|
|
التاريخ: تشرين الثاني ٢٧, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
غالباً ما يُصبح الوضع السيّئ في الشرق الأوسط أسوأ - سركيس نعوم |
أوّل مرّة تعرّفت إلى الدكتور ريتشارد هاس كانت في واحدة من زياراتي السنويّة لأميركا التي بدأت قبل عقدين. لم أعد أذكر التاريخ، لكن ما أذكره كان لقائي به في وزارة الخارجيّة حيث كان يترأّس مديريّة تخطيط السياسة. حاولت عبثاً تكرار اللقاء، ثم ضيّعته بعد تركه الإدارة إلى أن عُيِّن رئيساً لـ"المجلس العلاقات الخارجيّة"، وهو أحد أعرق وأكفأ مراكز الأبحاث في أميركا بل العالم إن لم يكن الأول بينها. كرّرت محاولة لقائه وبعد شيء من الفشل نجحت وصارت زيارته في مكتبه عندما أزور نيويورك مقرّه الرئيس ممكنة جدّاً إلّا إذا كان على سفر. أتحدّث عن هذا الأمر اليوم لا للتباهي أو التفاخر بل لأنّني تلقّيت منذ أيّام قليلة مقالة كتبها تعليقاً على قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصليّة بلاده في اسطنبول، وعلى دور سلطات بلاده فيها تحدّث فيها عن الطريقة الأفضل لمعالجة مضاعفات هذا العمل على العلاقة التحالفيّة الاستراتيجيّة بين أميركا والمملكة العربيّة السعوديّة. وقد رأيت من الضروري إطلاع اللبنانيّين وغيرهم على آرائه نظراً إلى واقعيّته ومعرفته العميقة بأوضاع بلاده والمنطقة بل العالم سواء من داخل الإدارات أو خارجها، فضلاً عن حكمته وحرصه على مصالح بلاده وحلفائها.
يُشير هاس في مقالته إلى أن بلاده تعيش منذ نحو شهرين حقيقة مُزعجة منذ مقتل خاشقجي في الظروف المعلومة، وإلى أن قسماً منها لا يمكن إنكاره وهو أنّه قُتل على أيدي أفراد لهم علاقات وثيقة بالحكومة السعوديّة وزعيمها واقعيّاً وليّ العهد محمد بن سلمان. وأسابيع من نفي هذا الأمر أعطى قوّة لهذا الاستنتاج ولا سيّما بعد صدور تقرير الـ"سي. آي إي" الذي اعتبر الجريمة مُخطّطاً لها ومُتّخذاً قرار بارتكابها وموافقاً عليها من القمّة. طبعاً قد لا يمكن إثبات دور وليّ العهد في ذلك، لكن معظم المراقبين القريبين من المملكة يعتقدون أنّها لا تتساهل مع قرارات يتّخذها "مستقلّون" (Free Lancers). وما يجعل الحقيقة نفسها مُزعجة هو الأهميّة الاستراتيجيّة للسعوديّة. فهي تُنتج نحو 10 في المئة من نفط العالم. وصندوقها السيادي يحتوي على نحو 500 مليار دولار أميركي. وهي الدولة العربيّة السُنيّة الأكثر نفوذاً، وتُمارس دوراً مُهمّاً وخاصّاً داخل العالم الإسلامي جرّاء وجود الحرمين الشريفين على أرضها، فضلاً عن أنّها مركزيّة في أي سياسة لمواجهة إيران.
إلى ذلك، يقول هاس إن وليّ العهد مع كل أخطائه إصلاحي نوعاً ما فهم أن بلاده يجب أن تنتفح وأن تنوّع وتتنوّع إذا كانت تريد أن تنمو بقوّة وتُنتج، وإذا كانت العائلة المالكة تريد أن تبقى حيّة أي حاكمة. فضلاً عن أنّه شعبي وخصوصاً في أوساط السعوديّين الشباب الذين يُشكِّلون الشريحة الأكبر من الشعب. لكن المشكلة هي أن أخطاء وليّ العهد الشاب والمُندفع عديدة. فإلى قضيّة خاشقجي أمر بشنّ حرب على اليمن، التي تحوّلت أو قد تتحوّل مساوية لحرب أميركا في فيتنام، والتي صارت كارثة استراتيجيّة وإنسانيّة، واحتجز رئيس حكومة لبنان قبل أشهر، وفعل ما يستطيع لتقويض دولة قطر، وأوقف سعوديّين أثرياء رفضوا مماشاته في تعزيز سلطته، وجمّد العلاقات الديبلوماسيّة الكنديّة جرّاء انزعاجه من "تغريدة" تويتريّة لرئيس حكومة كندا، وسجن نشطاء سياسيّين بما في ذلك نساء يَسعَيْن إلى مزيد من الحقوق.
