| | التاريخ: كانون الأول ١٤, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | الاحتجاجات الفرنسية والانتفاضات العربية - بشير عبد الفتاح | علاوة على خروج التظاهرات الفرنسية عن المألوف واندلاعها ضمن سياق زمني مشابه لنظيرتها العربية، قبل نحو ثماني سنوات، يمكن اعتبار كلا الحراكين مظهراً للتقلب الحاد والمتسارع في المزاج السوسيولوجي لقطاعات شعبية واسعة حول العالم. ومثلما افتقدت الانتفاضات العربية للقيادات، ما مهَّد السبيل أمام جماعات الإسلام السياسي الأكثر حرفية وتنظيماً لامتطاء صهوتها، جاءت تظاهرات السترات الصفراء الفرنسية هي الأخرى بغير قيادة، في سابقة ربما لم يعهدها الحراك الجماهيري الفرنسي منذ عقود، ما فتح الباب أمام حركات اليمين واليسار المتطرفة للانقضاض عليها وتوجيه دفتها لمصلحة أجندتها الخاصة. وعلى غرار الحالة العربية، لم تتورع دوائر رسمية وشعبية فرنسية ودولية عن استدعاء نظرية المؤامرة في مساعيها لقراءة وفهم تظاهرات السترات الصفراء، محاولة إرجاعها إلى وجود مؤامرة تستهدف الدولة الفرنسية والرئيس ماكرون، جراء مواقف الأخير الداعية إلى تشكيل جيش أوروبي موحد، واستبقاء الاتفاق النووي مع إيران، علاوة على مناهضة بعض سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خصوصاً تلك المتعلقة بالانسحاب من المعاهدات والمنظمات الدولية التي تمثل ركائز استراتيجية ودعائم مؤسسية للنظام الدولي الحالي.
وفي تماه سجالي مع الانتفاضات العربية التي اعتمدت سياسات الشارع توسلاً لتغيير مستعصٍ في ظل غياب آلية ديموقراطية دستورية تضمن انتقالاً سلمياً للسلطة إلى قيادات أفضل، أبت احتجاجات السترات الصفراء إلا التمرد على النموذج الديموقراطي الغربي عبر المطالبة بالتحول إلى الجمهورية الفرنسية السادسة بإصلاح نظام الحكم وتغيير آلية الانتخابات، بما يتيح تقليص الصلاحيات الواسعة للرئيس وإنهاء انفراده المجحف بصوغ السياسات الاقتصادية للبلاد، حتى أضحى «ملكاً للجمهورية»، بحسب وصف معارضيه،علاوة على منح البرلمان مزيداً من الصلاحيات ليتمكن من محاسبة الرئيس وكبح جماحه. وكنظرائه من بعض قادة الدول العربية، التي شهدت انتفاضات شعبية، أساء ماكرون إدارة الأزمة الراهنة، من حيث الاستجابة البطيئة والجزئية بما لا يرقى إلى مستوى تطلعات المتظاهرين أو يستوعب حماسهم المتأجج. ولوحظ اتسام أسلوب ماكرون في التعاطي مع التظاهرات بالاستعلاء على الشارع من خلال رفض مطالب المتظاهرين الالتقاء بهم والتحاور معهم، معتبراً حراكهم أقرب إلى الممارسات الغوغائية. وبعدما تحدث مع الصحافيين بأسلوب عدواني، رفض ماكرون إجراء استفتاء شعبي على قراراته الصادمة خلافاً لما فعل ديغول عام 1968. كذلك، آثر ماكرون اللجوء مبكراً إلى الحلول الأمنية بوتيرة أسرع من الحلول السياسية والاقتصادية. ومن ثم، شهد قلب باريس دخول المدرعات للمرة الأولى منذ تظاهرات العام 1968، فيما تم اعتقال قرابة 1500 متظاهر، بينما سقط مئات الجرحى من الشرطة والمتظاهرين. وتأسياً بأسلافه من رؤساء الجمهورية الخامسة في مثل هذه الظروف الصعبة، عمد ماكرون إلى تعزيز فرصه في البقاء وامتصاص غضب المحتجين من خلال التضحية ببعض الوزراء والمسؤولين من دون استبعاد احتمال إطاحة رئيس الحكومة.
وبناء عليه، ومثلما جرى في الانتفاضات العربية قبل ثماني سنوات، تطورت تظاهرات السترات الصفراء بمرور الوقت من كونها مجرد احتجاجات مطلبية بحتة لتغدو حراكاً يعم مدناً فرنسية شتى ويتبنى مطالب سياسية على شاكلة استقالة الرئيس ماكرون، وخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وإنهاء أية تسهيلات بحق المهاجرين. ومثلما عبرت عدوى الاحتجاجات العربية الحدود، تخطَّت حركة السترات الصفر الحدود الفرنسية لتطال دولاً أوروبية أخرى كبلجيكا وهولندا.
