| | التاريخ: تشرين الثاني ٢٨, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | تجديد الخطاب الديني تحدٍ أمام السيسي لمواجهة التطرف | القاهرة – هبة ياسين
لم تتوقف مطالبات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لسنوات، وخلال مناسبات عدة، بضرورة تجديد الخطاب الديني بما يتوافق مع مستجدات العصر، متوجهاً بخطابه إلى المؤسسات المعنية وبينها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، إضافة إلى المثقفين، ورغم الجهود المبذولة في هذا الصدد لكنها لم ترق بعد إلى المأمول، ومازالت غير مرضية لطموحات الرئيس المصري. وهو ما كشفه حديثه الأخير أثناء الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف. إذ جدد دعوته بضرورة التجديد قائلا «أدعو علماءنا وأئمتنا ومثقفينا إلى بذل مزيد من الجهد في دورهم التنويري، دعونا نستدعي القيم الفاضلة التي حث عليها الإسلام ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تنادي بالعمل والبناء والإتقان لنواجه أولئك الذين يدعون إلى التطرف والإرهاب ورغم جهود هؤلاء العلماء والأئمة والمثقفين في هذه المعركة الفكرية والحضارية، إلا أننا نتطلع إلى مزيد من هذه الجهود لإعادة قراءة تراثنا الفكري قراءة واقعية مستنيرة نقتبس من ذلك التراث الثري ما ينفعنا في زمننا ويتلاءم مع طبيعة عصرنا وطبيعة مستجداته، دعونا ننقذ العقول من حيرتها وننبه النفوس من غفلتها وننشر المفاهيم السمحة».
ويرى السيسي أن ثمة إشكالية متمثلة في القراءة الخاطئة للنصوص الدينية التي تحتاج إلى مراجعة بعدما ساءت صورة المسلمين في أنظار العالم بسبب ما يقوم به بعض المتطرفين باسم الدين الإسلامي، الذي يتعرض لإساء بالغة ينبغي التصدي لها، وعلى مصر أن تنتهج مساراً عملياً حقيقياً في هذا الصدد.
ورغم محاولة البعض الترويج أن ثمة صراعاً بين الأزهر الشريف والرئيس، إلا أن الواقع يشي بغير ذلك، فالسيسي يدلل باستمرار على احترامه وتوقيره لشيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب وهو ما أكده خلال المناسبة ذاتها، إذ أشار إلى أنه لا يتحدث كـ « حاكم « بل كـ « مسلم «، وشدد أنه لا يوجه حديثه إلى شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف فقط، بل إلى كل المصريين لمعالجة السلوكيات التي تبتعد من صحيح الدين.
فيما تأتي أهمية تجديد الخطاب الديني لكونه أحد العناصر الأساسية في مواجهة التطرف، ولم يأت اهتمام السيسي بهذه القضية من فراغ، لكن فرضتها الضرورة، في ظل ما عانت منه مصر ودول المنطقة بفعل الإسلام السياسي، فهي القضية المشتعلة منذ سنوات، وتجلت آثارها المدمرة خلال السنوات السنوات الخمس الأخيرة مع تصاعد العمليات الإرهابية، وهي الموجة التي انحسرت آثارها في مصر بعد حرب شرسة مع التنظيمات التكفيرية.
ورغم المحاولات الكثيرة لتجديد الخطاب الديني وطريقة فهمه، إلا أنها تظل ظاهرية لم تقترب من جوهر ولب القضية ومن دون العمل على إعادة فهم الدين.
محاربة « الإرهاب» لا «التطرف»
وتظل المعضلة أن مصر تحارب «الإرهاب» بجدية بالغة على جبهات القتال على يد القوات المسلحة والشرطة، لكنها لا تحارب جذروه المتمثلة في الأفكار المتطرفة التي ترسخت بين قطاعات شعبية مختلفة المشارب وتسللت إلى الطبقات الفقيرة والثرية على السواء، عبر غسيل العقول وتحريف الدين الإسلامي، ومازالت تلك الأفكار تستخدم لتجنيد عناصر جديدة لا سيما بين قطاع المراهقين والشباب تحت شعارات ومفاهيم مضللة يتم تطويعها لخدمة أهداف سياسية، وازدهرت عملية التجنيد مع التطور التكنولوجي، فلم تعد المسافات تشكل عائقاً، إذ صار تجنيد الشباب متاحاً ويسيراً عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ما عزز ظهور مزيد من الخلايا العنقودية.
•« تعددية الصواب» لمواجهة الإرهاب
ويقول رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت - وصاحب عدد من المؤلفات حول تجديد الخطاب الديني – لـ(الحياة) «لا أؤمن بفكرة تجديد الخطاب الديني لكونه خطاباً قديماً، فالنص مقدس، ولكن طريقة فهمه غير مقدسة وثمة فارق بين الخطاب الديني والدين، فالدين هو القرآن والسنة الصحيحة، أما الخطاب الديني فهي طريقة فهم العلماء للدين والتي جاءت وفقا لظروف عصرهم، ومع تغير تلك الظروف فثمة ضرورة لتغيير الخطاب، وأظن أنني قدمت خطابا دينيا جديدا في كتاب «نحو تأسيس عصر ديني جديد «، الذي يتضمن كل منظومة الخطاب الديني الجديد، إذ طرحت مشروع تطوير العقل المصري والعربي، لكن هذا غير كافٍ لابد من تغيير طرق التفكير».
