التاريخ: تشرين الثاني ٢٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
ما يحدث في تونس - محمد بدرالدين زايد
تشهد تونس، ذلك البلد العربي الجميل، أحداثاً وتطورات مهمة، أبرزها الاتهام الموجه إلى حزب النهضة بأن لديه تنظيماً سرياً للاغتيالات، أمر لا يبدو لمن يعرف تاريخ حركة الإخوان المسلمين في مصر غريباً، ولكن تجاهل الإعلام الغربي لهذه المسألة أمر أيضاً ليس بالغريب، ورغم الاهتمام المحدود إعلامياً في غالبية وسائل الإعلام الغربية – فيما عدا الفرنسية- بالإضراب الكبير منذ أيام قليلة لاتحاد الشغل التونسي والذي شمل نسبة ضخمة من العاملين في الجهاز الحكومي والتي تشير إلى استمرار القلاقل الاقتصادية الاجتماعية، ولكن مازال النموذج التونسي يثير الكثير من التوقعات والآمال عند كثير من الأوساط الغربية، فتونس ومصر فقط هما من استطاعا تجاوز المصير الصعب الذي تعرضت له مع بلدان أخرى مرت بها الاضطرابات والثورات منذ ست سنوات، وذلك بسبب قوة مؤسسات الدولتين، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي تدخلت في التوقيت المناسب لمنع تحول هذه الاضطرابات إلى فوضى وتجاوزات بانحيازها إلى شعبي البلدين، وكل منهما أدار الأمر بطرق مختلفة، ومسار وناتج مختلفين.

والبداية لهذه التطورات من مرحلة أسبق كثيراً، فتونس كانت تالية لمصر في مواجهة تحدي النهضة وإشكالية الأصالة والمعاصرة، مصر واجهت هذه اللحظة التاريخية الصعبة مع الحملة الفرنسية على مصر 1798، وتونس لاحقاً بسبب موقعها وقربها من أوروبا المتوسطية خاصة فرنسا وأطماعها في المنطقة، ومثل مصر وربما بنطاق أصغر كانت هناك حركة فكرية مع نهايات القرن التاسع عشر تبحث في الأسلة الصعبة التي مازالت مطروحة حول أسباب التخلف والتراجع العربي والإسلامي، وكيفية بناء النموذج الحضاري والثقافي، وكيفية حماية الهوية والتطور في الوقت ذاته، وخلافاً لمصر حيث لم تحاول ولم تتمكن بريطانيا من التغلغل الثقافي في مصر، نجحت فرنسا بالتأكيد في التغلغل في المجتمع التونسي. وخلافاً لمصر ومجتمعات عربية أخرى بعد الاستقلال من الاحتلال الأجنبي، جاء النموذج التونسي أكثر انفتاحاً خصوصاً اجتماعياً، وبدا وكأنها قد تحررت بعض الشيء من القيود الثقافية والاجتماعية التي تعرفها غالبية المجتمعات العربية، وعندما قاد بن على هذا المجتمع إلى نموذج سياسي شديد الانغلاق والقمع كان يخلق خيارات سياسية متناقضة داخل المجتمع التونسي، كما أن المجتمع قد تحول إلى العلمانية دون نسق فكري متكامل، وبتجاهل للمجتمعات الريفية التونسية التي حافظت مثل تركيا على كثير من مكوناتها الدينية التقليدية ما سمح لجماعات الإسلام السياسي التي وجدت دعماً إقليمياً ودولياً من مصادر مختلفة أن يضع أقدامه في بعض الأوساط التونسية خاصة الريفية كما سبق. وفي ظل الفراغ السياسي الذي تلا الثورة التونسية وإشكالية غياب التيارات السياسية والأحزاب القوية المستندة إلى مشروع فكري متكامل وجد حزب النهضة وتيارات الإسلام السياسي مساحة وحضوراً في الانتخابات السياسية التي تلت الثورة التونسية. صحيح أن هذا الحضور سرعان ما تقلص، وتراجعت حركة النهضة، أو أدعت ذلك، عن ارتباطها بحركة الإخوان المسلمين، وحاولت أن تبدو بمظهر أكثر تسامحاً بعد تراجع الحركة الأم وهزيمتها في مصر، ولكنها وسط احتفاء غربي مازالت شريكاً في الساحة السياسية التونسية، واستمرت في الحصول على حضور سياسي مهم في آخر انتخابات بلدية.

