SUN 20 - 10 - 2024
 
Date: May 1, 2011
Source: جريدة النهار اللبنانية
الانتفاضات العربيّة في لحظتها السوريّة [2] - عزيز العظمة

نهجت السلطة في سوريا نهج محاولة افراغ الازمة من طابعها السياسي الاكيد باستمالة ما يعرف بوجهاء القرى والمدن. وهؤلاء مدعوون لتقديم التماسات الى السلطة في التفاف واضح عن مجال السياسة الى مجال الاستتباع والصلح العشائري.

ما يكمل هذا النهج هو الالتفاف على الرأي العام المسيس والحداثي، المنظم في بعض مجالاته، مما يمعن في محاولة نزع الصفة السياسية - وهو نفي سياسي بامتياز- من قبل اللاعب السياسي الأوحد الذي هو السلطة التي ترى الجمهور هلاماً أو أفراداً، والتي لا ترى من عناصر تماسكه، ولا تريد أن ترى من عناصر تماسكه، إلا أولياءه: كبار العشائر والأسر. رأينا ذلك في اللقاءات مع أعيان دوما ودرعا وغيرهما، ورأيناه من الاجتماعات مع أعيان السوريين ذوي الأصول الكردية في الجزيرة (برعاية، عشائرية هي الأخرى، وبتدبير من جلال طالباني الذي مازال يترأس حزباً هو، كالبعث، كانت له في سابق الدهر والأوان تطلعات تقدمية). وإن السلطة لا شك ترى في الآغاخان ضامناً للإسماعيليين، وأن المسيحيين بخير (على الرغم من محاولاتها تقديم الجنرال ميشال عون على أنه زعيم المسيحين في المشرق)، وقد يكون ما هي فاعلة مشجعاً على بوادر ما نراه من بيانات لفئات كالتنظيم الآرامي الديموقراطي الذي يتكلم على الشعب الآرامي باعتباره شعبا مسيحيا والذي يشدد على التعددية القومية والثقافية والدينية في سوريا- ولعل في الكلام على شعب آرامي مسيحي أو فينيقي مسيحي شيء من استلهام مزاوجة العروبة بالإسلام.


شدد على هذه الامور أيضا بيان موقع منذ أسبوعين من قبل بعض المثقفين السوريين الذين كنا نتمنى عليهم إيثار قدر أكبر من الحكمة السياسية بإزاء وضع مفتوح على احتمالات غير محمودة، احتمالات يشي بها أيضا ما تقوله فئات من الأكراد السوريين الذين شكلوا منذ زمن طويل جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي لسوريا، والذين جنح البعض منهم في السنين الأخيرة إلى إيثار النسب على الحسب، وأرومة الدم على الواقع المعاش، والاعتبار الكردي على الاعتبار السوري.    
ما دمنا في سياق الكلام حول الأعراق والعشائر والطوائف والتخندق فيها واستتباعها ، ينبغي عليّ القول بأنني ما ذهبت أبداً إلى الرأي القائل بأن سورية دولة علوية – كما لم اذهب في الماضي إلى الرأي القائل أن عراق صدام حسين كان دولةً سنيةً. إن سوريا دولة وطنية اختزلت إلى سلطة تستتبع شبكة من البيوتات والمصالح، وفي هذه التركيبة أولوية لسوريين ذوي أصول علوية. ولكنه ليس باستطاعتنا القول إن الطائفة العلوية كطائفة هي الحاكمة. تمصّر علويو سوريا كغيرهم في العقود الأخيرة، واندمجوا في النسيج المديني إلى حد كبير، وتزاوجوا مع الدمشقيين والحلبيين والحماصنة وأنتجوا مثقفين مثل سعد الله ونوس ولؤي حسين. وإن رأينا أفرادا علويين منتفعين من بنية السلطة بنسب أعلى من غيرهم في بعض المجالات، فإن هذا لا ينسحب على العلويين كعلويين، فإن أفراد الطائفة متباينون اجتماعياً، منهم النمرود ومنهم المسكين، وإن من استصفي منهم داخل شبكة الاستتباع الثائرة في سياق ما سماه ابن خلدون الانفراد بالمجد قد استثنى آخرين خصوصا بعد تصفية نظام ٢۳ شباط، وبعد تصفية شبكات رفعت الأسد.


