لدينا في الساحة الفلسطينية أربع شرعيات، الأولى وهي «الشرعية الثورية»، المتأتية من «عصر الجماهير» في حقبة الخمسينات والستينات ومصدرها الرأي العام الفلسطيني الذي وجد في انطلاقة الكفاح المسلح وتضحيات وبطولات الفدائيين، محاولة لترميم روحه، وكيانيته المتخيّلة، وتحقيق آماله. والمشكلة ان هذه «الشرعية» ما زالت تعمل، وفق نظام المحاصصة الفصائلية («الكوتا»)، رغم انتهاء مفاعيلها ومعانيها، ورغم تقادم وأفول معظم الكيانات السياسية المتشكلة منها. أما الثانية، فهي الشرعية التمثيلية، التي مصدرها الشعب، كما تتجسد في صناديق الانتخابات، وهذه تمت بعد اقامة الكيان الفلسطنيي، الناشئ وفق اتفاق اوسلو (1993)، لذلك فهي مثل الاتفاق شرعية جزئية ومنقوصة، لأنها شرعية متأتية من جزء من الشعب فقط على جزء من الأرض، وفق حقوق مقيدة. وهذه ايضاً انتهت إطاراتها الزمنية من الناحية القانونية، وهذا ينطبق على مكانة الرئيس ومكانة المجلس التشريعي، إذ انقضى على انتخابهم عشرة اعوام، ولا يوجد في الافق ما يوحي بالتوجه نحو تنظيم انتخابات جديدة.
أيضاً، ثمة شرعية ثالثة، وهي المنبثقة من القيادة الفلسطينية ذاتها، إذ تقوم قيادة منظمة التحرير، وعلى رغم انها غير منتخبة من الشعب، بتشكيل هيئات تضفي عليها شرعية معينة، مستغلة مكانتها، ومستقوية بالشرعية الدولية والعربية التي تحظى بها، وهذا ينطبق على رئاسة السلطة، التي تقوم بذات العملية، في ظل حال الفراغ في الشرعيات، وتغييب الأطر التشريعية الفلسطينية (المجلس الوطني والمجلس التشريعي)، ما يعني ان لدينا حالة تبدو فيها القيادة الفلسطينية وكأنها تنتخب ناخبيها، او تحدد الناخبين الذين يجددون بدورهم شرعيتها!
الشرعية الرابعة والأخيرة هي الشرعية الفصائلية، وهذه بدأت تشتغل بعد انحسار مكانة منظمة التحرير كمرجعية لكل الفلسطينيين، وتبعاً للانقسام الحاصل في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بين الحركتين الرئيستين («فتح» و «حماس»)، وانقسام النظام السياسي بين سلطتي الضفة وغزة. فمع ان هاتين الحركتين تتنازعان على مكانة الشرعية والمرجعية والقيادة عند الفلسطينيين إلا ان كل فصيل فلسطيني، مهما كان حجمه، وشكله، ودوره، يتمسك بنظام المحاصصة، وفوقها يدعي، أيضاً، انه يمتلك شرعية، وانه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من «القيادة العامة» و «فتح الانتفاضة» إلى جبهات «التحرير» و«النضال» و«العربية» وحزبي «الشعب» و»فدا»!
فوق كل ذلك لدينا في الساحة الفلسطينية نظامين سياسيين، واحد يتمثل في منظمة التحرير، او ما تبقى منها، وهذا يفترض فيه انه يمثل كل الشعب الفلسطيني، وانه يرمز الى وحدة قضية الفلسطينيين. والثاني يتمثل في السلطة القائمة في الأراضي المحتلة (1967)، وهي خاصة بفلسطينيي الضفة وغزة. المشكلة في النظام الأول انه ما زال يعمل رغم تهميش المنظمة، وعدم تجديد هيئتها التشريعية وهي المجلس الوطني، الذي لم يعقد اجتماعاً له، منذ ربع قرن، إلا مرتين، الاولى في 1996، والثانية في 2009 خصصت فقط لملء الفراغ في اللجنة التنفيذية. والأهم من كل ذلك ان المنظمة بدلاً من أن تكون مرجعية السلطة باتت السلطة مرجعية لها، سيما ان الأولى باتت تعتمد في مواردها المالية على الثانية، وان الرئيس يستمد سلطته من مكانته في السلطة اكثر مما يستمدها من مكانته كرئيس للمنظمة.
عموماً لنا في مشهد المجلس المركزي الذي قرر وقف التنسيق الأمني (آذار/مارس الماضي) مثالاً على ذلك اذ بقي هذا القرار حبراً على ورق، اي كان نصيبه مثل القرار الصادر عن ذات المجلس قبل ستة اعوام (2009) والقاضي بتنظيم انتخابات تشريعية في الاراضي الفلسطيينية.
اما النظام الثاني فهو المتمثل بالسلطة في الضفة والقطاع، والتي انقسمت على ذاتها بين الضفة وغزة، بسبب الخلاف والتصارع بين حركتي «فتح» و «حماس». والمشكلة ان هذه السلطة تشتغل وفق المعايير الاسرائيلية، لا سيما المحددة في اتفاق اوسلو، وضمنها اتفاقية التنسيق الأمني، والاتفاق الاقتصادي. وفي العموم فقد ثبت بالتجربة ان هذه السلطة تشتغل ليس فقط على اساس التعايش مع الاحتلال، وانما ايضاً على اساس كونها سلطة تحت الاحتلال، لأن السيادة ما زالت في يد إسرائيل، على الأرض والمياه والكهرباء والعملة والتبادلات التجارية والمالية والمعابر والاجواء والمياه الاقليميتين، وحتى رئيس السلطة يحتاج الى تنسيق في تحركاته في الداخل، كما من وإلى الخارج.
