنصب أكبر من هذا الرجل، فتركهم حتى تقدموا باستقالاتهم لإسقاطه من على كرسي الرئاسة، فقبل تلك الاستقالات، على عكس توقعاتهم بأن يفرضوا عليه شروطهم أو ينحوه جانباً. طرح مبادرة لفتح قناة السويس وحشد قواته على خط القناة أكثر من مرة، فباتت صدقيته أمام العدو مهتزة وأنه لا يستطيع أن يتخذ قرار الحرب، حتى نقلت هذه القناعة للشارع فاشتعلت التظاهرات المطالبة بشن الحرب بعد أن أعلن أنه أرجأها «بسبب الضباب»! هنا هو كان يغامر بشخصه وشعبيته، حتى صارت الوثائق والتقارير الغربية والإسرائيلية تشكك في قدرته على الحرب، مؤكدة ذلك عبر سعيه للمفاوضات مع إسرائيل للانسحاب إلى خط المضايق في سيناء. ورغم تسريب أخبار إلى إسرائيل عن أن السادات سيشن الحرب يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973، إلا أنها لم تتتعامل معها بجدية كافية، وظنت أنها مجرد مناورة أخرى تنتهي إلى لا شيء.
أدرك السادات في منتصف الحرب أنه لم يعد يواجه إسرائيل وحدها، فأصبح عليه القبول بما حققه، لذا دخل في مفاوضات لتعظيم مكاسب الحرب. ثم اختار كلمات «خطاب النصر» الذي ألقاه أمام أعضاء البرلمان المصري، بعناية خصوصاً حين تحدث عن الدرع والسيف. فالدرع للدفاع والسيف للهجوم. وهو مثلاً حين يقابل صحافياً غربياً شرساً، كان يتعمد إشعال البايب ليأخذ وقتاً في التفكير في الرد على سؤال صعب، أو ليبعث في نفس الصحافي تساؤلات حول الرئيس وردوده أو يجعله يتوقع إجابة ما. استطاع السادات عبر قراءاته للأدب الغربي باللغة الإنكليزية فهم النفسية الغربية، وعبر قراءاته للموسوعة اليهودية كيفية التعامل مع اليهود. ففي نسخته من تلك الموسوعة تجده يضع خطوطاً تحت عبارات محددة، أو يخط علامات استفهام، ما يعني أنه يريد مراجعة هذا الأمر. ومن ثم فإن الذين أشاعوا عنه أنه لم يكن يقرأ، يبدو أنهم استبعدوا طبيعته المحبة للقراءة والكتابة والتأليف حتى أنه ترجم قصة من اللغة الألمانية وألَّف قصصاً؛ نُشر بعضها وبعضها لم ينشر.
وتكتسب زيارة السادات إلى القدس هذا البعد التاريخي الحاسم من أنها تعبر عن أول مواجهة لتحد حقيقي يرتبط بعملية صنع السلام في المنطقة، فليس هناك شك في أن تلك المبادرة مثَّلت نقطة تحول مهمة في أساليب العلاقات الدولية التي تعتمد على الاتصالات الشخصية للزعماء والقادة ليس فقط مع الحلفاء والأصدقاء، ولكن كذلك مع الخصوم والأعداء، ولذلك فقد وصف الكثير من المعلقين هذه الرحلة بأنها ثورة ديبلوماسية مثَّلت تطوراً جديداً في التعامل الدولي والقواعد الديبلوماسية، وواقعة ليس لها أي سابقة في التاريخ الديبلوماسي الحديث. فللمرة الأولى يذهب رئيس دولة إلى الدولة المعادية ويُستقبَل مثل هذا الاستقبال الرسمي وتخرج مئات الألوف من المواطنين لتستقبله وترحب به ثم يقوم هو بطرح وجهات نظره بوضوح وصراحة على الشعب من خلال البرلمان والأحزاب ووسائل الإعلام، ويدخل في حوار ساخن مع قادة السياسة والرأي ورجال الفكر يقارعهم الحجة بالحجة، ويطرح عليهم وجهة نظره المخالفة بثبات وشجاعة، وبأسلوب حضاري مبعثه الرغبة الصادقة في كسر الجمود وفتح الطريق نحو السلام ووقف نزيف الدم وتحقيق الآمال المشروعة للشعب المصري والشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي والأمة العربية. وكتبت مجلة «نيوزويك» الأميركية في عدد خاص لمناسبة انتهاء العام 1977 أن تلك المبادرة كانت اجتيازاً لسنوات من الكراهية والعنف وأن السادات أسرَ خيال العالم وقام بحملة شخصية لكسر الجمود في قضية الشرق الأوسط. وأضافت أنه في اللحظة التي صافح فيها السادات رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغين فإن الحرب بين إسرائيل والعرب أصبحت تبدو مستحيلة. بهذه الكلمات عبرت «نيوزويك» عن تقديرها لمبادرة السادات، واعتبرتها أهم رحلة في القرن العشرين.