وإذا كانت خبرة الفرنسيين الفريدة والممتدة والملهمة في الفعل الثوري والحراك الجماهيري تدعونا لعدم التسرع في الادعاء بأن متظاهري حركة السترات الصفراء الفرنسية استلهموا حراكهم من الانتفاضات الشعبية العربية، تجدر الإشارة إلى أن نقاط التشابه بين الحالتين لم تكن لتمنع الخصوصية السوسيولوجية والحضارية لفرنسا وعمق تجربتها الديموقراطية. فبينما غلب الطابع المطلبي على احتجاجات السترات الصفراء، باستثناء المطالبة باستقالة ماكرون، تصدرت المناداة بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية مطالب الانتفاضات العربية قبل أن تتطور للمطالبة بإسقاط الأنظمة. وخلافاً للانتفاضات العربية، التي عجت بالملايين أو مئات الآلاف التى ملأت الشوارع واستوطنت الميادين، قدَّرت وزارة الداخلية الفرنسية المتظاهرين في عموم البلاد بـ 125 ألفًا، لم يتموضع أي منهم في شكل متصل في الشوارع والميادين. إذ اقتصر خروج أصحاب السترات الصفر على يوم السبت تقريباً من كل أسبوع لأربع مرات متوالية، بينما استمرت تظاهرات آلاف الطلاب في أيار (مايو) 1968 لستة أسابيع، واتسعت رقعتها مع انضمام جموع من المثقفين والعمال إلى صفوفها، قبل أن يشارك عشرة ملايين مواطن في الإضراب العام، لينتهي الأمر باستجابة الحكومة مطالب المتظاهرين عبر رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 37 في المئة وخفض سن المعاش، وإجبار ديغول على حل الحكومة وإجراء استفتاء شعبي على سياساته. ومقارنة بالحالة العربية، لوحظ انخفاض مستوى العنف وتواضع الخسائر المادية والبشرية نسبياً خلال احتجاجات السترات الصفراء، ربما لقوة مؤسسات الدولة الفرنسية من مطافئ وإسعاف وجهوزيتها الدائمة للقيام بواجبها حتى في أحلك الظروف. ولوحظ حرص زهاء مئة ألف عنصر من قوات الأمن الفرنسية على ضبط النفس وعدم التصعيد قدر المستطاع بغية تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة فى الحيلولة دون تفاقم أعمال العنف والتخريب، مع تجنب المصادمات الدامية، ما حال دون سقوط قتلى طوال أسابيع التظاهر الأربعة. وحال تماسك الشرطة ورباطة جأشها وعدم انسحابها من معترك المواجهات، وإحكامها سيطرتها المطلقة على المشهد برمته بأقل خسائر، دون نزول الجيش إلى الشارع، مثلما جرى فى بلدان أخرى في ظل أوضاع مماثلة. لذا، لم يكن مستغرباً أن يقتصر أول تصريح لماكرون نهاية السبت الرابع للتظاهرات على توجيه الشكر للشرطة الفرنسية.
وبينما تسنى لبعض الانتفاضات العربية إسقاط أنظمة عتيقة بكلفة ما، في حين أخفق بعضها الآخر، بعدما كبَّدت البلاد والعباد خسائر بلغت حد تعريض الدولة الوطنية لتهديد وجودي، فإن طبيعة التجربة الديموقراطية وخصوصية الخبرة الثورية لدى الفرنسيين تبقى وحدها القادرة على تحديد مصير ماكرون، الذي هبطت شعبيته إلى أدنى مستوى لها. ففي حين اضطر ديغول، محرر فرنسا من النازية ومدشن انطلاقتها بعد الحرب الكونية الثانية، إلى التجاوب مع مطالب المتظاهرين عام 1968، عبر إقالة الحكومة وحل مجلس النواب وإجراء انتخابات مبكرة واستفتاء على سياساته، لم يجنح ماكرون في الاقدام على أي إجراء مماثل حتى كتابة هذه السطور على الأقل، برغم نقاط التلاقي الكثيرة بين الظرفين التاريخيين.
وإذا جاز للبعض الادعاء بأن الانتفاضات العربية كانت تطوي بين ثناياها بعض إرهاصات لتحول ديموقراطي حذر في بيئة ظلت طيلة عقود عدة أسيرة «الاستثناء الديموقراطي» بعدما فاتتها قطارات موجات التحول الأربع المتوالية التي اجتاحت العالم خلال قرن مضى، فإنه يمكن الزعم بأن احتجاجات السترات الصفراء، بكل ما شابها من طابع شعبوي مناهض للحزبية والمؤسسية ومتجاوز للأطر الدستورية والقانونية، طرحت، كما هو الحال مع تظاهرات العام 1968، تساؤلات معرفية غاية فى الأهمية بشأن مآلات التجربة الديموقراطية الفرنسية العتيدة.
* كاتب مصري.
| |
|