| | التاريخ: تشرين الثاني ٣٠, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | «حقوق الإنسان» في العيد السبعين لإعلانها العالمي - وليد محمود عبدالناصر | احتفل العالم هذا العام بالعيد السبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي صار واحداً من أهم الوثائق الدولية في شأن حقوق الإنسان، بل يمكن اعتباره في التاريخ المعاصر الوثيقة الأم التي تفرعت عنها عهود ومعاهدات وبروتوكولات دولية فرعية عديدة عُنيت بجزئيات تضمنها بشكل كلي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مثل أنواع ومكونات هذه الحقوق وفئاتها المختلفة ما بين حقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وما بين حقوق مرأة وحقوق طفل وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وحقوق أقليات والحق في مكافحة التمييز، وما بين حقوق جماعية مثل الحق في التنمية وفي ممارسة السيادة على الموارد الطبيعية والحق في تقرير المصير للشعوب الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي، وأخرى فردية، ثم نوعية جديدة من الحقوق تواكبت مع تقدم العلوم والتكنولوجيا، وفي مقدمتها الحق في المعرفة وما يرتبط بها من حقوق التعليم والبحث العلمي والحريات الأكاديمية، ثم حقوق إنسانية عامة لكافة البشر مثل الحق في الحياة والحق في مكافحة العنصرية، وكان منها في زمن مضى مكافحة «الفصل العنصري» (الأبارتيد)، ويبقى مكافحة التمييز على أساس اللون أو العرق أو المعتقد أو الأصل أو النوع أو غير ذلك، بالإضافة إلى الحق في مكافحة جريمة إبادة الجنس البشري وجرائم أخرى تتوزع ما بين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفي مقدمتها التعذيب وغيره.
ولا تعني أهمية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نفي حقيقة أن هناك ميراث إنسان هائلاً وتراكمياً من التعاليم والبنود والأحكام الخاصة بالنص على حقوق الإنسان المختلفة والحض على احترامها، بل فرض احترامها واعتباره واجباً ومسؤولية للبشر في آن واحد. فقد امتلأت حضارات العالم القديم بالعديد من الأمثلة على الوعي بحقوق الإنسان وإدراك أهميتها ورفع لوائها، كما تضمنت الأديان السماوية المختلفة، بل وأيضاً العقائد الدينية وغير الدينية، مكوناً أساسياً من مكوناتها ممثلاً في حقوق الإنسان بفئاتها المختلفة، ولم تكن الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، بدءاً بالثورة الفرنسية لعام 1789، سوى نتيجة لعدم احترام فئة أو أخرى من فئات حقوق الإنسان أو مجمل هذه الحقوق من أساسها، وكانت تلك الثورات داعية لإصدار إعلانات خاصة بحقوق الإنسان وتبني إجراءات لضمان الالتزام بتلك الحقوق، ولم يكن العرب ولا المسلمون بمعزل عن تلك الدعوات بل كان لهم نصيب وافر فيها، فحضارات البلدان العربية القديمة مليئة بالأمثلة على ذلك من مصر إلى العراق إلى اليمن إلى شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام إلى بلدان المغرب العربي الكبير إلى غير ذلك من بلدان عربية، كما أن عطاء الثقافة العربية في مجال حقوق الإنسان معروف ومتميز على مر العصور، أما رسالة الدين الإسلامي فقد نظر إليها كثير من العلماء، بمن فيهم بعض غير المسلمين، باعتبارها في جوهرها دعوة ذات طابع جذري لاحترام حقوق الإنسان وصون كرامته.
وعلى مدار العقود السبعة الماضية المنقضية منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحقق الكثير من النجاحات، ولكن أيضاً حدثت العديد من الإخفاقات على الصعيد العالمي. ومن منظور تاريخي، يمكن القول أن جبهة حقوق الإنسان كانت إحدى الجبهات النشيطة والفاعلة والمؤثرة والتي ساهمت، سواء من خلال منظومة الأمم المتحدة، أو البلدان منفردة، أو بعض المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية، أو من خلال منظمات المجتمع المدني، في نجاح المعركة العالمية لإسقاط نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) في جنوب إفريقيا، وهو الأمر الذي تحقق في عام 1994، فالأمر لم يقتصر فقط على قرارات إدانة أممية متكررة ومتصاعدة، أو بناء وعي عالمي أدى إلى بلورة رأي عام دولي معبأ ضد «الأبارتيد»، أو فرض حظر على صادرات السلاح لنظام الفصل العنصري في بريتوريا، مع الإقرار بحدوث انتهاكات لهذا الحظر، بل وصل الأمر إلى نشر تقارير حول أنشطة المؤسسات عبر الوطنية التي كانت تساعد، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وجود نظام «الأبارتيد» واستمراره، ومن الإسهامات العربية في هذا المجال هو أن القائم على إعداد هذا التقرير لسنوات طويلة كان الفقيه القانوني المصري العربي الدولي الراحل الكبير الدكتور أحمد خليفة الذي شغل لسنوات طويلة عضوية ما كان يسمى آنذاك اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان لمكافحة التمييز وحماية الأقليات, وكان الهدف من هذا التقرير الدوري فضح هذه المؤسسات وكشفها أمام الرأي العام العالمي مما أدى إلى ظهور دعوات عالمية لمقاطعتها، حتى في بلدانها الأصلية، ومثل ما يسمى «حوافز سلبية» دفعت الكثير من تلك الشركات إلى سحب استثماراتها في ووقف تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية الأخرى مع نظام الفصل العنصري في بريتوريا، كما تعرض من استمر منها على هذا المنوال إلى عقوبات من غالبية حكومات العالم، بما في ذلك في مراحل متقدمة حكومات غربية عديدة.
