|
|
التاريخ: كانون الأول ١, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
عن خارطة لمصالحة في الزمن الوطنيّ الهالك - أنطوان العويط |
عندما كتبت الكنيسة المارونيّة أنّ "المصالحة والغفران على كلّ المستويات، الروحيّة مع الذات ومع الله، ومع الآخر، ومع الوطن، لا يزالان غير كاملين على الصعيدين المسيحيّ والوطنيّ"، كانت على حق.
ويوم شهد بعض من أبنائها على مصالحة ما بينهم، رحّبت، لكنّها في العمق كانت تدرك أن كلّ تقارب من خارج الكرم الروحيّ للموارنة الذي كان يشبه كَرَم الرسل، وبعيداً عن الزهد في زمن الرضوخ للحسابات والمصالح والدنيويّات، سيبقى ناقصاً، وكانت على حق أيضاً.
هل يجلد الواحد ذاته إذا أشار إلى أمجاد الدنيا وقد أعمت الكثيرين منهم، كانت قد سبّبت في الكثير من الخيبات لجماعتهم وللوطن على السواء؟ أتتساوى حقيقة الموارنة ورسالتهم كشعب مع شياطين الثروات والكراسي والمناصب؟
... لكن، في الليل اللبنانيّ المارونيّ الموجع هذا، كان أن شهد صرح الموارنة على مصالحة وجدانيّة تاريخيّة بيضاء غير مقيّدة، فهل يختلف الأمر هذه المرّة؟!
لقد جمعت علاقات ودّ ما بين اللبنانيين أبناء الجبل. أحبّوه وأخذوا عنه، لصعوبة طرقه وعلوّ قممه وعمق أوديته، قوّة الإرادة وبعد الآفاق وحبّ الاستقلال والحريّة. وكان البحر قد وسّع آفاقهم. فانفتحوا على كلّ إنسان وعلى كلّ فكر. كانوا مضيافين، أسخياء وأصحاب همّة. يفتحون بيوتهم في وجه الغريب والمعوز. وكانوا ينجدون مَن كان بحاجة إلى نجدتهم. أليس هذا ما جمع تاريخيّاً ما بين أهل اهدن وبشري؟
ببخّور من قدسيّة ذلك الوادي، جعلتهم المارونيّة كالبوتقة واحداً، وهم ساروا على مثل هذه الدرب. عاشوا الخوف والعوز وعرفوا الاستشهاد. تشاركوا، فتجلّى في إيمانهم وفي اتّحادهم ما حقّقه المسيحيون الأوّلون في كنيسة أورشليم، كنيسة تُنبت قدّيسين على مدى الأجيال، ولا تملّ.
فكيفما توجّه الواحد في اهدن، البارحة واليوم وفي الغد، لا يستطيع إلاّ أن يشعر بوجود البطريرك يوحنا مخلوف الذي لقِّب بالقدّيس لتقواه السامية. في نواحيها، يطالعك البطريرك جرجس عميره الذي قالوا عنه في الغرب وعن أمثاله: "عصيّهم من خشب أما هم فمن ذهب". أمّا عن البطريرك اسطفان الدويهي فالحديث يطول. هو الذي بدأ حياته الكهنوتيّة بتعليم الأولاد في أحد بيوت اهدن قبل أن يتسلّم قيادة الطائفة المارونيّة ويرعاها برصانة وغيرة ومحبّة، وليكتب تاريخ لبنان من تاريخها.
تعتريكَ الرهبة عندما تزور اهدن، وكأنك في رحاب أرض مقدّسة. وأنت لو طلبت من اهدني أن يساعدكَ في أمر، أيّاً كان هذا الإهدني، وأيّاً كان هذا الأمر، لهبّ لنجدتكَ هازئاً بالتحدّيات، كأنّ الأمر هو أمره، فتتعجّب.
وكمن يسرد تاريخاً، تمرّ أمامك تلقائيّاً صورة الإهدنيين يوم حملوا السلاح ووقفوا في وجه جيوش المماليك في سنة 1283. ويوم هجموا على اليعاقبة الذين تعشّشوا في الجبّة فطردوهم منها سنة 1488. ويوم عاهدوا سيّدة الحصن أنهم يدافعون عن دين آبائهم حتى الموت بعد هجوم أهل الضنيّة عليهم سنة 1489. ويوم هبّوا عن بكرة أبيهم ضدّ تعديات بيت حمادة سنة 1759، فأبعدوهم عن الجبة. ويوم وقف يوسف بك كرم ضدّ العثمانيين يطالب بالحريّة والكرامة.
في غمرة هذه الصور، تتيقّن أنّ اهدن هي أكبر من رجالاتها اليوم والأمس، وهي أكبر من البطريرك يوحنا مخلوف، وأكبر من البطريرك جرجس عميره، وأكبر من البطريرك اسطفان الدويهي، وأكبر من يوسف بك كرم. إنها رعيّة مارونيّة أصيلة، إذ أنّها حفيدة مار مارون.