بيد ان معضلة الشرعية عند الفلسطينين لا تتوقف على ذلك إذ ان ما يفاقم مشكلتها انها مرتبطة، أصلاً، بأفول المشروع الوطني الفلسطيني، واخفاق الخيارات السياسية التي اخذتها حركتهم الوطنية على عاتقها، مع تزايد شعورهم بالضياع، والافتقاد الى مرجعية في كل ما يتعلق بأوضاع مجتمعاتهم، في الأراضي المحتلة (48 و67) وفي بلدان اللجوء في الاردن ولبنان وسورية والعراق ومصر، وبلدان الشتات.
ومعلوم ان الحركة الوطنية الفلسطينية، على رغم تجربتها الغنية، لم تستطع التحول إلى حركة تمثيلية ومؤسسية تعبر عن تطلعات مجمل تجمعات الفلسطينيين، ولا تمثل مختلف تلاوينهم السياسية. ولعل هذا يفسّر غياب المجلس الوطني، وتحول المجلس المركزي لمجرد منبر لإعلان البيانات والقرارات، وتهمش اللجنة التنفيذية التي باتت أقرب إلى ديكور في المشهد السياسي الفلسطيني، في واقع يتحكم فيه الرئيس بالتقرير بكل شيء، في المنظمة والسلطة.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج ان ثمة معضلة في الشرعية الفلسطينية، في معناها ومبناها، والمشكلة ان القيادة الفلسطينية، او الطبقة السياسية السائدة، منذ حوالي نصف قرن، لا تشتغل على اساس انها تدرك مخاطر هذه المعضلة، وضمنه المخاطر المتأتية من تآكل الشرعيات الفلسطينية، الثورية والتمثيلية والفصائلية، بانتهاء زمن الكفاح المسلح وأفول الزمن الفصائلي، وتحول حركة التحرر إلى سلطة، ومع عدم تجديد المجلسين الوطني والتشريعي.
ولعل ما يفترض إدراكه، في هذا الإطار، ان هذه المعضلة تشمل، أيضاً، المحددات التي باتت تتشكل منها، أو عبرها، الشرعيات الفلسطينية، فنحن، مثلاً، إزاء واقع من مجتمع فلسطيني ممزّق، ويتوزّع على بلدان عديدة، ويخضع لسلطات وظروف متباينة، ما يضعف من تشكل الحقل العام السياسي والمجتمعي للفلسطينيين، ومن قدرتهم على التأثير في عمل او في توجهات قيادتهم السياسية، هذا اولاً. ثانياً، فإن ما يعزز هامشية المجتمعات الفلسطينية ازاء قيادتها أن الكيانات السياسية تعتمد في مواردها المالية أساساً على المساعدات الخارجية، سابقاً من الدول النفطية الخليجية، واليوم من الدول المانحة (الولايات المتحدة واوروبا والدول الخليجية)، اي انها لا تعتمد في تمويل انشطتها على شعبها، بل ان قطاعات واسعة من شعبها تعتمد عليها، لتأمين موارد عيشها، مع وجود حوالى 180 الف موظف في السلطة، مثلاً. وبديهي ان ينجم عن الارتهان المعيشي نوعاً من الارتهان السياسي، أو اقله عدم مبالاة من سياسية، وهو ما يتجلى في وجود قابلية مجتمعية لخيارات القيادة الفلسطينية مهما كان نوعها. ثالثاً، منذ زمن لم تعد الشرعيات الفلسطينية تتحدّد بعلاقات الإقناع، وبالدور الوطني، وبصناديق الاقتراع، بقدر ما باتت تخضع لوسائط السيطرة المباشرة عبر الأجهزة الأمنية، والتحكّم بمورد العيش، والنفوذ السياسي، لا سيما في ظل سلطتي فتح في الضفة وحماس في غزة.
بيد ان القطبة المخفية، وربما المقررة، إلى هذه الدرجة او تلك، في مسألة الشرعيات الفلسطينية، تتمثل صراحة بالمداخلات الإقليمية والدولية، وحتى الإسرائيلية. ولعل اعتمادية الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل، على الموارد المالية من الخارج، ووجود مجتمعات فلسطينية في هذه الدولة او تلك، يمنح حصة كبيرة لبعض الدول في اسباغ قدر من الشرعية على شخصية ما او حتى فصيل ما، او تمرير خيارات سياسية معينة، لا سيما مع ضعف القيادة الفلسطينية وتضعضع مكانتها ازاء شعبها. وفي ذات المعيار فقد بات لإسرائيل، ايضاً، من موقع هيمنتها على الفلسطينيين وعلى كيانهم السياسي في الاراضي المحتلة، دوراً في تحديد شرعياتهم، من خلال التسهيل لبعض الشخصيات، او عبر تحكمها بانتظام الحياة السياسية الفلسطينية، كتنظيم انتخابات او ممانعة ذلك، كما من خلال سماحها او منعها عمل المجلسين الوطني والتشريعي، او منح حرية الحركة لأعضائه او اعتقالهم. ولعله يأتي ضمن ذلك، مثلاً، حجزها حرية مروان البرغوثي، الذي يعتبر من أهم الشخصيات القيادية في «فتح» وأكثرها شعبية، والذي يمكن ان يشكل اخراجه فرقاً في إطار السعي لتجديد القيادة الفلسطينية وتوليد شرعية جديدة.
* كاتب فلسطيني
|