|
|
التاريخ: كانون الأول ١٢, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
حول ومن مؤتمر "الدروز": التحديات - عباس الحلبي |
"الدروز ألف عام من التعددية والحضارة" عنوان المؤتمر الذي دَعَت إليه الجامعة الأميركية في بيروت(¶) على مَدَى يومين شارَكَ فيه حشد من الباحثين من جامعات لبنانية وتركية وأميركية وبريطانية وبحضور عدد كبير من اللبنانيين المهتمين دروزا ومن سائر الطوائف اللبنانية. وقد أعطت الـ Assembly Hall برمزيتها الدينية والأكاديمية لحفل الإفتتاح بُعداً وطنياً في وقت تساءَلَ الكثيرون عن فائدة عقد هذا المؤتمر وفي هذا الوقت بالذات حيث تتصاعَد لغة المذاهب لتعلو على لغة الوطن. ولكن الأبحاث والمناقشات والمداخلات التي دارت دحضت البعد الطائفي للمؤتمر لتعيد التأكيد على الثوابت التاريخية التي ما حاد عنها الدروز في تاريخهم ولا في حاضرهم وطبعاً في مستقبلهم والنظر إلى هذا المؤتمر من زاوية سعيه للبحث العلمي والأكاديمي بما يقدم مادة إضافية في تاريخ هذه الشريحة العربية المؤسسة للكيان اللبناني.
اما الموحدونُ الدروز والجامعةُ الاميركية فهْيَ قصةُ التأسيسِ إذْ عندَما تقرَرَ انشاءُ جامعةٍ في لبنان للارساليةِ الانجيلية كانَ الدروزُ في اساسِ نشأتِها لانَّ هذه الارض التي أُقيمت عليها الجامعةُ كانت ملكاً لآل تلحوق وهم من العائلاتِ النبيلة في تاريخِهم والمؤثرةِ في حياتهم.
لقد حيَّيتُ فكرةَ المؤتمر والقائمينَ عليه لأنني أعرفُ بالتفاصيل مقدارَ الصعوبات التي رافقت انعقادَه كما احيي الجرأةَ في مقاربةِ موضوعٍ يتصلُ بشريحةٍ لا تحبذُ كثيراً الحديثَ عنها وذلك لدواعٍ تاريخية وعقائدية لا مجال للخوضِ بها وانني شخصياً وإن كنتُ لا اشاطرُ هذا الرأي، اذْ بإعتقادي قد لحقَ بالموحدين الدروز ظلمٌ كبيرٌ في التاريخ وتشويهٌ أكبر في العقائد نتيجةَ هذا الموقف وقد آن الاوان لتوضيح الإشكالات وفق قواعدَ منهجية أكاديمية، هذه الإشكالات التي اسهمت بها مجموعاتُ التفرقةِ والتمييز في النطاقِ الاسلامي ومحاولاتُ المستشرقين المتعددة في نسبةِ تهمٍ كثيرة تتصلُ بعقائدهِم فأساؤوا اليها عن قصدٍ او غير قصد.
ومن موقعي الشخصي أنتهزُها فرصةً لأتحدث قليلاً عن بعض الأفكار التي طرحتُها في كلمة الإفتتاح وساهَمَت في مداولات المؤتمرين اذ انني انخرطْتُ منذ الصغر بشؤون الطائفة الدرزية وبالعلاقات الاسلامية المسيحية فتدرجْتُ في معرفتي بها وبشتّى مناحي الحياة المذهبية والدينية والتنظمية والثقافية والاجتماعية والصحية.
مكّنتني خبرتي الطويلة في العملِ الدرزي العام بما يقاربُ الخمسين السنة من معرفةِ واقعِ حالِ الطائفة ومشكلاتِها المستعصية ونقاطِ القوة فيها. وألزمتني بمحاولةِ التفكير في هذا الواقع وهواجسه والمستقبلِ ولوازمه.
واستنتجْتُ أمور عدة أُبرِزها في نقاطٍ ثلاث (يوجد سواها) ولكن أتوقفُ عند القضايا التي تدخلُ "مبدئيا" في إطار أبحاث هذا المؤتمر. وهي موضوع كلمتي أوجزتها في ثلاثة محاور: في الشأنِ اللبناني، في الشأنِ العربي والإسلامي وفي شأنِ الحداثة.