ولفت «كل الجماعات الإرهابية والمتطرفة تقوم على فكرة «الحقيقة المطلقة»، أحادية الفكر والصواب، فالصواب هو الصحيح وكل ما تبقى خاطئ، وفكرة «تعددية الصواب» تضرب الإرهاب في مقتل مباشرة. لأن الإرهاب قائم على فكرة الحقيقة المطلقة الواحدة، وهذا لا يتضح فقط من القرآن الكريم أو السنة لأن اللفظ القرآني في الآيات المتشابهات متعدد المعنى فلا يوجد معنى صحيح وآخر خاطئ بل كله صحيح، وهذه مرونة النص الإلهي التي تواكب مرونة الحياة وتطورها لأن سنة الله في الكون قائمة على فكرة التعددية، فأحد جوانب تأسيس خطاب ديني جديد هو فكرة «تعددية الصواب».
وتبدو الجهود المبذولة في هذا الاتجاه حرثاً في بحر، إذ لا يُشعر بأثرها وهو ما يتوافق معه الخشت بقوله أنه» في إطار تأييد دعوة الرئيس لتجديد الخطاب الديني ثمة جهود تبذل في هذا الصدد لكنها لا تصل إلى درجة تحقيق طموح القيادة السياسية، لأن التحول من عصر إلى آخر يقتضي أشياء كثيرة على كل الجبهات». لافتا إلى أن كتابه «نحو تأسيس عصر ديني جديد» يقدم الخطاب الديني الجديد لكن المشكلة هو كيفية الوصول إلى هذه الأفكار، فالخطاب الديني الجديد الذي ينظر إلى الدين نظرة عقلانية نقدية في ضوء ثوابت القرآن والسنة موجود، ولكن تلك الأفكار ليست منتشرة بالقدر الكافي وتحتاج جهوداً كثيرة في مجال الفن والثقافة والإعلام وفي المناهج التعليمية وعلى منابر المساجد والكنائس، كما تتطلب تضافر جهود مؤسسات الدولة كافة وليست المؤسسات الدينية فقط». وأوضح «الدين أمر يخص الجميع ونشر هذه الأفكار التجديدية من شأنها إزاحة الأفكار القديمة».
وشدد رئيس جامعة القاهرة أن شروط الانتقال من عصر إلى عصر تقتضي ألا يتم العمل على الخطاب الديني الجديد فقط بل السعي إلى تغيير طريقة تفكير الناس، كي لا تأخذ الأفكار الجديدة صيغة القديم».
•إرث ثقيل من التطرف
تبدو مهمة الإصلاح والتجديد عسيرة، فثمة ركام من التطرف تنامى على مدار العقود السابقة، ما زالت آثاره باقية حتى الوقت الراهن، إذ تجذرت الأفكار المتطرفة في بنية المجتمع المصري خلال العقود الماضية. وجرى توظيف الجماعات المتطرفة سياسيا منذ سبعينات القرن الماضي.
ويرى أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر أحمد كريمة أنه يجب ضبط مصطلح «تجديد الخطاب الديني» ووضع استراتيجية متكاملة توضح المحاور والوسائل والمقاصد. منوهاً في تصريحات لـ(الحياة) أن : « دعوة نبوية محمدية، إذ قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد للأمة دينها»، لكن يجب عمل استنفار مجتمعي جاد، بأن تمنح الجهات المعنية بالخطاب الديني الحرية الكاملة، كما ينبغي تحرير الخطاب الدعوي من أي مؤثرات سياسية أو أمنية». وأضاف كريمة «ينبغي تفعيل المادة السابعة من الدستور المصري الساري والتي تنص على «أن الأزهر الشريف وحده هو المسؤول عن الشؤون الإسلامية» بينما الواقع غير ذلك، وهناك كيانات موازية ومحاذية للأزهر، فما يبنيه الأزهر تهدمه التيارات المتطرفة».
ولفت «يتحمل الأزهر سياسات خاطئة وهناك حصاد مرير في التقارب بين حكومات سابقة والتيار الديني الذي أعطاه الرئيس أنور السادات قبلة الحياة، فظهرت معظم تيارات العنف خلال عهده، بينما عقد معهم الرئيس السابق حسني مبارك معهم مواءمات سياسية». وأشار إلى أن الأزهر لم ولن يقصر لكن امنحوه الحرية والدعم المادي والمعنوي، وضمان عدم الملاحقات القضائية من قبل متشددين، والدعم المالي والتفرغ العلمي للعلماء الأكفاء، واستخدامهم وعدم تهميشهم». وشدد كريمة «تغيير الخطاب الديني يحتاج إرادة حاسمة وتضافر جهود جهات أخرى منها وزارة الثقافة والشباب والرياضة والتضامن الاجتماعي لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمجتمعات الفقيرة يتسلل إليها الإرهاب والتطرف بسهولة».
