| | التاريخ: تشرين الثاني ١٨, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | مؤتمر باليرمو وماترك لليبيا - محمد بدر الدين زايد | انتهى اخيراً المؤتمر الذي استضافته إيطاليا في مدينة باليرمو، في حضور دولي وإقليمي مناسب، والأهم مشاركة الأطراف الليبية الفاعلة كافة، وإن كان المشير خليفة حفتر قد تجاوب بالحضور في أهم لقاء على هامش المؤتمر، وكذا عقد لقاءات أخرى فرعية دون أن يشارك في المؤتمر ذاته، وهو ما سنعود إليه لتوضيح الدلالات العديدة للنهج الذي اتبعه حفتر، وقد صرح رئيس الوزراء الإيطالي كونتي بأن نتائج المؤتمر فاقت التوقعات، بينما تحدثت كثير من وسائل الإعلام البارزة عن أن المؤتمر لم يسفر عن نتائج واضحة. وعلى رغم أن التقييم المتكامل للآثار التي نتجت من هذا المؤتمر ربما ستحتاج إلى بعض الوقت إلا أنه يمكن طرح عدد من الدلالات المهمة.
على أنه قبل ذلك، وكالمعتاد في تقييم أي مؤتمر أو اجتماع دولي علينا أن ننظر فيما أسفر عنه من مخرجات ونتائج ومن بينها البيان الصادر، والذي شمل ضرورة تحميل المؤسسات الشرعية مسؤولياتها من أجل إجراء إنتخابات نزيهة وعادلة بأسرع وقت ممكن، مع ضمان توافر الشروط الفنية والتشريعية والسياسية والأمنية، والدعم من المجتمع الدولي، والتأكيد على اعتماد دستور من أجل تحقيق السيادة، والتأكيد على اتفاق الصخيرات، كما أشار البيان إلى عقد مؤتمر وطني جامع لكل الأطراف الليبية، وأن تعقد الانتخابات في ربيع العام المقبل 2019، ووفقاً لما سبق، فإن البيان كما وصفته كثير من المنابر الإعلامية غير واضح المعالم ولم يضف كثيراً، ربما باستثناء الحديث عن مؤتمر وطني جامع والذي لم يركز عليه اجتماع باريس منذ شهور عدة، كما أن البيان أعاد التأكيد على أن الحل في الانتخابات كما جاء في اجتماع باريس، فقط مع نظرة أكثر واقعية بإعطاء مزيد من الوقت للتحضير، أخذاً في الاعتبار أن هذا الحل كان محل سخرية إيطالية، ولكنها لم تنجح في باليرمو من وضع خارطة طريق حاسمة لتحقيق هذا الهدف مثلها مثل باريس، كما واصل المؤتمر مسألة قيام مصر بمواصلة جهودها لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية. السؤال إذن ما الجديد، وما المهم في دلالات هذا المؤتمر؟
-في الواقع أن أهم دلالة سيكون لها انعكاسات كبيرة في المشهد الدولي المحيط بليبيا، هي تكريس مكانة المشير خليفة حفتر دولياً وإقليمياً، فالواضح أنه لقي المعاملة الأكثر تميزاً من بين القادة الليبيين، وبصرف النظر عن وزن الأقاويل بأنه لم يشارك في باليرموا إلا بناء على وساطة مصرية وروسية – وهو أمر تبدو احتمالاته أكبر- رغم حرص كونتي على نفيها، والتأكيد على أنه حضر بناء على وعد شخصي من حفتر لكونتي شخصياً، ولكن حفتر حضر بشروطه مؤكداً على موقف ورسالة محددة ليس فقط ضد التيارات الإسلامية المتشددة التي قال إنها شاركت في المؤتمر، بل الأهم ضد الدول التي تدعم هذا التيار المتطرف وتحديداً تركيا وقطر، اللتين لم يكن غيابهما عن الاجتماع المصغر الأهم في باليرموا إلا رسالة محددة لا يمكن تجاهلها، والأرجح أن هذا لم يكن موقف حفتر وحده، بل أيضاً أطراف أقليمية أخرى معروف موقفها بهذا الصدد، وسنعود للبعد الخاص بتركيا، وإنما نؤكد فقط أن حفتر خرج أكثر حضوراً، وتتسارع الأطراف الغربية على مقابلته، وقبول مشاركته بشروطه، بل ويكون هم كونتي التأكيد على أن حفتر يدعم الانتخابات، وتبرز وسائل الاعلام بسعادة أنه يقبل باستمرار السراج حتى الانتخابات في اشارة واضحة للدور الذي يلعبه والاتجاه الذي يمثله وهو الأهم، و لم يكتف حفتر بذلك، بل حرص على التأكيد على أن منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة مرتبط بالرئيس المقبل المنتخب، وليس بأي منصب موقت. وقال إن دمج الميليشيات المتطرفة في الجيش غير مطروح.