لقد استمر الدروز حوالى الألف سنة بعد نشوءِ المذهب واستطاعوا الاستمرارَ لسببٍ من دورهم التاريخي في حماية الإسلام والعروبة من دون أن يشعروا لمرة أنهم أقليةَ في هذا العالم الرحب بل كانوا دوماً جزءاً من الأكثريات الحاكمة. وقد شدَّ عصبُهم تعرّضَهُم دوماً للاضطهاد والتنكيلِ في السياسة وإلى التشويه والتزوير في الدين فكان رابطُ العصبية أقوى. وهم لهذا السبب مجتمعون اليوم بالرغم من بعضِ مظاهر التفرقة السياسية ولكن عند استشعارِ الخطر على الوجود هم وحدةٌ متراصة يشاهدون المخاطر من كل حدْبٍ وصوب: تصاعدُ التطرف الديني الذي لا يُقتصرُ على المسلمين وحدِهم بل أيضاً التطرفُ الديني اليهودي في إسرائيل والتطرفُ المسيحي في الغرب.
في الشأن اللبناني:
من هذا المنطلق، يبرزُ جليًّا أنَّ الموحِّدين الدروز يجهدون في سبيلِ البقاءِ أوفياءَ لهدفهم السياسيّ التاريخيّ المتمثِّل بالدفاع عن عروبة لبنان واستقلاله. وها هم يحملون في الوقت نفسه، راية الدفاع عن الفكرة اللبنانيَّة التي كانوا روَّادها وأصحابَها منذ القرن السابع عشر، رافضين تكوينَ كيانٍ جغرافيٍّ خاصٍّ بهم، أو القبولَ بتقسيم لبنان أو تجزئتِه.
فالدروزُ يتطلعون إلى لبنان كونُه فريداً في هذه المنطقة، مؤلفاً من تنوع طائفي ومذهبي نظامُه يقر الحقوقَ للأفراد ويمنحُ الطوائفَ الضمانات. تتداولُ فيه السلطة ولا يستطيع أحدٌ احتكارَ القرار مهما علا شأنُه. يُؤمنُ بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين ويعطي كلَّ طائفةٍ حصتَها في تشكيلِ السلطة والإدارة والقضاء والجيش. ينتمي إلى العروبةِ بمعناها الحضاري والثقافي وليس بمدلولاتِها الإيديولوجية ويشكلُ فيها الإسلامُ عنصراً مكوناً وليس حصرياً. كما يؤمنُ بدور المسيحيين فيه بغض النظرِ عن العدد والفاعلية ذلك أنه إن كان للبنانَ من معنىً فهو بهذا الوجود المسيحي الذي يتشاركُ معهم فيه الموحدون الدروز الهمومَ والهواجسَ ولاسيما الحياةَ المشتركة في الجبل.
في الشأن العربي والإسلامي:
إن أهميةَ الدروز في تاريخ الشرق الأوسط تنبعُ من التمييزِ بين شخصيَّتهم الدينيَّة وشخصيَّتهم الوطنيَّة والقوميَّة. وقد أَبرزوا هذا التميُّز في مسلكِهم الأخلاقيّ، وإيمانِهم العقيديّ، وممارستِهم السياسيَّة. ولو أنَّ سلوكَهُم السياسيّ بدا محكومًا على الدوام بقِيَمٍ وأخلاقيَّاتٍ يُحدِّدها مسلكُهم الدينيّ، بيد أنَّه لم يستطع أن يفرضَ نفسَهُ لولا ترفُّع العقيدة الدينيَّة عن السياسة. فالنظامُ السياسيّ الطائفيّ في لبنان يختلف عن التراث السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ للموحِّدين الدروز، لكنَّهم يتعاملونَ معه بواقعيَّةٍ بغية الحفاظِ على حقوقِهم الأساسيَّة.
وعلى الرغم من الظروفِ السياسيَّةِ القاسيةِ والصعبةِ التي يعيشُها العالمُ العربيّ، ينبغي عدم الاستهانةِ بوزنِ الجماعات الدرزيَّة في الشرق الأوسط، أو التقليلِ من شأنها، باعتبار أنَّها تشكِّل شبكةً قويَّةً ومتينةً ومترابطةً في المنطقة. ويُظهر الموحِّدون الدروز شعورهم الوطنيُّ والقوميّ أينما وجدوا، من خلالِ التأكيدِ على تمسُّكهم بأرضهم وتراثهم التاريخيّ. ويكوِّنُ هذا الانتشارُ الديموغرافيّ في مختلف المناطقِ الأساسيَّة من الشرق الأوسط، قوَّةً راجحةً ومهمَّةً في التوازن الإقليميّ في صفِّ المصالح العربيَّة، لذلك لم اشاركْ في توصيفِ وضعِهم نتيجةَ احداث لبنان وسوريا وفلسطين انهم في خريف لانهم على فرضِ صحةِ التوصيف ليسوا وحدَهم فيه. وهل سائر المكونات تعيش ظروفاً افضل ومن هو ليس في خريف: السني او الشيعي او العلوي او المسيحي. فالخريفُ نتيجة هذا الترابط القائم اما ان يكونَ على الجميع او ان الجميعَ في ربيعٍ زاهر عندما يتخلص المشرق العربي من لعنات التطرف والإلغاء والاقصاء.