•تجديد الخطاب مهمة تشاركية لا دينية
ويبدو العائق هو غياب استرايجية وخطة عمل موحدة تتبناها الدولة وتضع لها إطاراً زمنياً، لتخرج من طور المطالبات والآمال إلى أفكار ومنهج يجري تنفيذها تباعاً تتضافر فيها جهود المؤسسات المعنية.
ويرى البرلماني يوسف القعيد أن الخطاب الديني الحالي لا يجدي معه التجديد، مضيفاً في تصريحات إلى «الحياة» أنه : «عندما يكون هناك بيت آيل للسقوط ينبغي أن يعاد بناؤه لا ترميمه، ومن ثم فنحن بحاجة إلى فكر ديني جديد وليس خطابا، ولا يعني ذلك رغبتنا في تغيير الدين ولكن تغيير فهمنا واستيعابنا وطريقة تعاملنا معه وقراءتنا لنصوصه وهو أمر مهم للغاية» مشددا «لا ندعو للاقتراب من الثوابت المتمثلة في القرآن والسنة التي تشمل كل ما تركه لنا النبي من سنن، نحتاج الإسلام في التعاملات اليومية».
ومعلوم أن دعوات التجديد والتنوير ليست وليدة العصر الحالي بل شهدت القرون السابقة اجتهادات جمة من أجل الإصلاح والتجديد على يد إصلاحيين سواء جاءوا من داخل المؤسسات الدينية المصرية أو من خارجها، وخاض بعض «ذوي العمامة» معارك التنوير وحاولوا طرق أبواب الحضارة وخرج من عباءتهم أفكار التجديد الديني وبينهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، وهو أول معمم يذهب إلى باريس، والشيخ محمد عبده الذي عمل على إعلاء قيمة العقل وتحكيمه في أمور الدين والدنيا، وعلى النهج نفسه سار شيخ الأزهر محمود شلتوت، إضافة إلى أسماء أخرى ساهمت في عملية الإصلاح الديني والثقافي ومنهم محمود عباس العقاد وطه حسين وآخرون.
ويرى البعض أن مسؤولية تجديد الخطاب الديني تقع مسؤوليتها على عاتق المؤسسات الدينية التي ينبغي عليها تنقيح التراث ومواجهة التطرف والمتطرفين. ما يجدد التساؤل هل المؤسسات الدينية هي المعنية فقط التي ينبغي لها أن تتولى هذه المهمة أم هي مهمة تشاركية؟
وهو ما يجيب عنه القعيد بقوله إن تجديد الخطاب ليس مسؤولية المؤسسات الدينية فقط، فالدين أهم وأخطر في حياة الناس من يقوم عليه رجال الدين سواء في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، وإذا أردنا تجديد فهمنا للدين لابد من البدء في المدارس، وكذلك الأوقاف فليس كل من يعتلي المنبر جديراً بالخطابة أو قادراً على تقديم صحيح الدين، فكم من متشدد يعتلي المنبر ويبث سمومه، وثمة ضرورة بأن تتضافر جهود كل الجهات المعنية بالعقل الإنساني لتكون حاضرة في المشهد وبينها وزارة الأوقاف والتضامن الاجتماعي والمجلس الأعلى للإعلام، لأن الدين ينظم علاقة الإنسان بالله وعلاقته الإنسان بنفسه والآخرين.
بين الدين والحياة
وقالت أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر وعضو البرلمان آمنة نصير في تصريحات (الحياة): «هل نحن قادرون كأساتذة على ألا نقتلع من جذرونا ومصادرنا وألا نغترب عن مستجدات حياتنا ما بين عدم الاقتلاع وعدم الاغتراب فثمة جسر طويل يمتد بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وهل لدينا القدرة والمسؤولية للسير على هذا الطريق؟. هذه تساؤلات أطرحها دوما ولم أتلق إجابة عنها»، وتبرر نصير ذلك قائلة «من شب على شيء شاب عليه والعلماء المعاصرون هم نتاج التراث، والتراث يحدث به حالة من التقديس وعدم القدرة على الإضافة عليه فهم يعتبرون حفظة وورثة أمناء للغاية، عاشوا في هذه الثقافة ولم يلتفتوا إلى المستجدات المعاصرة، وهذا هو بيت القصيد وتحديد العلة». وأضافت «أنا أتوجه لهم كأستاذة جامعية أعمل في الأزهر لمدة 38 عاما وأعرف تمام المعرفة أنه أمر صعب، وأقول لمن يطالب بتجديد الخطاب الديني «لا تعشموا»، فمن شب على شيء شاب عليه ويصعب أن يخرج من جلبابه». لكنني أتوجه إلى أهل الرأي والعلم والثقافة وأساتذة الجامعات خصوصا أهل الاختصاص من علم النفس والاجتماع والثروة البشرية كي يخرجوا من تقوقعهم وأن يقدموا من علومهم ما يخدم القضايا البشرية، فالصمت وترك الأمر إلى المؤسسة الدينية هو نوع من تعطيل مفهوم التجديد». | |
|