الموصل - حازم الأمين «عليك أن تكون على مسافة مترين من أي زبونة جاءت إلى محلك لتشتري ملابس». قال حيدر الذي يبيع ملابس نسائية في سوق النبي يونس في الجانب الأيسر من مدينة الموصل. إنها توصيات جماعة الحسبة في تنظيم «داعش» الذي حكم المدينة لسنتين ونصف السنة، أما عقاب المخالف من البائعين في السوق فـ25 وعشرين جلدة. ويندر أن تلتقي في المدينة بأحد من الفئة العمرية بين 12 و40 سنة لم ينل نصيبه من الجلد.
«داعش» تمكن من الوصول إلى كل شيء في المدينة. أحكامه شملت تفاصيل يندر أن وصلتها سلطة. فالعراقي، لا سيما التاجر، يستعين في حواره مع زبائنه بعبارات ملطفة من نوع أنه يستقبل الزبونة بعبارة: «شنو تبغين عيني»! وعبارة «عيني» في الوعي الـ «داعشي» تنطوي على رغبة بالملاطفة عقوبتها 15 جلدة.
خلال الأشهر الثلاثين التي حكم فيها «داعش» المدينة لم يبقِ على شيء لم يتغلغل فيه. لم تنج أي لافتة لمحل تجاري من تعديل. الصيدليات تم محو شعار الصيدلي عن لافتاتها، والمراكز الرياضية أزيلت عن مداخلها صور الرياضيين التي تعلن عن اكتمال أجسامهم، أما محلات العرائس فعلى أصحابها الكف عن عرض صور العرائس، والاكتفاء بعرض صور فساتينهن السود. ناهيك عن فرض التنظيم تغيير أسماء الكثير من المتاجر، ففي السوق مثلاً متجر كبير اسمه «الصبايا للتسوق» طُلب من صاحبه تغيير اسمه وتغيير اللافتة الكهربائية، فأقدم صاحبه على حذف الياء من آخره، فصار الصبا للتسوق.
أسماء الناس بدورها تمت إعادة النظر بعدد منها، فحيدر، التاجر في سوق النبي يونس، كان عرضة لتحقيق متواصل عن سبب إطلاق أهله عليه هذا الاسم على رغم أنهم سنة. وكانت مشكلته أنهم اكتشفوا أن أمه شيعية، فذلك، وإن كان لا عقوبة تشمله، إنما يرشحه لأن يستجيب لأي محاولة تواصل مع أخواله «الروافض». يقول حيدر أن اسمي صار «ابن الرافضية»، وصرت أبالغ في الكشف عن هويتي السنية أينما حللت.
المدينة كلها جُلدت في زمن «داعش»، الناجون من هذه العقوبة قليلون. المدخنون، وهم كثر في المدينة كانوا يعاقبون بـ25 جلدة يُضاف إليها عدد من الجلدات يساوي عدد السجائر التي تنقص من علبة الدخان التي يعثرون معهم عليها. والرجال يُعاقبون على هفوات صغيرة ترتكبها نساؤهم في ملابسهن، كأن تظهر عينا الزوجة من تحت النقاب، والأطفال والفتية يُجلدون إذا ما ارتدوا سروالاً لا يرتفع قليلاً عن الأقدام. وكان ثمة من يحصي كل أوجه العيش اليومي.
لكل من تلتقيه في الموصل حكايات لا تنتهي عما عاشه خلال الأشهر الثلاثين في ظل «دولة الخلافة»، وفي السوق يجتمع الباعة ليخبروا القادمين إلى المدينة حكاياتهم. و «المهاجرون»، وهم عناصر التنظيم من غير العراقيين، لهم الحصة الأكبر من الحكايات. السوريون منهم كانوا الأكثر شدة مع السكان، واللبنانيون كانوا يمشون في الأسواق وتمشي خلفهم السبايا الأيزيديات، وثمة آسيويون شديدو الحساسية حيال رائحة التبغ كانوا يستعملون لتقصي المنازل التي تنبعث منها رائحة التبغ.
الموصل فرحة حقاً بالقضاء على «داعش» في الأحياء التي قضي عليه فيها. الناس يعبرون عن سعادتهم من دون تحفظ، على رغم أن خطر التنظيم ما زال قريباً جداً، وأصوات القذائف تُسمع في الأحياء المستعادة من التنظيم على نحو قوي، فالاشتباكات لا تبعد إلا مئات قليلة من الأمتار، هي المسافة بين ضفتي دجلة الذي يقسم المدينة إلى قسمين.