ومن النماذج الناجحة الأخرى في مسيرة حقوق الإنسان على الصعيد الدولي منذ تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، حالة مكافحة جريمة «إبادة الجنس البشري»، والتي ارتبطت لاحقاً بجريمة أخرى وهي جريمة «التطهير العرقي»، وربما كان المثال الأنجح في الحالة الأولى هو التصدي لجريمة الإبادة التي حدثت في كمبوديا إبان سيطرة نظام «بول بوت» والخمير الحمر على السلطة في بنوم بنه ما بين عامي 1975 و1978، سواء من جهة المساهمة في إسقاط هذا النظام من خلال بناء كتلة دولية متعاظمة مناهضة لما ارتكبه هذا النظام من جرائم وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الحياة، أو في مرحلة ما بعد سقوط هذا النظام من جهة إنشاء محكمة دولية لمحاكمة المسؤولين عن جريمة الإبادة وغيرها من جرائم الحرب التي تم ارتكابها خلال سنوات حكم ذلك النظام أو حتى في الفترة اللاحقة لذلك، عندما تحول هذا النظام بعد سقوطه إلى معارضة مسلحة استمرت بعض عناصرها في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وشملت تلك المحاكمات المتهمين بارتكاب تلك الجرائم من المنتمين إلى أحزاب وجماعات أخرى في كمبوديا أيضاً.
ولئن كان ما تقدم ذكره في الفقرتين السابقتين يشير إلى حالتي نجاح ضمن نجاحات المعالجة الدولية لموضوعات حقوق الإنسان في السياق متعدد الأطراف، وبشكل أكثر تحديداً في إطار منظومة الأمم المتحدة، فإن مسيرة التعامل مع ملف حقوق الإنسان منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 شهدت الكثير من التحديات وواجهت العديد من الانتقادات والتساؤلات، ولا زالت. وبعض هذه التحديات والانتقادات والتساؤلات تعلقت بموضوعات عامة وأخرى ارتبطت بقضايا بعينها، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى ما هو عام، مع إعطاء أمثلة محددة هنا وهناك.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعرض التعامل الدولي مع موضوعات حقوق الإنسان للتساؤل الجاد عن مدى نجاح منظومة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي في تحقيق التوازن المطلوب بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، وما بين الحقوق الفردية من جهة والحقوق الجماعية من جهة أخرى، واعتبر ذلك انعكاساً لنشأة وتأسيس منظومة حقوق الإنسان العالمية في سياق معطيات منظومة قيمية بعينها وليس نتاج تفاعل منظومات قيمية متنوعة تنتمي إل ثقافات مختلفة ذات معطيات قد تتداخل وقد تتقاطع ولكنها ليست بالضرورة متطابقة وأحياناً تجاه بعض الموضوعات ليست بالضرورة حتى متشابهة. كذلك تعرضت المنظومة ومناهج التعامل المنبثقة عنها والمرتبطة بها لتساؤلات لا تقل جدية بشأن مدى تركيز المنظومة على مجال تعزيز الديموقراطية داخل البلدان مقارنة بتواضع الجهد على صعيد تحقيق الديموقراطية في العلاقات الدولية، بما في ذلك في إدارة بعض المنظمات الدولية وعمليات وأجهزة صنع القرار الموجودة بها، سواء تلك التي تتناول موضوعات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو غيرها.
وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد عجزت تلك المنظومة عن التعامل بفاعلية مع مسألة العقوبات المفروضة بشكل أحادي من دول تجاه دول أخرى، بدون أي مسوغ من الشرعية الدولية أو القانون الدولي، وبدون إقرار من المجتمع الدولي، خاصة ممثلاً في أجهزة الأمم المتحدة ذات الصلة، ولم تفلح الجهود في الحد من تلك الظاهرة وفيما أفرزته من آثار سلبية على قدرة الشعوب التي تعرضت لتلك العقوبات من التمتع بحقوق الإنسان الأساسية، بما فيها الحق في الحياة ذاتها، خصوصاً أن هذا الاتجاه تكرر من عدة دول على مدار السنوات كوسيلة لمعاقبة دول أخرى دون وجود مبررات موضوعية لذلك.
كذلك من الأمثلة الني نشير إليها هنا في مجال الانتقادات الموجهة للمنظومة الدولية هي تجمد أو تراجع حالات حقوق الإنسان في بعض مناطق العالم من حيث الانتهاكات التي تتعرض لها، وكذلك الحديث عن عجز تلك المنظومة أحياناً عن التصدي لانتهاكات تستهدف فئات بعينها، بالإضافة إلى الانتهاكات التي تستهدف أحياناً فئات المهاجرين أو اللاجئين أو النازحين في مناطق متعددة من العالم بشكل عام.
وتبقى مع كل ما تقدم قيمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنه الوثيقة التي تحظى بأوسع توافق دولي في هذا المجال والتي تتصف بأعرض شمول متاح من جهة مضمونها، مع الإقرار بأن التطورات على الأرض تطرح كل يوم تساؤلات جديدة بشأن مكونات حقوق الإنسان وأفضل السبل لحمايتها وطبيعة الانتهاكات التي تتعرض لها.
* مفكر وكاتب مصري. | |
|