ما هي استراتيجيا السعوديّة للتعامل مع جريمة خاشقجي؟ هي في رأي هاس خفض حجمها وتهدئة العاصفة التي أثارتها. وبن سلمان وأعضاء محيطه يعتقدون أن غضب العالم سوف يذبل نظراً إلى أهميّة بلادهم، وأن الدول العربيّة السُنيّة ستقف إلى جانبها جرّاء مساعداتها ودعمها. إلى ذلك أشارت إسرائيل إلى دعمها وليّ العهد جرّاء ميله إلى تطبيع العلاقات معها، وأيضاً جرّاء وجود مصلحة مُشتركة لهما معاً هي مقاومة النفوذ الإيراني في المنطقة. كما أنّ رئيس أميركا ترامب يقف إلى جانب هذا الرجل رافضاً حتّى الآن الاعتراف بدوره في قتل خاشقجي ومقاوماً الدعوات إلى فرض عقوبات على العربيّة السعوديّة.
في هذا المجال يُشير هاس إلى أن الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، وهو كان جزءاً من إدارته، تعامل مع "مجزرة تيان أن مين" الصينيّة بحكمة. فهو من جهة فرض بعض العقوبات على الصين لإظهار الانزعاج من حكومتها لكنّه جعلها محدودة وأبقى الاتصال قائماً معها جرّاء أهميّتها. فهل سياسة مماثلة للمذكورة ممكنة التطبيق مع السعوديّة؟ مبدئيّاً قد تُعلِم أميركا والحكومات الأوروبيّة المملكة أنّها قد تكون مُنفتحة على التعاون معها إذا قُلّصت سلطة وليّ عهدها، فضلاً عن ضرورة وضع حدود لمبيعات السّلاح الأميركي والدعم الاستخباري لها. وهذا أمر ربّما يفرضه الكونغرس الأميركي. لكن الأهمّ من كل ذلك هو رفع الضغط العام والخاص على بن سلمان كي يتجنّب ما يجب أن يتجنّب من أعمال وقرارات. وفي هذا المجال هناك حاجة لدفع مُنسّق لإنهاء الصراع في اليمن، ولمنع استغلال عداء ترامب لإيران الذي قد يتسبّب بمواجهة مُسلّحة بينهما. ذلك أن حرباً مع إيران ستكون مُكلفة وخطيرة. ولذلك لا بُدّ من إفهام وليّ العهد أن أميركا ستكون شريكاً استراتيجيّاً لبلاده فقط إذا مارس ضبط نفسٍ كبير في اليمن وأمكنة أخرى. ويُنهي هاس مقالته بالإشارة إلى ضرورة إجراء أميركا مشاورات مع الصين وروسيا، إذ تمتلك الدولتان علاقات عمل مع السعوديّة وإيران. ومن شأن ذلك إعطاء كل منهما فرصة لمنع نشوب حرب مع إيران أو لوقفها في سرعة إذا نشبت. لكن غالباً ما يصبح الوضع السيّئ في الشرق الأوسط الوضع الأسوأ. ووليّ العهد بن سلمان خلق وضعاً سيّئاً. والهدف يجب أن يكون وضع حدود كافية لعدم تحوّله أسوأ. في النهاية تثير مقالة هاس تساؤلاً هو الآتي: ألا يُعادل تأييد شباب السعوديّة لـ"إصلاحات" بن سلمان رفض المتشدّدين منهم ومن كبار السنّ لها؟ |
|