|
|
التاريخ: كانون الأول ١٤, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة الشرق الأوسط |
|
التسوية السورية على مفترق طرق - فيتالي نعومكين |
الآن وبعد أن هدأت ردود الفعل على نتائج اللقاء الأخير الذي عقد في آستانة حول سوريا، حان الوقت لمحاولة تقييم الوضع من دون انحياز. الدول الضامنة الثلاث تتحدث عن نجاح اللقاء. المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا يتحدث عن فرصة ضائعة. الأميركيون يؤكدون أن اللقاء كان فاشلاً ذلك لأنه لم يستطع تشكيل اللجنة الدستورية. فمن منهم على حق؟
قيل الكثير عن بعض النتائج المهمة التي تم التوصل إليها في هذا اللقاء. يكفي ذكر تشكيل مجموعة عملياتية مشتركة لـ«الضامنين» ستعمل بدءاً من فبراير (شباط) والتي يمكن أن ينضم إلى عملها ممثلون عن الحكومة السورية وعن المعارضة المسلحة أيضاً أو ذكر خطوط الفصل عن «هيئة تحرير الشام» التي حُددت على الخريطة وتم التوصل إليها من خلال العمل مع ممثلي المعارضة المسلحة أو ذكر أن أطراف النزاع استطاعوا أخيراً الجلوس خلف طاولة واحدة وجهاً لوجه. لكن الأهم، بحسب ما يبدو لي، أن اللقاء أكد الدور المهم لصيغة آستانة وأنها لا تزال تتطور، معطية دفعة جديدة لتطور التعاون بين روسيا وتركيا وإيران. في هذا الصدد يصبح من الأهمية بمكان محاولة إبراز أولويات السياسة الروسية تجاه سوريا:
أولاً - تبقى المهمة الأساسية هي اجتثاث «داعش» و«هيئة تحرير الشام» وغيرها من المجموعات الإرهابية. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد صرح وبشكل واضح من سنغافورة في بداية أغسطس (آب) بأن الأمر سيتطلب «القضاء على الإرهابيين في إدلب ممن لا يزالون هناك». روسيا تعوّل على منع عودة الإرهابيين من أصول روسية إليها، وهؤلاء عددهم ليس بالقليل بين المسلحين المتمترسين في إدلب، إذ يتراوح عددهم، أي المسلحين بشكل عام، في تلك المنطقة ما بين 15 ألفاً (حسب تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين) و70 ألفاً (حسب تقييمات الخبراء الأميركيين).
ثانياً - تقديم روسيا المساعدة في استعادة دمشق لسيادتها على كامل أراضي الدولة وسكانها وتعزيز قدراتها الدفاعية. وهنا يبرز السؤال حول مصير المنطقتين اللتين خارج سيطرة دمشق وهما إدلب ومنطقة شرق الفرات، حيث يهيمن العسكريون الأميركيون بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد عماد قوامها. بعض المحللين السوريين يشتبهون بأن لدى تركيا نية بضم إدلب. كما عبر لي عن ذلك أحدهم خلال حوار، بقوله إن الأتراك يرغبون في تحويل هذه المحافظة إلى «لواء إسكندرون جديد». حتى أن أتباع هذه الرؤية يستشهدون بسياسة «التتريك»، كمثال على ذلك، التي بحسب ما يزعمون تتبعها السلطات التركية في الحياة الاجتماعية لهذا الجزء من سوريا.
في روسيا يعوّلون على أن وجود القوات التركية في شمال سوريا مؤقت وتُمليه مصلحة تركيا في مكافحة المجموعات الإرهابية وضمان أمنها القومي. إلى هذه اللحظة ليس لدى موسكو أساس لكي لا تثق بالشركاء الأتراك الذين وقعوا مع روسيا وإيران على بيان اللقاء الأخير في آستانة، حيث تنص الفقرة الثالثة فيه على «حسمهم في مواجهة الأجندة الانفصالية الرامية إلى النيل من وحدة وسيادة الأراضي السورية» وكذلك التي تمثل تهديدات «للأمن القومي لدول الجوار».
