WED 27 - 11 - 2024
 
Date: Jul 31, 2015
Source: جريدة الحياة
الخرائطيون - رستم محمود
في طيات النقاش العام خلال الفترة الأخيرة، يزداد استخدام الخرائط في الجدل السياسي، سواء لتحليل أو وعي الأوضاع السياسية للمنطقة، أو لاستشراف مآلات الأحداث مستقبلاً. هذه الخرائط هي إما متخيلة أيديولوجياً، أو مرسومة طبقاً لمناطق السيطرة العسكرية لمختلف الميليشيات في حروب المنطقة الكثيرة، أو أن ما يقال عنها أنها «مسربة» عن مراكز الدراسات ومؤسسات صناعة القرار الدولية.

تشكل هذه المخيلة «الخرائطية» بالنسبة للكثيرين مصدراً وأداة لوعي أحوال منطقتنا، ومنبتاً لتعزيز شكوكهم وميلهم للتسليم بوجود «مؤامرة ما» تحاك في الأقنية المغلقة، وفوق ذلك أداة للكثير من النُخب السياسية والاجتماعية والثقافية لتأطير مواقفهم وسلوكياتهم وطروحاتهم.

لكن هذا المقدار من «الانغماس» في مناقشة الخرائط المتخيلة في الحيز العام، السياسي والثقافي والأيديولوجي، يُستدل منه استمرار الحضور المكثف لأربعة منابت تأسيسية في «ثقافتنا السياسية».

أولها التسليم بأن منطق الحرب العالمية الأولى ما زال مسيطراً على «عقل العالم» وقواه الكبرى، وهي الحرب التي قسمت منطقتنا قبل قرن سياسياً وكيانياً، وفق مصالح دولها ومناطق نفوذها وقتذاك. هكذا، يُستنتج أن مراكز صناعة القرار العالمي ذاتها تملك مشروعاً بديلاً لإعادة صوغ الخرائط الكيانية في منطقتنا راهناً.

هذا المنطق يخبئ في طياته الكثير من النرجسية المتعلقة بطبيعية منطقتنا، إذ يتخيلها مركزاً عالمياً بالغ الأهمية، وأن الدول الكبرى تستبطن دوماً خططاً مبرمة لتفتيتها وبعثرة مجتمعاتها إلى كيانات متصارعة. وهذا المنطق فوق وهمه المرضي هذا، لا يعي مدى التحول الجوهري العميق الذي أصاب صلب هوية هذه الكيانات العالمية ووعيها وممارستها لمنطق «الهيمنة»، حيث تحول من السيطرة العسكرية على مناطق شتى من العالم قبل قرن إلى هيمنة اقتصادية وثقافية وتكنولوجية وقيميّة.

ومن جهة أخرى تدل «الخرائطية» على فقدان الغالبية المطلقة من شعوب منطقتنا ونُخبهم أيَّ حس أو أمل بـ «العيش المشترك» في كيانات سياسية ملونة وجامعة، يسودها عقد اجتماعي على أساس المواطنة المشتركة. فالخرائطية مكمن الحس بالتآمر المتبادل بين الجماعات الأهلية في المنطقة، بحيث تكون خطوط القطع الكيانية هي وحدها القادرة على حماية جماعة أهلية ما من أخرى.

وهذا يؤدي منطقياً إلى ارتكاب «فظائع» جُرمية متبادلة في ما بين ميليشيات أهلية. لأن من المستحيل أن تتطابق أية خطوط كيانية سياسية متخيلة مع خطوط التداخل الأهلية والاجتماعية المُعقدة لمختلف الجماعات الأهلية. فالخرائطية في أحد أبعادها شرعنة أولية لذلك، وعتبة لاختفاء جميع المدن والجغرافيات الملونة في منطقتنا، كحمص السورية وبغداد العراقية.

من طرف ثالث، فالخرائطية تكشف ما يضمره الكثيرون من شعور فائق بـ «المركزية» السياسية والكيانية، لانتمائهم إلى الجماعة الأهلية الأكبر حجماً، المستأمنة بالحفاظ على الكيانات السياسية بأحجامها الأكبر، وكون الجماعات «الأصغر» الطرفية، إنما تضمر وتنسج توجهات وأفعالاً ترمي إلى تفتيت هذه الكيانات وكسر شوكتها. فصحيح أن الخرائط الأيديولوجية بغالبيتها منتجة من جانب «أشباه النُخب» الأقلوية، لكن الخرائط التي يُقال أنها مسربة من مراكز الدراسات ومؤسسات صناعة القرار، هي بغالبيتها مختلقة ومتخيلة من «أشباه النُخب» الأكثروية المقابلة التي تضمر تلك المركزية والحساسية الفائقة حيال الجماعات الطرفية والأقلوية.

على أن أعمق دلالة على هذا المستوى من التبسيط الساذج لاستخدام الخرائط في النقاش العام، يكمن في تدهور طبيعة وعينا لفكرة الكيانات السياسية وتعقيداتها وارتباطاتها بجملة توازنات سياسية واقتصادية في المنطقة والعالم، وكذلك لتبخيس مدى ومستوى تداخل العلاقات البينية الحياتية والاجتماعية لأبناء مجتمعات بلدان منطقتنا. فالخرائطية تفترض أن حياة البشر ومصالحهم وذاكرتهم ومعاشهم إنما هي أشبه برقعة شطرنج مجردة بسيطة، بحيث يمكن تغيير شروط عيش الناس وحياتهم ومصائر أجيالهم تبعاً لأهواء بعض السياسيين أو الأحدث الاستثنائي.


* كاتب سوري


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Related News
Syrian army says Israel attacks areas around southern Damascus
Biden says US airstrikes in Syria told Iran: 'Be careful'
Israel and Syria swap prisoners in Russia-mediated deal
Israeli strikes in Syria kill 8 pro-Iran fighters
US to provide additional $720 million for Syria crisis response
Related Articles
Assad losing battle for food security
Seeking justice for Assad’s victims
Betrayal of Kurds sickens U.S. soldiers
Trump on Syria: Knowledge-free foreign policy
Betrayal of Kurds sickens U.S. soldiers
Copyright 2024 . All rights reserved