تحدي الحداثة:
يواجه الموحِّدون الدروز، على غرارِ بقيَّة العرب واللبنانيِّين والمسلمين، تحدِّي الحداثة المعاصرة. فالشرقُ الأوسطُ يعيشُ أصعبَ الأوقات بسبب الحروب المتتالية وانعدامِ الاستقرار السياسيّ وتصاعُدِ موجةَ الأُصوليَّات الدينيَّة. كما يعاني جمودًا سببُه منعُ قيامِ آليَّاتٍ ديموقراطيَّة، وقمعِ الحرِّيَّات، وغيابِ الإصلاحات الاجتماعيَّة والتربويَّة والاقتصاديَّة، وغيرها. فالعالمُ العربيّ الذي يعتبرُ نفسَه متمدِّنًا وغنيًّا، يمرُّ حاليًّا في مرحلةِ انحطاط، ويواجهُ العولمة في معركةٍ مفتوحةٍ.
من المؤكَّد أنَّ الموحِّدينَ الدروز الذين يعيشون في الشرق الأوسط، مدعوُّون إلى عدم الإنغلاق على أنفسِهم، بل إلى محاولة استعادةِ الدور التاريخيّ الذي لعبوه في الماضي، والتحرُّرِ من العُقَد الدينيَّة والسياسيَّة. فهم لا يستطيعون مواجهة الحداثة إلاّ عن طريق تعزيز البحث العلمي المعبِّر. فالموحِّدون الدروز الذين تمكَّنوا من اجتياز المراحل التاريخيَّةِ الصعبة، والاحتفاظِ بهوِّيَّتهم وعقيدتهم، مدعوُّون أيضًا اليوم، مثلَهُم في ذلك مثلُ بقيَّة الطوائف، إلى التكيُّف مع روحِ العصر، لأنَّ العيشَ في دائرةٍ مغلقةٍ مُضِرّ. وإنَّ أقلِّيَّةً، كطائفة الموحِّدين الدروز، تمتلكُ هذا التراث الخصب، لها كلُّ الحقّ في أن تفتخرَ بهوِّيَّتها وتتحرَّر من كلّ عُقَدِها تجاه الإسلام والعرب.
إنّ الإحتفال بمرور الألفية الأولى عن طريق تنظيم هذا المؤتمر الأكاديمي البحثي يعطي الأملَ بأن نافذةً جديدة قد تمَّ فتحُها للتطرقِ إلى جوانبَ مختلفة تاريخية وحضارية. فالتعدديةُ هي سمةُ الإسلام على قاعدة أن الإسلامَ واحدٌ ومتعددٌ ومن هذا المنطلق فإن الدروزَ ينتمون إلى الإسلام ولكن لديهم خصوصياتٌ دينية ومذهبية إسوةً بسائر المذاهب الإسلامية الأخرى على ألاّ تضيع طالما أن الموحدين قد تربوا عليها واستمروا على هذا النحو ما يقارب الألفَ سنة ويزيد.
ولا شك أن المؤتمر ساهمَ في بَلوَرَة رؤية لإجابة الجيل الجديد التائهِ في التحزّبِ أو الإنقسام السياسي أو الهجرة عن مستقبلِهِ كجماعة مكونة لهذا الوطن في الدورِ والرسالة. وهذه الرؤية لا شك ستكونُ نتاجَ نقاشٍ عام ومثمرٍ وتفاعلِ أفكارٍ لا يمكن لأي فردٍ أن يحصرَها بشخصِه أو بفكرِه.
عضو المؤسسات الدرزية
* من مداخلة القاضي عباس الحلبي في إفتتاح المؤتمر الذي انعقد في 30 و 31 تشرين الأول 2018 |
|