أما فيما يتعلق بالتقييمات الروسية للأعمال العسكرية لقوات التحالف وقوات سوريا الديمقراطية على الضفة الشرقية لنهر الفرات ضد الإرهابيين، فإن رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فاليري غيراسيموف أشار خلال مؤتمر صحافي منذ فترة قريبة إلى أن نجاحاتهم تثير الريب، مصرحاً بأن الخلايا النائمة لـ«داعش» نشطت في هذه المنطقة وتوسعت دائرة نفوذها فيها. فإذا كان هذا فعلاً كذلك، فلماذا؟ هل لأنه يصعب على الأكراد التعاون مع العرب؟ أم لأن مقارعة مسلحي تنظيم داعش «المتخلفين عقلياً» الذين لا يردعهم الموت، مرعبة؟ أم لأنه يمكن الاستفادة من «داعش» في إضعاف الجيش السوري وكذلك لتبرير الوجود الأميركي في سوريا؟ مثل هذه التقييمات باتت مسموعة. السلطات الروسية واثقة بأن الولايات المتحدة لا تنوي القضاء على «داعش»، بل ترغب في تشكيل دويلة مستقلة خارجة عن سيطرة دمشق على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وهو درب لتقسم سوريا الذي لا يريد المشاركون في لقاء آستانة أن يسمحوا بتمريره.
هناك آراء أخرى. إن الانتصار على الإرهابيين بسرعة فعلاً أمر ليس بالسهل ولا يمكن لأحد أن يكون لديه أدنى شك في هذا؛ ففي مدينة هجين لوحدها، حيث بدأت العمليات في سبتمبر (أيلول)، كان يتجمع نحو ألفين من إرهابيي «داعش». وكما يرى الخبير في مجلس روسيا للعلاقات الدولية كيريل سيمينوف «إن اتهام الولايات المتحدة والأكراد في أنهم لا يستطيعون الانتصار على (داعش) ليس دقيقاً تماماً»، رغم أنه يبقى مبهماً لماذا شطت مدة هذه العلمية.
أما فيما يتعلق بتشكيل اللجنة الدستورية، وهي العملية التي أطلقتها روسيا، فإن الدبلوماسيين الروس يؤكدون أن الفرقاء سيتمكنون من التوافق عليها في الوقت القريب. من اللافت في هذا الإطار أن مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف، تحدث بعد اللقاء في آستانة، عن مساعدة روسيا للسوريين في خلق ظروف ملائمة للعمل على صياغة دستور جديد.
ثالثاً - بلا شك يبقى ضمان نظام وقف إطلاق النار والمساعدة في المصالحة الوطنية من أولويات موسكو. اليوم لا يمكن لأحد التشكيك في التراجع الكبير لمستوى العنف في البلاد بالإضافة إلى استمرار ازدياد عدد المجموعات المسلحة المنضمة لنظام وقف العمليات القتالية.
رابعاً - تقديم المساعدة في عودة اللاجئين السوريين. الخلافات بين روسيا وعدد من دول المنطقة من جهة وبين روسيا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى معروفة للجميع. موسكو ترى أنه من الضروري تقديم المساعدة لهذه العملية اليوم قبل الغد.
فحسب ما قال لافرينتيف: لقد عاد، حتى تاريخ انتهاء لقاء آستانة، قرابة 27 ألف لاجئ من لبنان وقرابة 25 ألف لاجئ من الأردن.