أهل الموصل «ناجون» في أعقاب دحر «داعش» عن أجزاء واسعة من مدينتهم، وهذه سمة يمكن رصدها في وجوههم، وعبرها يمكن تفسير أنهم أحياناً ليسوا على يقين مما كانوا يعيشونه، ولكنهم ليسوا أيضاً على يقين من أن الكابوس انقضى. أحمد وهو رجل ستيني ورائد سابق في الجيش العراقي بُترت ساقه خلال الحرب العراقية - الإيرانية جُلد ثلاث مرات بسبب التدخين، وهو اليوم متنازع بين أن يفرح برحيل «داعش» وبين أن يخاف من خلايا التنظيم النائمة والتي يقول أنها متغلغلة في أنحاء المدينة.
الشكوك ما زالت جزءاً من علاقات الناس، ذاك أن «الخلايا النائمة» ما زالت تعمل في منطقة الشاطىء الأيسر، والانتحاريون الذين يستهدفون كل شيء هم الهاجس الأكبر. في المقهى الشعبي (الشايخانة) إذا ما نظر إليك أحد لا تعرفه، عليك أن ترتاب، وأن تغادر إذا ما طالت نظراته. ويردد السكان أن خلايا نائمة للتنظيم ما زالت تعمل، لا سيما أن «داعش» نفذ عدداً من العمليات الانتحارية في أعقاب اندحاره عن الجانب الأيسر من المدينة.
لكن حذر السكان لا يشمل تعبيرهم عن الفرح بانكفاء التنظيم عن حياتهم. جميعهم يحملون صوراً لأنفسهم عندما أجبرهم «داعش» على تطويل لحاهم، وهم إذ يرفضون تزويد الصحفيين بصورهم هذه تفادياً لاتهامهم من قبل جماعة الحشد الشعبي بأنهم كانوا عناصر في «داعش»، يرفضون أيضاً عرض الثياب التي كانوا يرتدونها في ظل التنظيم. قال رجل منهم مفسراً سبب رفضه: «هذه صفحة سوداء في حياتنا نريد أن نطويها».
يقول حسن، وهو صحافي من الموصل توقف عن العمل خلال حكم «داعش» بعد أن أطلق لحيته، إن التنظيم استفاد في حكمه المدينة على نحو كبير من خبرات الضباط البعثيين الذين انضموا اليه. بث الرعب في أوساط السكان كان وسيلته لفرض هيبته، وهذا دأب البعث أيضاً. ووصف حسن كيف تم قطع رأس طفلٍ عمره 12 عاماً أمام أنظار سكان الحي الذي يقيم فيه، لأنه أهان الذات الإلهية. مشهد قطع الرأس كان درساً لكل سكان الحي وفق حسن.
وأهل الموصل يعرفون أن مدينتهم اشتهرت في السنوات الثلاث الفائتة عبر إصدارات «داعش» المرئية عبر «يوتيوب». السكان يرشدونك إلى عمارة التأمين التي كانت تظهر في أشرطة «داعش» يصور فيها إلقاء من يقول أنهم مثليين من على طابقها الأخير، ثم الساحة التي كان الصحافي البريطاني جون كانتلي الأسير لدى التنظيم يُصور فيها الأشرطة الدعائية التي فرض التنظيم عليه تسجيلها لمصلحته. الساحة هذه هي في مقابل مطعم «سيدتي الجميلة» الذي فجره قبل أيام انتحاري من التنظيم.
وقصة المدينة مع ما يسميه أهلها «المفخخات» رهيبة، ذاك أن مئات الانتحاريين فجروا أنفسهم في محال وساحات في الأشهر الثلاثة الفائتة. وعليك أن تُميز من نوع الدمار ما إذا كان قد تسبب به قصف مدفعي أم صاروخ طائرة أم سيارة مفخخة. وإذا كان الجانب الأيسر من المدينة قد تعرض لدمار أقل من جانبها الأيمن، لكن ذلك لا يعني أن أحياء الأيسر نجت. فالمدينة خربة فعلاً والدمار أصاب الأشياء من حيث لا يصل الدمار عادة إليها. حرائق أعقبها تخريب أعقبه قصف. والأحياء الأقل عرضة لهذه الموجات المتعاقبة من الدمار، أصابها خراب لا يمكنك تقدير أسبابه أنت العابر المسرع.
