| | التاريخ: تشرين الثاني ٩, ٢٠١٨ | المصدر: جريدة الحياة | | العولمة والشعبويات - حسن شامي | لم تعد البورصة أيقونة الاقتصاد المالي فحسب. فهي تمددت ولا تزال إلى حقول أخرى مثل السياسة والثقافة والإعلام والرياضة. يجوز هنا الكلام عن إمبريالية البورصة بغض النظر عن طبيعة اللاعبين الكبار وهوية المتنفذين وأصحاب الأسهم فيها. لا يعني هذا بالضرورة أن التطابق بين حقول النشاط البشري بات ثابتاً ومحكماً. هناك من يستعجل تثبيت هذه الفرضية. يمكننا في المقابل، أن نرفض مقولات فقهاء النيوليبرالية وإصرارهم على أن الأمور ما زالت على حالها الموروثة عن عهد الليبرالية الكلاسيكية مع تعديل في طريقة اشتغالها وتوازن عناصرها. يمكننا بالتالي، أن نفترض أن السياسة في زمن النيوليبرالية المعولمة أخذت تفقد أبرز وجوه صلتها بفلسفة القيم والحقوق حتى في أدبيات الليبرالية الكلاسيكية. وفي السياق ذاته، تقلصت وجوه التمايز والاستقلالية النسبية بين المدارات أو الحقول التي تحتضن النشاطات الإنسانية المتنوعة. لا يمكننا، ولا يجوز أصلاً، أن نقرأ نتاج حقل بأدوات وأجهزة مفهومية تنتمي، أو يجدر بها أن تنتمي، إلى حقل آخر. هذا أبرز ما دشّنته الحداثة.
لدينا إذاً خلطة عجيبة من الشخصيات تتمرأى اليوم في مرآة السياسة. وعليه، لا نعود نعلم ما إذا كان رئيس البلد أو نجمه الصاعد هو سياسي أو مقاول أو عارض تعبيرات وهويات جاهزة مثله مثل عارض الأزياء. أحسب أن هذا الخليط من الانطباعات يعصف بكل من يحاول أن يفهم ظاهرة سياسية شعبوية مثل دونالد ترامب ومن هم على شاكلته، وقد لا يكون آخرهم جايير بولســـونارو الفائز قبل أيام بالرئاسة البرازيلية. لتأكيد التـــزامه نهج ترامب، أعلن بولسونارو عن نيته نقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس. يجدر القول إن ترامب ليس الأول وليس ريادياً في هذا الباب. فقد سبقه، تحت سموات أخرى، نجوم في السياسة والمقاولة والفرجوية مثل سيلفيو بيرلوسكوني. وليس صعود الشعبويات المصحوب بتسخين الهويات القومية والاثنية وما كان يعرف بالهوية الأصلية في أدبيات القرن التاسع عشر سوى التتمة المنطقية لسيرورة بدأت قبل أربعة عقود، مع ثاتشر وريغان. هذه السيرورة استندت إلى تآكل الأيديولوجيات والنظم التي حضنت، أو زعمت، تقديم نماذج مضادة ونقيض، كما هي حال الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، فقامت هذه السيرورة بترجيح كفة البورصة وهندسة الريع المالي والمصرفي على كفة المصنع والإنتاج الفعلي. وقد نجحت في فرض نفسها على العالم كله.
لقد قيل الكثير عن مفاعيل هذه السيرورة لجهة توحيد، بالأحرى تأحيد، نمط العيش والذوق والاستهلاك والسلوك والنجومية وتضخم الاتصالات بفضل التسهيلات والمبتكرات التقنية، وما يقابلها من تفتيت وخلخلة لأسس المجتمعات وتوازناتها الموروثة تاريخياً. وقيل الكثير أيضاً عن القطاعات الاجتماعية العريضة التي ألقتها سياسات العولمة على قارعة الطريق، فيما استقرت الصورة الوردية للعولمة على نخب ازدادت نخبويةً بفعل الهرمية المستجدة في عملية إعادة تشكيل التراتب الاجتماعي القائم على تذرير الوحدات الاجتماعية، فيما يترك لشبكات المصالح والنفوذ ودوائر المال والمضاربة أن تلعب دوراً يفوق بكثير دورها السابق في توجيه السياسة والتأثير فيها. ما يقوله الشعبويون، في هذا السياق، هو إجمالاً كلام حق يراد به باطل.
قد يكون الاضطراب الكبير الذي طاول غير بلد عربي في ما يعرف دعائياً بالربيع العربي، تعبيراً فاقعاً عن مفاعيل سيرورة تقود إلى التخبط في لعبة الالتحاق بالسيرورة المعولمة. هناك بالطبع فارق بين الالتحاق الطوعي والالتحاق القسري. لكن من المستحسن عدم المبالغة في تشخيص الفارق. ولا يتعلق الأمر هذه المرة بمقولة «تسريع التاريخ» التي فرضها الاحتكاك الأوروبي واقتصاده التوسعي على مجتمعات استأنست بجمود نشاطاتها وثبات مكوناتها على أطر انتماء جماعي ضيق من كل نوع وسابق على الهوية الوطنية في معناها السياسي والحقوقي الحديث. بل يتعلق بعملية تشذيب لبنى سلطوية متخشبة واستئثارية تُطابق بين هامشها السيادي وبين مصالح فئوية للنخبة النافذة، وتفتقد بالتالي إلى مرونة التكيف مع بورصة السياسة.
| |
|