خامساً - تقديم المساعدة في إعادة بناء الدولة ما بعد الأزمة. هناك تناقض حاد بين موسكو والعواصم الغربية وكذلك بعض دول المنطقة حول هذه المسألة. الغرب لا يريد أن يقدم المساعدة لأولئك الذين يقطنون مناطق تقع تحت سيطرة دمشق، على الأقل قبل الانتهاء من العملية السياسية والتي يقصدون فيها تغيير النظام. في روسيا يرون أن معاقبة الناس الأبرياء فقط لأنهم يسكنون في هذه المناطق عمل غير إنساني وغير عادل، والبدء اليوم بإعادة بناء البنية التحتية في البلاد أمر ضروري للغاية، لأن ذلك يحتاج لسنوات من العمل.
أود الإشارة إلى بعض التغيرات التي طرأت على موقف موسكو تجاه التسوية السورية في الفترة الأخيرة. أولاً - إذا كانت الشخصيات الرسمية الروسية قبل فترة تفضل عدم التطرق إلى موضوع المعارضة المعتدلة فإن هذا المصطلح أصبح يستخدم الآن حتى تجاه أولئك الذين يحاربون ضد القوات الحكومية السورية. ثانياً - روسيا دخلت في اتصال وثيق مع المجموعات المسلحة المختلفة عبر مركز المصالحة والذي يقوده العسكريون الروس وأيضاً عبر ساحة آستانة. بالمناسبة واحد من أهم قرارات اللقاء الأخير في آستانة هو توافق الدول الضامنة على اقتراح وفد المعارضة المسلحة بأن يكون لها تمثيل في محادثات جنيف. بالطبع هذا لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال أن يضع تحت الشك مشاركة هيئة المفاوضات السورية المعترف بها وبمنصاتها الثلاث - الرياض والقاهرة موسكو.
من الواضح أن منظمي اللقاء أكدوا عدم صحة كل الأحاديث المزعومة بنيتهم استبدال جنيف بآستانة. من المهم ليس تأكيد أولوية مسار جنيف فقط وإنما الإعلان مرة أخرى عن دعم نشاط ستيفان دي ميستورا الذي سيترك منصبه قريباً والذي خلافاً لكل الإشاعات كان قد حضر اللقاء. والأكثر من ذلك تم تحديد تاريخ 8 فبراير موعداً للجولة التالية من المحادثات السورية - السورية في جنيف. يمكن أن نكون واثقين بأنه حتى ذلك الحين سيتم تشكيل اللجنة الدستورية، وعلى الأغلب قبل ذلك التاريخ.
اللقاء أظهر مدى صعوبة الاتفاق بين أطراف النزاع حول مسائل بدت وكأنها ليست معقدة مثل تبادل المحتجزين. ليس باستطاعة أحد، عدا ممثلي القوات الحكومية والقوات المعارضة أن يحل هذه المسألة. لا يوجد أي ضمانات. فقط الآن وبعد مناقشات طويلة تم التوصل إلى اتفاق حول إطلاق سراح 10 أشخاص من كل طرف. العدد قليل؟ بالطبع إنه قليل، لكن على ما يبدو أن العملية قد انطلقت.
أما فيما يتعلق بالخلافات في معسكر الدول الضامنة فهي موجودة ولكن لا داعي لتضخيمها. بالطبع فإن كل طرف لديه أجندته.
يزداد تأثير التقارب الذي يجري بين روسيا وبعض دول الخليج على التسوية السورية. أما فيما يتعلق بالتعاون بين موسكو وإسرائيل في هذه المسألة فلقد برزت فيه تعقيدات؛ ففي الأسبوع الأخير زادت موسكو من مستوى الانتقادات لإسرائيل بسبب ضرباتها لأهداف إيرانية في سوريا. وزير الخارجية سيرغي لافروف صرح في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) بأن هذه الهجمات لا تحسن من الوضع الأمني في إسرائيل، وكذلك انتقد ما سماه الجهود الإسرائيلية غير المتكافئة في التنسيق مع القوات المسلحة الروسية.
مهما كان، فإن التسوية السورية اليوم على مفترق طرق. فهل يمكن رؤية النور في نهاية النفق؟
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
* خاص بـ«الشرق الأوسط» |
|