| | التاريخ: كانون الأول ٢, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | اتركوا الناس تتنفس! - مشرق عباس | فجراً، زار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي موقع العمل لرفع الاسوار الاسمنتية من المنطقة الخضراء، وهي حملة بدأت منذ 6 شهور بعد اوامر امنية بفتح عدد من الشوارع المغلقة منذ 2003، وخلال الزيارة كان عبد المهدي يتحدث الى المسؤولين عن ضرورة ان "يتنفس الناس".
كل من يزور بغداد ومعظم المدن العراقية الاخرى، يشعر بثقل الكتل الاسمنتية على حياة الاهالي، وخلال السنوات الماضية تكاثرت الكتل بتكاثر الهجمات الارهابية، حتى تحولت بشكل ما الى خريطة خوف كبيرة حاصرت الناس، واربكت حياتهم، وخيمت على ملامح المدن ونشرت الوجوم والموت في زواياها.
لكن قرار التخلص من خريطة الموت هذه لم يكن سهلاً، وارتبط اولاً بتصاعد ثقة القوات الامنية والناس، بامكان حفظ الامن من دون الحاجة الى زرع عارضة كونكريتية ونقطة تفتيش في كل مكان، ومع هذا لم يشهد الامر تقدماً على الارض، لان الخوف الذي تجاوزه السكان بعد ان تعايشوا مع الازمات وصارعوها وانتصروا للحياة، لم تتجاوزها الاطراف التي استمرت تعتبر ان تحرير المدن من قيودها الاسمنتية يشكل خطراً وجودياً.
وهذه الاطراف ليست بالضرورة عراقية بل بعضها كالسفارات خاضت معارك لرفض فتح شوارع قريبة منها، واغلقت السفارة الهندية مثلاً ابوابها اياماً احتجاجاً على القرار، فيما وقفت السفارتان الاميركية والبريطانية عائقاً امام افتتاح المنطقة الخضراء على يد رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، يضاف الى ذلك مسؤولون سابقون يحتلون بنايات وقصوراً رسمية، حاولوا بكل وسيلة منع المضي بخطط تحرير الشوارع، بل ان مؤسسات امنية من المفترض ان يكون وجودها معياراً للامن والتطمين للناس، اصرت على ان تكون مختبئة خلف الاسوار.
كل تلك الممانعات تركزت في بغداد في الغالب باعتبارها العاصمة، وشكلت مجتمعة جبهة واسعة تفترض ان المغامرة بفتح الشوارع والمربعات الامنية المغلقة سيشجع الاعمال الارهابية.
ومن الضروري الاشارة هنا الى ان بغداد وحدها تضم اكثر من 30 مربعاً امنياً بالاضافة الى المنطقة الخضراء، تشمل مقرات حكومية وحزبية وامنية، قطعت من اجلها الساحات والشوارع، وزرعت لحمايتها ملايين من العوارض الكونكريتية الهائلة التي بامكانها مجتمعة ان تبني ثلاثة اسوار جديدة لبغداد مع محيطها.
اخيراً ، اصر رئيس الوزراء الجديد على اكمال ما لم ينجح من سبقه به، وهذه المرة تحمل الموضوع وقاوم الممانعات الحزبية والدولية، بل انه حسب مقربين تعرض الى تهديدات مباشرة في حال مضى الى تنفيذ خططه.
لانعرف مستوى هذه التهديدات في الحقيقة، واذا كانت تشمل ضرب الامن لاجبار عبد المهدي على اعادة الاسوار الاسمنتية والمناطق الامنية مرة اخرى، ام تقتصر على تهديده شخصياً بنزع الدعم السياسي الداخلي او الخارجي له، لكنها في النهاية محاذير يجب عليه ان يأخذها في الحسبان ويعد لها العدة، فالدولة الرصينة لاتتخذ قراراتها بناء على ردود الافعال، ولا تتراجع عن تلك القرارات بناء عليها.
الحديث عن هذه الخطوة ، لايعني ان الامور في العراق تسير بالاتجاه الصحيح، فنحن فقط امام خلل واحد تم تصحيحه، وامام البلد تحديات جسيمة وكبيرة اخرى، تخص بناء منظومات امنية قادرة على حفظ الامن بطرق أكثر نجاعة، واقل تكلفة على حياة السكان وحرياتهم، ومعالجة كوارث الفساد والتأسيس لبنية ادارية باقل ثغرات ممكنة، ومواجهة العجز الاقتصادي الكبير، وتردي الخدمات الواجبة على الدولة.
لكن كل ذلك لن يتم في بيئة كالتي اوجدتها منظومة الخوف والخرائط الاسمنتية والمربعات الامنية، بل ان تلك المنظومة هي من مبررات الفساد والعجز، وهي التي سمحت باستخدام مصطلح "المنطقة الخضراء آمنة" الذي اخترعه الجيش الاميركي، وتقابله كل بغداد باعتبارها "منطقة حمراء خطرة" على لسان سياسيين ومسؤولين حكوميين عراقيين من دون حتى ان يثير المصطلح تحفظاً من الحاكم ازاء اهانة شعبه!. | |
|