التاريخ: تشرين الثاني ٢٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
الإسلاميون ومعضلة اليساريين - أحمد الحناكي
كما في أي آيديولوجية أخرى، إسلامية كانت أم مسيحية أم يهودية، أم قومية كانت أم ليبرالية أم يمينية، فإن اليسار يشترك معهم في تلك الخطايا أو المعضلات أو ما اسميه «التطرف». كتبت وكتب آخرون من قبلي أن الفارق كبير بين اليسار وبين اليساريين، وبين الإسلام وبين الإسلاميين، وهذا ما يسري على التيارات الأخرى.

استهلاليتي أعلاه «طرقت» ذهني بشدة بعد قراءتي مقالة أكثر من رائعة للكاتب اليمني حسين الوادعي بعنوان «اليسار الأوروبي الذي يحب الزرقاوي ويكره طه حسين»، فكرة المقالة تتمحور حول العنوان ذاته، وهو الهوس الذي يصيب التقدميين إجمالاً عندما يتعلق الأمر بأميركا وسياساتها واصطفاف جميع التيارات عدا من يدور في الفلك الأميركي بمواجهة ما يسمونه الرأسمالية المتوحشة، أو وصف أميركا بالشيطان الاكبر. هنا ليس الخلاف، بل الخلاف هو هذا التحالف المشبوه بين تيارات تنادي بالعدالة والحرية والمساواة مع أخرى موغلة بالدم والإرهاب والعنف والتخلف.

سأورد مقطعاً مهماً من مقالة الوادعي يوضح الفكرة، إذ كتب «قابلت فرانسوا بورغا في صنعاء عام 2002 لإجراء لقاء تلفزيوني، كنت سعيداً بلقاء هذا الاسم الفرنسي اللامع في سماء دراسات الإسلام السياسي المهموم بتقديم صورة (صحيحة) عن الإسلام للغرب.

كان الحديث معه شيقاً، لكنني استغربت نبرة الإعجاب المفرطة في كلامه عن حركات الإسلام السياسي. كان يعتبر أن الحركات الأصولية هي المعبّر الحقيقي عن صوت الشعوب الإسلامية. أما اليساريون والليبراليون والقوميون فهم رسل للقيم الغربية البعيدة من (روح) تلك المجتمعات.

بدا هذا واضحاً من خلال عنوان كتابه الأشهر (الإسلام السياسي.. صوت الجنوب). فحركات الدين السياسي من وجهة نظره سواء أكانت خمينية أم إخوانية أم سلفية هي الناطق الحقيقي بأصوات العرب والمسلمين المقهورين. أما الحديث عن قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والفردية، فمجرد استيراد لقيم الغرب الاستعماري التي لا تنطبق على الشعوب الأخرى.

لم يبد لي بورغا ذلك اليساري الشجاع الذي تخيلته، بل مجرد مستشرق بشعارات يسارية سيشكل مع أبناء مدرسته من اليسار الأوروبي ما سمّاه صادق جلال العظم «الاستشراق المعكوس». ولا يوجد فارق حقيقي بين الاستشراق التقليدي والاستشراق المعكوس، غير أن الأول ينظر للشعوب الشرقية باحتقار، لأنها شعوب تقليدية غارقة في الدين والخرافة وعاجزة عن تبني قيم الحداثة، بينما ينظر الاستشراق المعكوس للشعوب الشرقية بإعجاب للأسباب ذاتها، أي لأنها رافضة لقيم الحداثة والإمبريالية وقيم العقل والعلم والتقدم».

سبق أن كتبت مقالة من قبل أرى فيها أن المثقفين الغربيين إجمالاً لا يستطيعون فهم ما يجري لدينا، أو معرفة ثقافتنا وقيمنا وعاداتنا وطريقة التفكير والعلاقات المعقدة من خلال المذاهب والمرأة والقبيلة، وصحيح أن الوادعي لم يتحدث عن المملكة، غير أن أمثلته من الغربيين كفرانسوا بورغا وآلان غريش وإيان هاليفي تنطبق عليهم هذه المثالب، فلن تستطيع فهم طبيعة وتطلعات ومطامح ومشاعر أي مجتمع في العالم طالما لم تعش فيه مدة طويلة من الزمن، وحتى هذا لا يكفي من دون أن يتم اخترق حاجز المجتمع المحافظ وهو أمر صعب جداً في المجتمعات الشرقية، خاصة أننا نتحدث عن آراء مفكرين بنوا تقييماتهم وآراءهم في عقود سبقت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة.

أزعم أن الأمر لا ينطبق على اليساريين الأوروبيين فقط فيما يخص العداء لأميركا والتحالف حتى مع الشيطان إزاءها، بل إن هناك يساريين عرباً انتهجوا الخط نفسه، فهناك ماركسيون كعادل حسين ومحمد عمارة انخرطوا في لعبة الفكر الإسلامي السياسي، وهو تحول غريب خاصة بعد تجاوز عمر الـ40 والـ50، وكما ذكرت في مقدمة مقالتي دعونا من المسميات، فكل من يخرج على فكره الآيديولوجي لا يعيب الآيديولوجيا ذاتها، ولا يمكن لشخص ينتمي لليسار أو الليبيرالية أن يمجّد شخصاً كالزرقاوي أو ابن لادن فهذا لا يستوي.