ولو فعلت وزرت بشري، لتذكّرتَ حكم المقدّمين. وتذكّرتَ ما قاله البطريرك اسطفان الدويهي، أن البطريرك يوحنا الجاجي في عهد المماليك، وبالتحديد في سنة 1440، أخلى دير ميفوق وانتقل إلى جبّة بشري تحت حماية المقدّم يعقوب البشراني. وكيفما توجّه الواحد في بشري، البارحة واليوم وفي الغد، فسوف تمرّ أمامه سلسلة البطاركة، فيعدّ منهم أربعةً وعشرين بطريركاً عاشوا في وادي قنّوبين، وكانوا تحت حماية مدينة المقدّمين.
هناك تشعر أنكَ أنتَ أيضاً على أمان، وتعرف أن الروح التي وفّرت الحماية للبطاركة، هي ذاتها التي قادت جبران خليل جبران، ابن بشرّي، إلى أن يحمل الروح المشرقّية إلى العالم. وهي هي التي حملت البطريرك أنطون عريضة، وهو ابن بشرّي أيضاً، عندما كان لا يزال مطراناً على أبرشيّة طرابلس، على أن يرهن صليبه الذهبيّ خلال الحرب العالميّة الأولى، ليُطعم الجائعين مسلمين ومسيحيين.
هكذا تروح تتعرّف بالفعل على ما يمكن أن يشدّك إلى بشرَي، إلى ما هو أعمق وأسمى، إلى تلك القوّة التي تنقل الواحد من غربته لتدفعه نحو الآخرين والعمل معهم على أساس سليم، والتي تقتل كلّ عداوة وتجعل الكثيرين واحداً.
في غمرة هذه الصور، ومن على مشارف وادي الشهادة والرسالة الذي خوّل الموارنة أن يصمدوا بوجه المحن والمصاعب على مدى ألف وخمسماية سنة، تتيقّن أنّ بشري أيضاً هي أكبر من رجالاتها اليوم والأمس. إنها رعيّة مارونيّة أصيلة، إذ أنّها حفيدة مار مارون.
لكن، كان حدث ما حدث في محطّات مختلفة من التاريخ ما بين اهدن وبشري. كثرت الشرور في صفوف الشعب، وتعاظمت الشوائب في حياتهم، وعملت شؤون الدنيا في نفوسهم، فضعفوا وتفرّقوا. حلّت الضغائن في النفوس، وغرقوا في القشور وتقاتلوا. ركب الغرور ذلك الوجدان، فكان الانقلاب على القيم والمواثيق والعهود، ليصلا إلى ما كان عليه الشأن طويلاً.
البارحة، وفي الليل اللبنانيّ المارونيّ الموجع هذا، كان أن شهد صرح الموارنة على مصالحة وجدانيّة تاريخيّة بيضاء غير مقيّدة، وقد مُهّد لها طويلاً، فتحت كوّة من ضوء في الظلام الوطنيّ الهالك.
فهل تيقّن الموارنة إلى أنّ ما يحتاجون إليه قبل أيّ شيء آخر، هو الانطلاق من صفاء وهج التاريخ والمسؤوليّات التي حملوها، والمواقف الروحيّة والزمنيّة الوطنيّة الكبرى التي اتخّذوها مع بطاركتهم ماضياً وحاضراً، وهذا ما كانوا قد تناسوه؟
خارطة الطريق تكمن ها هنا في عيش دستور حياة روحيّ وزمنيّ، للخروج من الأفق المسدود الذي وضعوا أنفسهم ولبنان فيه، ووضعهم فيه الآخرون، على حدّ سواء. فإذا أراد الموارنة أن لا يتنكّروا لحقيقتهم، فليس أمامهم سوى أن يكونوا شهوداً. ومن واجب الشهود أن يكونوا أحراراً وأبطالاً وقدّيسين وملافنة في القرن الحادي والعشرين هذا.
عليهم، بكلّ بساطة، أن تستند مصالحتهم على صخرة قدّيسهم مارون، وأنْ يُبنى على قيمها ومبادئها الإيمانيّة والإنسانيّة، وألاّ يستقووا بحسابات ذاتيّة أو فئويّة، بل يتساوون في حمل المسؤولية وبالمحبّة. فلا يتميّز أحدهم عن الآخر، ولا يدّعي كلٌّ منهم أن خياراته هي المنجّية.
وعليهم أن ينكبّوا على إعادة بناء وطن يليق باللبنانيين وبتاريخهم وقيمهم، يجسّد بالفعل التجربة الإنسانيّة الوطنيّة الفريدة. وهذه مسؤوليّة تاريخيّة ملقاة على عاتق الجماعات اللبنانيّة، وعلى عاتق الموارنة في شكل خاص. وعليهم بكل بساطة، أن يهتموا بالشابّات والشبان الذين هم ثروة البلاد الكبرى والقوّة التجديدية في المجتمع، مسكناً وصحة وعلماً وفرص عمل. وأن يبحثوا عن سياق سياسيّ معاصر يترجم المشاركة الفاعلة، والاختيار الحرّ، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديموقراطيّ.
إن عودة الموارنة إلى أصالتهم هي المدخل إلى عودة الآخرين إلى أصالتهم أيضاً. ووحدة الموارنة هي باب الأمل للحوار مع الآخر...والآخرين.
عليهم أن يعلنوا العودة الآن إلى الينابيع، وإلى مارون، ليكونوا له شهوداً ورسلاً في لبنان، وفي الشرق، وفي العالم. |
|