أما تركيا فقد خرجت غاضبة من المؤتمر بسبب عدم دعوتها للاجتماع سابق الذكر، وانسحابها علق عليه رئيس الوزراء الإيطالي كونتي بأنه لم يغير الأجواء الإيجابية للمؤتمر رغم أنه مصدر للأسف، أي بعبارة أخرى يضيف صفعة أخرى لتركيا، ولتهدد تركيا بأن أي تسوية غير ممكنة من غيرها، في اعتراف آخر بمسؤولياتها عن تدهور الأمور في ليبيا من خلال دعم التنظيمات الإرهابية الحليفة مع كل تشكيلات الإسلام السياسي، واذا اتسع نطاق العمليات العسكرية التي بدأتها الميليشيات في طرابلس الخميس الماضي فإن هذا سيعني مزيداً من التأكيد التركي لطبيعة دورها في ليبيا، وسيكون من الواضح أنها، أي تركيا، لا تقرأ التحولات الجارية في المشهد الليبي، فالقبول الدولي المتزايد بحفتر، هو تراجع ضمني عن تقديم الغطاء لتركيا وقطر وحلفائها الليبيين، وأظن أن مفتاح فهم هذا من تفسير تحولات الموقف الإيطالي بشكل أساسي. وربما يجب أن تكون بداية الموقف الإيطالي من الدور الإيطالي الملتبس منذ بداية الأزمة الليبية، ففي بداية التصعيد الغربي الفرنسي ضد القذافي، وقفت إيطاليا مرتبكة ومتخوفة من هذا التدخل المتسارع، ومن الدور الفرنسي تحديداً، مسترجعة تنافساً تاريخياً بين الجانبين حول ليبيا وثرواتها، وعندما أسفر هذا عن تشوه الأوضاع في ليبيا، وتم زرع الميليشيات المسلحة وإرباك الحياة السياسية الليبية، لعبت إيطاليا دوراً سياسياً مشبوهاً، عندما ظنت أن عليها المراهنة على فصائل الإسلام السياسي، وكانت ذروة هذه المراهنة عندما انعقد مؤتمر روما الدولي حول ليبيا في أوائل 2014، وأربكت المشهد كله بدعوة السيد نوري أبو سهمين رئيس المجلس الوطني الليبي المنتهية ولايته، والقيادي الإخواني المتطرف المرتبط بجماعات توظيف الدين في السياسة، مع خصمه رئيس الوزراء علي زيدان، ليس فقط ليفشل المؤتمر، وإنما أيضاً لتخلط الأوراق ويعود أبو سهمين ليتمكن بخطوات غير قانونية ولا دستورية من إزاحة زيدان وسط دعم تركي قطري وتؤاطو غربي ملحوظ، في محاولة جديدة لإنجاح هذه التيارات بعد فشلها في مصر، ولهذا عندما تصاعدت عمليات الاغتيال في ليبيا ضد كل من يعارض هذه التيارات وكذا ضباط الجيش، وظهرت عملية الكرامة وقائدها حفتر، لم تستقبل روما هذا التطور بسعادة، بل كانت من أكثر المتشككين الغربيين في الفترة السابقة، ومع تطور الأمور بسيطرة حفتر والجيش الليبي على الشرق والتطور الكبير في الموقف الفرنسي في التقارب مع حفتر واضح أن إيطاليا بدأت خطوات في الاتجاه الآخر، ومتابعة تطور علاقتها في هذا الاتجاه تجعل من أهمية هذا المؤتمر ليس فقط عودتها للعب دور فاعل وإنما تقديم السياق لتحولات دورها، والذي جاء إخراج المشهد مع تركيا ملائماً له للغاية، وكلا اللاعبين الإيطالي والفرنسي يمارسان نفس المنطلقات- الحديث عن الانتخابات وضماناتها، دون رفض أو عداء مباشر مع فصائل الإسلام السياسي، ولكن أيضاً دون تغطية وتساهل مع جرائم هذه الميليشيات، ولا تغطية مع داعميها - والموقف الأميركي المجامل لإيطاليا والذي لم يكتف بالدعم الضمني، بل حرص على إصدار بيان إشادة بالمؤتمر وإيطاليا يصب في التيار نفسه تدريجياً، فواضح أنه يدعم إيطاليا في مواجهة فرنسا ولا يمانع بدوره من إعطاء فرصة تالية لفصائل الإسلام السياسي في الانتخابات الليبية دون أن يصل هذا إلى حد فرضها على الشعب الليبي، بالاختصار يمهد لنفسه لتوقع هزيمتها، ومن ثم لم يعد متحمساً للدعم الخارجي التركي القطري الذي يصب في خانة الأكثر تطرفاً في الساحة الليبية، وما يعنينا بالنسبة لإيطاليا أنها على الأقل تستطيع أن تعتبر هذا المؤتمر شهادة تأهيل جديدة لها في ليبيا.
وتبقى الأسئلة الأهم بالنسبة إلى مستقبل الشعب الليبي ذاته ومدى إمكانية خروجه من هذه الأزمة المعقدة. الواضح أن الأمور مازالت صعبة، لأن السؤال سيظل قائماً حول كيفية الإشراف على الانتخابات وحمايتها من اعتداءات وتجاوزات الميليشيات، وكيفية التعامل مع هذه الميليشيات بعد هزيمتها الأكثر توقعاً في الانتخابات المقبلة أو بمعنى آخر هزيمة التيارات السياسية التي تعتمد على هذه الميليشيات؟ أسئلة صعبة لكنها ليست مستحيلة إذا اكتملت تحولات الأطراف الفاعلة في الاتجاه الصحيح التي ربما كان مؤتمر باليرموا أحد إرهاصاتها.
* كاتب مصري.
| |
|