التاريخ: تشرين الثاني ١٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
الكهرباء.. خيانة عظمى - مشرق عباس
عندما قررت الولايات المتحدة منح العراق 45 يوماً فقط لتسوية ملف استيراداته بالدولار من الغاز والكهرباء الايرانيين، كانت قد وضعت اصحاب القرار امام خيارات معقدة، وبمواجهة حلول وبدائل تبدو مستحيلة لتوفير الكهرباء خلال موسم الصيف القادم، ولكنها القت المزيد من الضوء على ملف عراقي غامض يدور في فلك الارقام والتبريرات المبهمة، ويرفع من وتيرة الشكوك حول ما هو ابعد من الفشل والفساد قاد ويقود الى خراب هذا البلد.

يحتاج العراق حسب المختصين قرابة 25 الف ميغاواط من الطاقة الكربائية، لتلبية احتياجات السكان، وهذا الرقم يتصاعد ليصل الى 30 الف ميغاواط خلال العامين المقبلين، لكنه ينتج في المقابل 9 الاف ميغا واط معتمداً على محطاته التي تعمل بالغاز او النفط الاسود المنتج محلياً، ونحو 4.5 الاف ميغا واط تنتجها محطات غازية عراقية مرتبطة بانبوب ناقل للغاز الايراني المستورد، بالاضافة الى 1250 ميغا واط مصدرة بشكل مباشر من ايران.

وهذه الارقام تكشف اعتماد العراق على الكهرباء والغاز الايرانيين بنحو ربع احتياجاته من الكهرباء، فيما يعاني مع ذلك عجزاً يصل في الصيف الى قرابة 10 الاف ميغا واط، ما يعني ان تطبيق العراق للعقوبات الاميركية وفشل قادته في اقناع واشنطن باستثناء دائم، يسقط البلاد في ازمة طاقة كهربائية غير مسبوقة، مع العلم ان العجز عن توفير الكهرباء كان من ابرز اسباب تظاهرات البصرة والجنوب اخيراً، وهي قضية وقفت دائماً خلف حركات الاحتجاج العراقية التي تساءلت على الدوام عن المنافذ التي ذهبت اليها قرابة 40 مليار دولار صرفت على الكهرباء خلال السنوات الماضية في الموازنات الحكومية.

ثلاثة عوامل تدور في فلك هذه القضية، الاول هو عجز العراق عن ربط منظومته الكهربائية بدول المنطقة باستثناء سورية وايران، والثاني يخص العجز عن انتاج الغاز الذي يهدر من سنوات في الابار النفطية لتزويد محطاته بالغاز، والثالث هو الاصرار على عدم تحديث شبكة نقل الطاقة الكهربائية الداخلية. المعلومات المتوفرة ان السعودية والكويت والاردن قدمت للعراق عروضاً للربط الكهربائي، ويسرب بعض الحكوميين ان العروض من الدول الثلاث كانت تشمل تكفلها بناء الخطوط الناقلة حتى حدودها، على ان يتكفل العراق ببناء هذه الخطوط حتى حدوده، حيث قدر الخبراء تكلفة كلية لهذه الخطوط الثلاثة بما لايزيد عن 100 مليون دولار، لم تتمكن الحكومات العراقية المتعاقبة من توفيرها!. في الملف الثاني عجزت الحكومات العراقية عن ايقاف الهدر في الغاز المصاحب في الحقول النفطية، على رغم ان التقديرات تؤكد قدرة العراق على تصدير الغاز بعد سد احتياجاته، ومع ان شركات عالمية كبرى قدمت عروضاً مغرية لاستثمار الغاز المصاحب، وان هذه الشركات مازالت تضع هذه العروض على مكاتب وزراء النفط المتعاقبين.

وفي الملف الثالث يقدر الخبراء ضياع ما يصل الى ربع الطاقة الكهربائية المنتجة داخلياً، بسبب رداءة وتهالك شبكات نقل الطاقة، وعدم المباشرة بتحديثها، وان لاخطة فعلية لتحديثها فعلياً لا اليوم ولا غداً. رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي شغل منصب وزير النفط سابقاً، وهو على اطلاع مباشر على ملف الكهرباء واسراره، وكان كتب مقالاً في شهر تموز الماضي بالتزامن مع تظاهرات البصرة حول الحلول المصرية المعلنة لتوفير الكهرباء جاء في ختامه: "اعتقد ان المشكلة لدينا ليست مالية او فنية، بل هي الفساد والبيروقراطية والتخبط في الخطط والمافيات في الدولة وخارجها والتجاوزات. فنحن نعلم ان هناك مذكرات وقعت مع (سيمنس) وغيرها. فهل سنرى النتائج قريباً؟ ام ان للعراق اسرارا اخرى" (انتهى الاقتباس). والإجابة: نعم "للعراق اسرار اخرى" وهي اسرار قد تتجاوز الفساد والبيروقراطية الى "الخيانة العظمى" التي سمحت بتحويل ملف يخص عصب حياة البلد وابرز واجبات الدولة ازاء مواطنيها مثل توفير الطاقة الكهربائية الى قضية سياسية، قبل ان تكون فنية.