|
|
التاريخ: تشرين الثاني ٣, ٢٠١٨ |
المصدر: جريدة النهار اللبنانية |
|
سمير قصير: لبنان جديد، لا لبنان العائد... |
لمناسبة اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب، نستعيد المقال التالي للشهيد سمير قصير الذي نُشر في 28 كانون الثاني 2005:
أتراها انتصرت المعارضة؟ ليس بعد، لكن الاستماع الى المتابعين العرب للشأن اللبناني يوحي أن الانتصار صار شبه محتّم، وهذا عظيم كونه يزيد من صدقية المعارضة كمشروع حكم ويشحذ الهمم.
غير ان ثمة فرقا بين رصد حركة صعود المعارضة والتوهم أنها انتصرت منذ الآن. وهذا الوهم غاية في السوء لأنه يخفف من التعبئة ويعرّض في الآن نفسه أئتلاف المعارضة الى التمزّق تحت وطأة الاطماع المتضاربة للمسترشحين. والاخطر انه يشجع اطرافاً فيها على استعجال الخروج من منطق التسوية التي قامت على اساسه، لاعتبارهم ان ساعة الثأر قد دنت. والحال اننا بدأنا نرى نتيجة هذا الاستعجال ما هو اسوأ من اعتقاد البعض انهم وصلوا الى السلطة، وهو اعتقاد بعض آخر انهم عادوا اليها!
لم يفت الأوان بعد، ولحسن الحظ، ولا يزال ممكناً استدراك هذا الانحراف الذي يهدد المعارضة الموحّدة كمشروع للمستقبل، وينزع الى تحويلها مطية للثأر. لكن الاستدراك لا يكون الا بتعيين مكمن الخلل من دون مواربة، وهو موجود اليوم في الجزء المسيحي من هذه المعارضة، وبشكل اكثر تحديداً في الاطراف الذين شاركوا في الحرب او ورثوا الطاقم السياسي الذي قاد البلاد الى الخراب. فقد بدأنا نسمع في هذه الاوساط نغمة غير مستحبة عند شركائهم في المعارضة، وسواء في ما تتناقله بورصة الترشيحات، او في بعض الكلام السياسي او عند التماس مع جمهور هذه القوى، كما حصل في الاسئلة الموجهة الى وليد جنبلاط في الجامعة اليسوعية. انها نغمة غير مستحبة لأنها لا تخرج فقط عن "وثيقة البريستول"، بل ايضاً عن خط "لقاء قرنة شهوان".
للمزيد من الصراحة، فإن منحى التشكيك في عروبة لبنان لا يخدم تماسك المعارضة ولا صورتها الخارجية في اللحظة التي نسمع فيها من عدد من قادة الرأي العربي تعويلاً على التحول المرتقب في لبنان من اجل تحريك المناخ الديموقراطي في المنطقة. كذلك لا ينفع الاستعلاء في ادعاء تعليم العرب الديموقراطية حين يكون اتكال المعارضة اللبنانية على الاعلام الفضائي العربي من اجل كسر الصمت الذي تتواطأ القنوات اللبنانية في التزامه بحجة الضغط الامني عليها.
ولا ينفع خصوصاً الغرف من مخزون الحرب من دون اي نقد ذاتي، بل مع ادعاء الطهارة. المشهد لا يخلو من الظلم: وليد جنبلاط اعترف بالعديد من الاخطاء التي كان مسؤولاً عنها، "اليسار الديموقراطي" بنى وثيقته التأسيسية على مراجعة تجربة الحرب، اطراف آخرون يأتون من تراث "الحركة الوطنية" (من دون ان يكونوا بالضرورة في المعارضة اليوم) قاموا بالحد الادنى من النقد الذاتي، وخارج المسرح السياسي اللبناني سمعنا من مسؤولين ومثقفين فلسطينيين عديدين الاعتذار تلو الاعتذار. في المقابل، لا شيء تقريباً من الاطراف الذين كانوا منضوين في "الجبهة اللبنانية".
لم يخرج عن القاعدة الا افراد. فهناك المراجعة الشجاعة التي قام بها جوزف ابو خليل في "قصة الموارنة في الحرب"، لكنها تناولت بشكل اساسي مسألة التحالف مع اسرائيل من دون اعادة نظر في مسببات الحرب. وهناك ايضاً الاعتذار العلني المكتوب الذي وجّهه الى ضحاياه اسعد الشفتري المسؤول عن الامن في "القوات اللبنانية" في زمن الياس حبيقة. اما المراجعة التي قام بها الياس حبيقة نفسه، فلا يمكن الاخذ بها جدياً كونها نقلته من خندق الى خندق، ومن جهاز مخابرات الى آخر.