إن القول  أن طائفة تحكم يستند إلى مفاهيم عامية لا سند لها في علم الاجتماع السياسي- ثم إنه لأمر مشهود أن الشبكة الاستتباعية للسلطة لا تقتصر على العلويين بل هي مشتملة أيضاً على سنة ومسيحيين وغيرهم. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الوضع السوري يشكو من تنامي الشعور الطائفي لدى كل الفئات، وهذا شأن يعود إلى الاختناق وإلى الاستئثار وانسداد الأفق والتفجر الذي نراه - وكل ذلك من صنع السلطة - وهو عائد أيضا لأسباب تتعلق بتحول الجغرافيا البشرية لحواضر سورية كثيرة لعل أهمها مدن الساحل وبعض أرياف حمص.
وعلى ذلك، فإذا كان للسلطة السورية استباق ما قد يستفحل، عليها أن تستوعب الطابع السياسي للوضع بدلا من استسهال الاعتبار الأهلي. إن الانفجارات التي نشهد - على الفقر والتحوّط النسبيين لمحتواها المعلن - لا تدل على أن النعرات الطائفية تشكل إطارها الناظم، بل هي مشددة على وحدة الجسم السياسي المرجو. بيد أن هذا لا يعني انه من المحال، ان سارت الامور الى استفحال، ان تخلق سياسات السلطة وضعا تتحول فيه التمايزات والضغائن الطائفية الى مسار سياسي مدمر يعيد تشكيل العلويين على انهم كتلة سياسية مصطفة. ولقد سبق السوريون الموجودون في الشوارع السلطة إلى إعادة الاتصال بالزمنين العربي والعالمي، ولا أعتقد أنه سيسمح للسلطة بالاستمرار في الاعتقاد أنها خارج هذا الجو وخارج الزمن. ولكن الإمعان في التخندق وفي استدرار الحلول المستسهلة القائمة على سبل الاستتباع الاجتماعي والنفعي بدلاً من سبيل السياسة فما من أمره إلا أن يحوّل الوسطيين إلى مناوئين، وتحويل الاختناق إلى تفجر وإلى مزاج عامي انتقامي متهور يرى أن السياسة تُصْنَع من الشارع وليس في مجال السياسة. وفي هذا ما يبعث على القلق البالغ. ليس إلغاء حالة الطوارئ بنفسه شأناً كافياً للإصلاح، إن لم يقترن أولاً وبسرعة بإعادة الاعتبار للجهاز القضائي الذي اهترأ، وجعله قوام المرحلة المقبلة.


إذا كان الوضع السوري على هذا التعقيد، ينبغي التنبه إلى أمرين أساسيين. يتناول الأمر الأول التفاؤل الساذج: التفاؤل الرومانسي الغنائي الذي يجد في هدير الجماهير علامة على حتمية خلاص له التمام. أو يجد في هبّات وانتفاضات متعددة ومتباينة المكونات والأهداف والظروف “ثورةً عربيةً”، أو يجد في الديموقراطية نظاما خلاصياً وطلسماً شافياً ومهرجاناً وبهجةً مستديمةً. ولا يخفى أن هذا المزاج ينظر لبهجة الديموقراطية وجنتها على أنها أيضاً تعدّد مُرسل للأفراد والثقافات والأعراق والطوائف على نحو رسمته بكثافة المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية ومدارس إدارة الأعمال وعضلاتية حروب جورج بوش ويوتوبيا الإنترنت وغنائية العنصر الشبابي. ولكنه مزاج هو - بدوره- نافٍ للسياسة ومنطوٍ على قدر كبير من النظرة العدمية تجاه الدولة: الدولة التي - على علاّتها وترهلها واستتباعها للسلطة- تبقى الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين بغض النظر عن الأصول والدم، وإنجازاً تاريخياً غير قابل للمفاوضة.


أما الأمر الثاني، فهو الإسلام السياسي. ليس خافياً على أحد أن السيناريو المثالي لحل الأزمات العربية لدى الولايات المتحدة وغيرها هو تحالف عسكري- إسلامي ضابط للأمن والمجتمع معاً - وهو ترتيب تقوم بتدبيره الآن الحكومة التركية الاخوانية بتعاون مع قطر - مع اضطراب بيّنٍ تالياً للهجوم على برجي نيويورك، اضطراب أذكاه الإسلام السياسي بصفته فزّاعة حملتها الأنظمة العربية. والحال أن التخوف ليس مقتصراً على القوى الأجنبية، بل هو متوطن لدينا دولاً وأفراداً. إن تمدد الإسلام السياسي والتدين اليومي لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية - وهو أمر غير مقتصر على المسلمين - شأنٌ آيلٌ عن انسداد السبل وتقطع أسباب حماية النفس والمال والكرامة، وإزالة السياسة من المجال العام، وإضعاف وسائل الحماية الفردية والاجتماعية في مواجهة سلطات عاتية، جائعة العين على الدوام، تلك السبل التي وفرتها في ما مضى الأحزاب والنقابات والمنظمات الأهلية. وإن عودة الإسلام السياسي إلى البروز، وفي مصر على سبيل المثال (وفي تونس إلى درجة أقل، رغم أن المجتمع التونسي، بجهازه السياسي القديم الذي كان بن علي دخيلاً عليه، وبحراكه المدني المنظم والأقل تنظيماً، يشي بتطور اجتماعي غير قابل للرد وفّرته الهندسة الاجتماعية البورقيبية)، ركوباً على موجات الانتفاضات التي تمت، هو المقابل السياسي لانسداد الآفاق السياسية الذي ترتجي السلطة الاستناد إليه.


