في طيات النقاش العام خلال الفترة الأخيرة، يزداد استخدام الخرائط في الجدل السياسي، سواء لتحليل أو وعي الأوضاع السياسية للمنطقة، أو لاستشراف مآلات الأحداث مستقبلاً. هذه الخرائط هي إما متخيلة أيديولوجياً، أو مرسومة طبقاً لمناطق السيطرة العسكرية لمختلف الميليشيات في حروب المنطقة الكثيرة، أو أن ما يقال عنها أنها «مسربة» عن مراكز الدراسات ومؤسسات صناعة القرار الدولية.
تشكل هذه المخيلة «الخرائطية» بالنسبة للكثيرين مصدراً وأداة لوعي أحوال منطقتنا، ومنبتاً لتعزيز شكوكهم وميلهم للتسليم بوجود «مؤامرة ما» تحاك في الأقنية المغلقة، وفوق ذلك أداة للكثير من النُخب السياسية والاجتماعية والثقافية لتأطير مواقفهم وسلوكياتهم وطروحاتهم.
لكن هذا المقدار من «الانغماس» في مناقشة الخرائط المتخيلة في الحيز العام، السياسي والثقافي والأيديولوجي، يُستدل منه استمرار الحضور المكثف لأربعة منابت تأسيسية في «ثقافتنا السياسية».
أولها التسليم بأن منطق الحرب العالمية الأولى ما زال مسيطراً على «عقل العالم» وقواه الكبرى، وهي الحرب التي قسمت منطقتنا قبل قرن سياسياً وكيانياً، وفق مصالح دولها ومناطق نفوذها وقتذاك. هكذا، يُستنتج أن مراكز صناعة القرار العالمي ذاتها تملك مشروعاً بديلاً لإعادة صوغ الخرائط الكيانية في منطقتنا راهناً.
هذا المنطق يخبئ في طياته الكثير من النرجسية المتعلقة بطبيعية منطقتنا، إذ يتخيلها مركزاً عالمياً بالغ الأهمية، وأن الدول الكبرى تستبطن دوماً خططاً مبرمة لتفتيتها وبعثرة مجتمعاتها إلى كيانات متصارعة. وهذا المنطق فوق وهمه المرضي هذا، لا يعي مدى التحول الجوهري العميق الذي أصاب صلب هوية هذه الكيانات العالمية ووعيها وممارستها لمنطق «الهيمنة»، حيث تحول من السيطرة العسكرية على مناطق شتى من العالم قبل قرن إلى هيمنة اقتصادية وثقافية وتكنولوجية وقيميّة.
ومن جهة أخرى تدل «الخرائطية» على فقدان الغالبية المطلقة من شعوب منطقتنا ونُخبهم أيَّ حس أو أمل بـ «العيش المشترك» في كيانات سياسية ملونة وجامعة، يسودها عقد اجتماعي على أساس المواطنة المشتركة. فالخرائطية مكمن الحس بالتآمر المتبادل بين الجماعات الأهلية في المنطقة، بحيث تكون خطوط القطع الكيانية هي وحدها القادرة على حماية جماعة أهلية ما من أخرى.
وهذا يؤدي منطقياً إلى ارتكاب «فظائع» جُرمية متبادلة في ما بين ميليشيات أهلية. لأن من المستحيل أن تتطابق أية خطوط كيانية سياسية متخيلة مع خطوط التداخل الأهلية والاجتماعية المُعقدة لمختلف الجماعات الأهلية. فالخرائطية في أحد أبعادها شرعنة أولية لذلك، وعتبة لاختفاء جميع المدن والجغرافيات الملونة في منطقتنا، كحمص السورية وبغداد العراقية.
من طرف ثالث، فالخرائطية تكشف ما يضمره الكثيرون من شعور فائق بـ «المركزية» السياسية والكيانية، لانتمائهم إلى الجماعة الأهلية الأكبر حجماً، المستأمنة بالحفاظ على الكيانات السياسية بأحجامها الأكبر، وكون الجماعات «الأصغر» الطرفية، إنما تضمر وتنسج توجهات وأفعالاً ترمي إلى تفتيت هذه الكيانات وكسر شوكتها. فصحيح أن الخرائط الأيديولوجية بغالبيتها منتجة من جانب «أشباه النُخب» الأقلوية، لكن الخرائط التي يُقال أنها مسربة من مراكز الدراسات ومؤسسات صناعة القرار، هي بغالبيتها مختلقة ومتخيلة من «أشباه النُخب» الأكثروية المقابلة التي تضمر تلك المركزية والحساسية الفائقة حيال الجماعات الطرفية والأقلوية.
على أن أعمق دلالة على هذا المستوى من التبسيط الساذج لاستخدام الخرائط في النقاش العام، يكمن في تدهور طبيعة وعينا لفكرة الكيانات السياسية وتعقيداتها وارتباطاتها بجملة توازنات سياسية واقتصادية في المنطقة والعالم، وكذلك لتبخيس مدى ومستوى تداخل العلاقات البينية الحياتية والاجتماعية لأبناء مجتمعات بلدان منطقتنا. فالخرائطية تفترض أن حياة البشر ومصالحهم وذاكرتهم ومعاشهم إنما هي أشبه برقعة شطرنج مجردة بسيطة، بحيث يمكن تغيير شروط عيش الناس وحياتهم ومصائر أجيالهم تبعاً لأهواء بعض السياسيين أو الأحدث الاستثنائي.
* كاتب سوري
|