تصلح حالة تراكم النفايات في بيروت مثالاً واضحاً لملاحظة عصر المدن المفترض أنه يطل على الدول والمجتمعات منذ موجة الليبرالية الاقتصادية التي اكتسحت العالم وغيرت دور الدولة، وغيرت أيضاً في بنية الموازين والعلاقات بين الدولة والسوق والمجتمعات والأفراد. وكان طبيعياً ومتوقعاً منذ بدأت الدول تسند إلى القطاع الخاص كثيراً من الخدمات الأساسية والأدوار التي كانت تؤديها، أنه لن يسدّ الفراغ الناشئ عن هذا الانسحاب إلا صعود المدن والمجتمعات؛ ولتحقق ضرورات جديدة لم يكن يفطن إليها من قبل أو كانت متحققة تلقائياً في عصر الدولة الراعية للعمل والخدمات، مثل حماية الفرد من الشركات والإذعان للقطاع الخاص، وحماية المستهلك، وكفاءة المواصفات والمقاييس والجودة في الخدمات والسلع، ومواجهة التحالف بين السلطة والشركات، وتنظيم العلاقة بين الأفراد والمجتمعات من جهة وبين الدولة في ظل انسحاب الدولة وتحولها إلى طرف يبدو معادياً لم يتبق له دور يذكر سوى جباية الضرائب وإنفاقها على مؤسسات وأوجه تبدو معادية للفرد والمجتمع حتى لو كانت ضرورية!
وقد لوحظ في الربيع العربي في دول وحالات عدة كيف عاقبت السلطة المجتمعات بوقف أو تعطيل أو إضعاف الخدمات الأساسية. في الأردن مثلاً، تحولت المدن والبلدات ساحات للنفايات المتراكمة، وتصاعدت عمليات سرقة السيارات، ثم فجأة اختفت النفايات وتوقفت سرقة السيارات دون أن يعرف أحد لماذا تشكلت الظاهرة ولماذا اختفت!
يفترض أن تمكين المدن والمجتمعات لتكون طرفاً ثالثاً وشريكاً إلى جانب القطاع العام والقطاع الخاص، يشكل استجابة سلمية وطبيعية لصعود القطاع الخاص وانسحاب القطاع العام، ولكن أسوأ ما حدث في الدول العربية أن النخب المهيمنة حولت الخصخصة إلى إقطاع فظيع، لأن قيادة السلطة التنفيذية أرادت هي بنفسها أن ترث مؤسسات الدولة وشركاتها، وأدارت لأجل ذلك عمليات فساد وتسهيلات وإعفاءات خرافية للشركات التي هي قيادة السلطة أيضاً، وأسوأ من ذلك كله أن شركاء القطاع الخاص في السلطة أداروا لمصلحة الشركات ورجال الأعمال عمليات إضعاف متعمدة لمؤسسات الدولة وخاصة في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وفي تشريعات العمل والتأمين. والحال أن الخصخصة تحولت إلى مواجهة عدائية بين الدولة والمجتمعات بدلاً من أن تتحول أداة فاعلة للحريات والارتقاء بمستوى الخدمات والتنافس العادل على الفرص!
لم تكن التحولات تحتاج سوى إعادة تنظيم المدن والمجتمعات لتتشكل وجهات جديدة للتأثير والتنظيم الاجتماعي، يفترض أنها ليست موجهة ضد السلطة السياسية، بل إنها تعتبر شريكاً أساسياً للسلطة في تنظيم وإدارة الخدمات الأساسية، ويمكن أن تقلل الإنفاق العام وترشده بنسبة كبيرة، فالمدن والبلدات يفترض أنها قادرة على إدارة وتنظيم منظومة من الخدمات والمؤسسات الصحية والتعليمية والاجتماعية والثقافية وبموارد ذاتية أو بشراكة مع السلطة والقطاع الخاص تعود بالفائدة والرخاء على المجتمعات والأسواق وتخفف عن السلطة عبئاً ثقيلاً.
لم تكن السلطات السياسية تحتاج لو لم تكن شريكة لرجال الأعمال الراغبين في الاحتكار أكثر من الشراكة سوى أن تترك للمجتمعات أن تنشئ أسواقاً ومؤسسات تملكها وتديرها بنفسها وتعود فائدتها على المجتمعات والأفراد وتكون بطبيعة الحال حريصة على كفاءتها ونجاحها. وسوف تكون لدينا في المحصلة مدن وبلدات قادرة على توفير الموارد والفرص والأعمال والماء والطاقة وأداء الخدمات الأساسية بما في ذلك الأمن. وقد أتاحت الشبكية وتقنيات المعرفة والاتصالات فرصاً هائلة لتحقيق ذلك بكلفة منخفضة، ولكن السلطات وجدت نفسها لأجل تمكين الشركات والاحتكارات في حاجة إلى عزل المدن والمجتمعات، وإضعاف التشريعات والمؤسسات العامة، ثم استدرجت نفسها إلى مواجهة سياسية وأمنية مع مواطنيها!
لا تحتاج النخب المهيمنة على النفوذ والموارد إلى الانتظار حتى تتوقف المدارس والمستشفيات وتتحول المدن إلى ساحات للنفايات والفوضى والعصابات حتى تبدأ في التفكير بالشراكة مع المدن والمجتمعات، وكان يمكن تجاوز كل الخسائر والمجازر التي وقعت أو سوف تقع لو ترك للناس أن ينظموا بأنفسهم شؤونهم واحتياجاتهم، ولا بأس بمساعدتهم في ذلك أيضاً. ولكن إذا لم تكن السلطة راغبة في ذلك فليس أقل من ألا تعادي مجتمعاتها ومواطنيها!
* كاتب أردني
|