أما ردود الفعل العربية تجاه زيارة السادات للقدس، فقد تراوحت بين التأييد والتحفظ والرفض. كانت الأطراف المؤيدة هي عُمان والسودان والصومال واليمن الشمالية. بينما تحفظت السعودية والأردن وتونس ولبنان والكويت وقطر والبحرين والإمارات واهتمت هذه الدول بأن تلعب دور الوسيط لتطويق واحتواء الخلافات العربية الناجمة عن الزيارة. أما مجموعة الرفض فقد ضمت العراق وليبيا والجزائر وسورية واليمن الجنوبية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت بعقد مؤتمر في طرابلس في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1977، جاء في بيانه أن الزيارة «تشكل انتهاكاً لمبادئ ومقررات مؤتمرات القمة العربية، وخروجا على وحدة الصف العربي وخرقاً لميثاق جامعة الدول العربية، وإخراجا لمصر من جبهة الصراع مع العدو الصهيوني».
ومن الواضح أن غالبية الاعتراضات اهتمت بالشكل دون الجوهر وركَّزت على كيل الاتهامات من دون ضابط أو رادع من ضمير يحاول أن يطرح القضية في قالب موضوعي بعيداً من المزايدات التي تتهم مصر بدفع العرب نحو الاستسلام. ولم يقتصر رد فعل قوى الرفض على ابداء المعارضة والنقد الحاد على المستوى الرسمي والإعلامي، انما أخذ بعضها على عاتقه تدعيم موقف الرفض داخل المنطقة العربية وتنسيق المواقف مع الاتحاد السوفياتي السابق.
إن المتتبع لحياة أنور السادات سيجدها تتراوح بين المغامرة والدهاء. هو مغامر حتى بحياته. وهو داهية يندر وجود مثيل له في الدهاء. أيُّ رئيس هذا الذي يأتي بعد جمال عبد الناصر بأسطورته الشعبية، ليذهب نحو البراغماتية السياسية المطلقة، ثم نرى الأيام تذهب مذهبه فيسقط الاتحاد السوفياتي السابق وتختل منظومة السياسة الدولية والعلاقات الدولية؟
ماذا لو ذهب الفلسطينيون معه ليحصدوا حصاد حرب 1973، أو قل ماذا لو كان العرب أخذوا موقفاً محايداً تجاه نزوعه للسلام مع إسرائيل؛
هل كانت سورية ستسترد الجولان؟ لو لم يطلق العنان لجماعة الإخوان المسلمين التي لم تعترف بالجميل له، فشنت ضده حملات عبر مجلاتها بخاصة «الاعتصام» ضد السادات لتمهد الأرض عبر المنابر لاستشهاده مغدوراً به، إن الدعاية المضادة من الاخوان أدت إلى هبوط شعبيته إلى حد غير مسبوق قبل اغتياله لتعود من جديد مع الأيام لتتصعد إلى حد الحنين إليه بشدة.
* كاتب مصري. | |
|