والسؤال إذن إلى متى هذه الظاهرة؟ وهل التطورات التي تشهدها الساحة التونسية من وقت لآخر، مثل الاتهامات سابقة الذكر بأن لديها تنظيماً سرياً للاغتيالات، ثم أخيراً الضجة التي أثيرت حول غضب بعض الوزراء السابقين من تصريحات ضدهم حول اتهامهم بالفساد ونيتهم مقاضاة الغنوشي، وهي مسألة بالطبع أقل أهمية من المسألة الأولى. أو تلك التقارير التي تتحدث عن استطلاعات للرأي العام التونسي، لا نعرف مدى دقتها، وتتحدث عن تراجع شديد في شعبية الغنوشي، في جميع الأحوال ثمة قضايا أساسية وأخرى ثانوية فيما يتعلق بمستقبل النهضة في تونس.

أعتقد أن القضية الأساسية التي تواجهه هذا الحركة وغيرها من كل تيارات الإسلام السياسي أنها لا تجب على التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمعات العربية والاسلامية وهو التحدي الذي ادعت تاريخياً أنها تجيب عنه، وهو كيفية التقدم والنهضة الاقتصادية والاجتماعية مع الحفاظ على الهوية، فليس هناك من تصور حقيقي للمستقبل، وعندما ادعت النهضة مثلما ادعى الإخوان المسلمون أنهم يقبلون الآن الشكل الحديث للديموقراطية الغربية، فإنها لم تقطع الماضي مع كتابات الحركة التاريخية المعادية لهذه الرؤية، ولم تتوقف كذلك عن التعاون والتواصل مع حركات سياسية إسلاموية متطرفة ترفض صراحة هذا النهج السياسي وما زالت تستخدم مفاهيم متخلفة للنظام السياسي فضلاً عن توظيف العنف والقمع كسبيل أساسي للوصول للحكم وعدم السماح بتداوله، والصلات التي تتكشف لحركة الإخوان المسلمين في مصر بهذه الجماعات، وتتأكد بشكل دائم في الحالة الليبية، ستظل تطارد حركة النهضة التونسية، من خطورة إثبات علاقة هذه الحركة بتنظيم سري قد تثبت مسؤوليته في حالات اغتيال شهدتها الساحة التونسية، سيكون الأمر شبيه بالحالة المصرية التي استغرق اقتناع المتشككين في وجود هذا التنظيم السري لدى الإخوان سنوات طويلة، ولم يقبلوا الاعتراف به إلا بعد اعترافات منشورة لقيادات إخوانية، وذلك رغم حسم هذه المسألة من جانب الدولة في مصر ومن جانب دراسات علمية حصيفة ومدققة منذ سنوات طويلة، ومن ثم فهذا الفكر تاريخياً ينتهج هذا الاتجاه بشكل سوف يبدو معه العكس هو الأقل إحتمالاً.

المشكلة في تونس كالمشكلة في سائر المنطقة من غياب حركة سياسية ذات رؤية شاملة للمستقبل والتنمية ولن تكون بحاجة لمخاطبة سؤال الهوية، فهي في مجتمع له خصوصيته الثقافية التي ليست بحاجة للدفاع عنها أو لإقحامها قسرا ًفي كل نواحي الحياة بما يسيء لهذه الهوية الدينية بأكثر مما يخدمها. كما تتعقد المشكلة في الحالة التونسية أكثر ليس فقط لغياب هذه الحركة السياسية أو الحزب الذي يقود حركة المجتمع، وإنما أيضاً لغياب قيادة تونسية شابة تقود التيارات المدنية التي تعاني تشرذمها وحداثتها في العمل السياسي، ما يعطي وأعطى بالفعل فرصة لتيار الاسلام السياسي أن يشغل حيزاً من الساحة التونسية، وأبلغ دليل على هذا في استدعاء شخصية سياسية متزنة ولها تاريخها المشرف رغم تقدمها الكبير في العمر لرئاسة الدولة ومحاولة إعادة التوازن لهذه الساحة. إذا كانت بعض الأوساط الغربية ما زالت تراهن على النموذج التونسي كونه ترك مساحة حركة للإسلام السياسي، فإنني أراهن بالعكس أن هذا المجتمع سيصل بهدوء إلى كشف زيف إدعاءات هذه التيارات وعدم حاجة الدين ولا هوية المجتمع لهذه التيارات، ولكن سيبقى الخطر على هذا المجتمع من أعداد العناصر التونسية التي انضمت لداعش أو القاعدة وما زال غالبيتهم يتركز في ليبيا وسورية وسيصبحون مصدراً للخطر في بلادهم عند عودتهم، وهو خطر دون التقليل منه ستحتويه كفاءة الأجهزة التونسية وطبوغرافيا تونسية سهلة بدرجة كبيرة، وربما ظروف دولية وإقليمية متحولة من الصعب تحديد آثارها بدقة حتى الآن فيما يتعلق بالدعم الخارجي لهذه التيارات، في جميع الأحوال تونس المشرقة ما زالت تموج بالتحولات، وستثبث لهذه الأوساط الغربية هشاشة تصوراتها حول مستقبل المنطقة.

* كاتب مصري.