أما في سوريا، فإن تأسلم قطاعات كبيرة من الشعب بسبب انسداد الآفاق الذي سبق الكلام عليه، وإفقار الثقافة، يشي بمسار معقّد، ولو أننا على الاعتقاد الجازم بخطأ النظرة العامية المحببة إلى كثير من المثقفين، والذاهبة إلى أن كل مسلمٍ، بالسليقة، إسلامي الهوى في السياسة. فالمسلم مسلم، أما الإسلامي فهو ملتزم إما بالإسلام السياسي أو بمكملاته المجتمعية من أسلمة المجال العام والأخلاق والسلوكيات الفردية والنظام القضائي بل والدولة.


يؤثر الكثير منّا، باسم بهجة الديموقراطية، عدم التنبه إلى هذا الأمر، وتأجيل الحديث فيه باسم الكتلة التاريخية الجامعة وما يضارعها من العبارات - ومن هذا عدم مساءلة الناس توقيت التظاهر بمواقيت الصلاة، رغم أن أيام الجمعة مناسبة للتظاهر في أي وقت: ولسنا على اقتناع بأن التدين الاستعراضي ناظم مناسب للحراك السياسي. علينا النظر بشيء من الحصافة والإحكام إلى ما هو قد بدأ بالتفتح من إمكانيات، ليست كلها بهيجةً. إن محاولة الاستئثار بنتائج تفتح المزاج الديموقراطي من قبل قوى معادية للديموقراطية إيديولوجياً وثقافياً واجتماعياً، متعددة الألسن، مطبوعة على المراوغة - وهي محاولة لا بد أنها آتية، وذلك حكم على النيات، إذ ما من موقف سياسي عاقل لا ينطوي على حكمٍ على النيات- أمر ينبغي التنبه إليه الآن في سياق التركيبات المتنامية البالغة التعقيد، وذلك درءاً لتبدد ما ابتدأ بالحصول، ودرءاً لما ينطوي عليه طموح الإسلام السياسي من محاولة لمعاودة إغلاق التاريخ علينا. ليس مستبعداً أن تكون منظمات أصولية مسلّحة ناشطة في تضاعيف التظاهرات القائمة في سوريا، ولكن هذه المنظمات ليست تلك التي يُخشى منها بنيوياً. وإن صح هذا، فإنه ليس مؤشراً إيجابياً على كفاءة المقدرة الأمنية لدولة الأمن بما يتجاوز اطلاق النار على الجنازات والتظاهرات ومحاصرة المدن.


وأخيراً، علينا التنبه إلى أن الحرية ليست قيمة مجردة وليست هي فوضى وتَنَادي الأصوات المتعددة البهيجة التعدّد، ولا قيمة تاريخية لها في هذا الظرف بالذات إلا تطلعها نحو التقدم والترقي. أما إذا فهمت على أنها الفرصة لاستصلاح مهملات التاريخ، وهي هكذا تفهم من قبل الإسلام السياسي الذي ما فتئ يحاول إغراقنا في “الأصالة” إنقاذاً لنا من مفاتن التقدم وموبقاته، فإنها لا تعدو أن تصبح إلا المكمل للخروج عن التاريخ الذي رعته السلطات، والذي ترعاه كما يبدو، السلطة في سوريا في توسلها الأعيان والعشائر والمشايخ، والذي - أخيراً- قد لا تتنبه إليه بعض فئات الخارجين على السلطة والقائمين ضدها باسم حرية مرسلة لا رابط لها مع ما هو ممكن، وما هو متاح، وما قد يقوم باسمها ويراوغها على السيادة ويراودها على سيادته.
إذا كان للوضع في سوريا أن يستقر على بدايات عملية سياسية جديّة، تعيد الاعتبار للجسم السياسي للسوريين، بدلاً من أن يفضي إلى تفجرٍ أو إلى هدوءٍ طاغٍ يمهد لخرابٍ مؤجلٍ، فإن ذلك سيكون وضعاً يسمح ببروز سيّدات ورجال دولةٍ وقادةٍ من عيارٍ محترم للاجتياز بالبلد إلى السلامة استناداً إلى تبصر المصلحة الوطنية العامة بدلاً من الانغلاق على اللحظة الراهنة بمكونيها الأساسيين، الارتهان للاعتبارات الآنية للسلطة من جهة، والتغني بالهدير وكأنه هديل من جهة ثانية. وفي جميع الأحوال، فإن القيادة من هذا العيار ستكون قيادة من الأمام: أما القيادة من الخلف أي الارتهان لما هو راهن من مزاج السلطة وعاداتها أو مزاج الجمهور، فإنه لن يؤدي الا إلى طريقٍ مسدودٍ ينتج عناصر متفجرةً متعاظمة المدى والصدى.

 

(باحث سوري) 


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Related News
Syrian army says Israel attacks areas around southern Damascus
Biden says US airstrikes in Syria told Iran: 'Be careful'
Israel and Syria swap prisoners in Russia-mediated deal
Israeli strikes in Syria kill 8 pro-Iran fighters
US to provide additional $720 million for Syria crisis response
Related Articles
Assad losing battle for food security
Seeking justice for Assad’s victims
Betrayal of Kurds sickens U.S. soldiers
Trump on Syria: Knowledge-free foreign policy
Betrayal of Kurds sickens U.S. soldiers
Copyright 2024 . All rights reserved