في ما عدا ذلك، لا شيء لا عن مسؤولية الاحزاب المسيحية في رفض الاصلاحات السياسية عشية اندلاع الحرب، او في نشر ثقافة السلاح ومنطق الفرز الطائفي، او في تضخيم "الخطر الفلسطيني" الذي حتى، وإن ثبتت خطورته، لم يكن يستدعي تدمير الهيكل فوق رؤوس الجميع. فكل ما نسمعه هو في الحقيقة نقيض المراجعة المطلوبة. أولاً من خلال الامعان في تحميل "الآخرين" مسؤولية الحرب، كما يستشف من الجمهور الطالبي لهذه الاحزاب، وسواء كان "الآخرون" محددين (الفلسطينيون، السوريون، "اليسار الدولي" على ما ظل يردد بيار الجميل الجد، المسلمون المطعون في لبنانيتهم)، او كانوا غير محددين بواسطة مقولة "حرب الآخرين على ارضنا" بعد اضفاء صدقية عليها بنسبها زوراً الى غسان تويني (يا ليته ينشر تصحيحاً يومياً على صدر "النهار" للتذكير بأن ترجمة عنوان كتابه الشهير االصادر بالفرنسية والمعاد طبعه أخيراً في بيروت هي "حرب من اجل الآخرين" وليست "حرباً او حروب الآخرين".)
طبعاً، كان يصعب الطلب من المسيحيين اجراء المراجعة اللازمة في مرحلة "الاحباط" التي تلت انتهاء الحرب، وتميزت بمحاولة اقصاء القوى الناشطة بينهم من الساحة السياسية. ولعله لا يزال مستحيلاً طلب ذلك من "القوات اللبنانية" ما دام سمير جعجع في السجن. ولكن الاحباط انتهى الى حد صار المسيحيون يشعرون بأنهم "عائدون". وفي ما عدا جعجع نفسه، بات مطلوباً ممن انتموا يوماً الى مناخ "الجبهة اللبنانية" الاقتناع بانهم ليسوا في حل من واجب النقد الذاتي. اكثر من ذلك، قد يكون عليهم ان يدركوا ان تعميم الشعور بـ"العودة" يشكل ضرباً للمعارضة في الظهر. فبينما تكمن قوة المعارضة في كونها تمثل نواة عقد اجتماعي جديد قائم على التنازلات المتبادلة، تنذر بعض التصريحات وكذلك بعض الاسماء المطروحة للترشيح بنسف مبدأ التسوية التاريخية، وتالياً بإفقاد اللائحة الجمهورية المعارضة معناها. وينطبق ذلك تحديداًً على ترشيحات قد ترغب في اكتساب شرعيتها من ظل بشير الجميل، لكنها لن تنجح في ان تكون اكثر من ترشيحات تحد. فبشير بشير الجميل ليس مشروعاً لمستقبل لبنان الموحّد، وإحياء منطق "الجبهة اللبنانية" لا يفيد الا في تشويه صورة المعارضة الموحدة سنة 2005، في وجه خصم ينتمي مثلها الى سنة 2005.
غير ان واجب المراجعة لا يمكن تركه الى الاحزاب المسيحية المحاربة سابقاً وحدها، اذ تشترك فيه ايضاً "قرنة شهوان" التي بات عليها ان تقْدم، وإن متأخرة، على ما تخلّفت عنه، اي الجهد التثقيفي التربوي لشرح الاسس التي قامت عليها، واولها الطائف، وثانيها الاقبال على عروبة متحررة. بل تشترك فيه المعارضة بأكملها فهي القادرة، ان حافظت على زخمها، على تصحيح النتوءات، مثلما حصل بعد تصريح بيار الجميل الحفيد حول "النوعية". ولعل اهم ما يجب ان تصححه المعارضة الآن هو استقبال التقطيع الانتخابي على اساس القضاء بصفته انتصاراً طال انتظاره، او اعادة اعتبار على قاعدة "لا يصح الا الصحيح". فاذا كانت العودة الى قانون 1960 اهون الشرور في ظل هذه السلطة التي لا توحي الثقة، فيجب ان يتذكر المرشحون للانتصار ان الوفاء للعقد الاجتماعي الجديد يتطلب العودة بعد انتصار المعارضة الى ما نص عليه الطائف، ولكن بروحية عصرية وحيادية وبنفس خلاق يتّسع للنسبية والكوتا النسائية، ويجعل الاقتراع في مكان الاقامة الفعلية وليس في ضيعة الاجداد.
لا، لم تنتصر المعارضة بعد. بل انها لن تنتصر الا اذا حددت مسبقاً معنى الانتصار كانتصار لمعارضة 2005، وادركت وقالت ورددت ان لبنان المتحرر من هيمنة الحكم البعثي في دمشق هو لبنان يجب اختراعه وليس اجتراره. |
|