التنظيم لم يكن قوة احتلال تقليدية، فهذه الأخيرة تبقى خارج اليومي في حياة الناس. «داعش» رغب وتمكن من الوصول إلى أماكن لم يبلغها محتل من قبل، وكان له رأي وحكم في كل تفصيل، وهذا الحكم كان سيفضي إلى تحولات جوهرية في طبيعة الأشياء فيما لو قيض له أن يستمر أكثر. فسلطة الأب على ابنته لم تعد مستمدة مما هو متوارث من عادات وتقاليد، إنما أيضاً من حقيقة أن الأب يُعاقب على خروج ابنته عن قواعد العيش التي يفرضها «داعش»، ويصح هذا الأمر مع الزوجة والأم والأخت. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأطفال.
ثم أن عنف العلاقات صار مشهداً ممتداً على مساحة المدينة. فهذه المدينة الصناعية التي أنشأ فيها «داعش» معامل تفخيخ السيارات، يعرفها أهل الموصل ويشيرون إليها بصفتها جزءاً عادياً من طبيعة الأشياء. يقول حسن: «كنا نشاهد السيارات تدخل إلى الورشات وتخرج منها بعد تفخيخها، ونمضي أوقاتاً من اللهو متسائلين أين ستنفجر، وما إذا كان سائقها الذي يقودها الآن هو نفسه من سيفجرها بنفسه».
الموت كان قريباً من الجميع هنا. الأحكام تصدر وتنفذ بدقائق قليلة، وأي عنصر من التنظيم مخول استدراج أي مواطن للسقوط في أفخاخها. «المهاجرون» وفق السكان هم الأشد عنفاً، ويحفظ لهم أهل الموصل أسماء وألقاب، فأبو عبدالله اللبناني واحد من هؤلاء وهو من مدينة طرابلس، ويسميه الناس هنا «أبو الأمنية» لأنه يرأس جهازاً أمنياً تابعاً للتنظيم. السعوديون يسميهم السكان «الجزراويون» نسبة إلى الجزيرة العربية، فيما احتفظ التونسيون باسم بلدهم.
يقول حسن كنا نعرف نساء «داعش» المهاجرات من أحذيتهن، ذاك أن العباءة السوداء كانت تمنع التمييز بغير الأحذية. كانت المهاجرات ترتدين أحذية رياضية تظهر من تحت العباءة، أما نساء «داعش» المحليات فكن يرتدين «الشبشب» المحلي. وبينما يُطلق الناس هنا على عنصر التنظيم اسم «دعوش» يطلقون على المرأة في التنظيم «دعوشة»، وهذه عبارات يجب أن تبقى بعيداً من مسامع عناصر التنظيم، إذ إن عقاب من يقولها هو الإعدام.
البيوت المستعادة هي جزء من هموم الناس ، فـ «داعش» كان صادر آلاف البيوت وأسكن فيها عائلات «مهاجرة» وأخرى لعناصره العراقيين القادمين من جوار الموصل، وهؤلاء أحدثوا تبديلاً في وظائف المنازل وفي وجهات استعمالها. ويشيح الناس هنا بوجوههم عندما يُسألون عما إذا كان من بين محتلي منازلهم عناصر من المدينة، لا سيما أن موصليين كثراً يؤكدون أن عناصر «داعش» من أهل المدينة هم قلة، وأن معظم العناصر هم من خارج المدينة، لا سيما من مدينة تلعفر المجاورة.
لطالما أخفت المدن أسراراً في لحظات التحول الكبرى التي تعيشها، لا تلبث أن تبدأ بالتكشف. الموصل كانت فعلت ذلك في العام 2003 حين دخلها الأميركيون، وكذلك فعلت معظم المدن العراقية. اليوم في الموصل يمكنك أن تشعر بذلك. ثمة لحظات صمت تعقب أسئلة محددة، قد تبدو الإجابة عنها «توريطاً» للمدينة. السؤال عن عناصر «داعش» من أهل الموصل هو أحد هذه الأسئلة التي عليك أن تبحث عن إجابة عنه في أمكنة أخرى.
فمن الواضح أن عبارة «أهل الموصل» لم تعد تعني العائلات الموصلية التي تعود أصولها إلى المدينة، إنما هي اليوم تشمل من انتقلوا للعيش في المدينة في العقود الثلاثة المنصرمة، ولهؤلاء امتدادات عشائرية في ريف الموصل، ويبدو أن «داعش» نجح باختراق هذه الشريحة من السكان، أكثر من نجاحه باختراق العائلات الموصلية التقليدية. ويسمي أهل الموصل مواطنيهم هؤلاء بأبناء «الجرية»، أي القرية. وهذه الشريحة بقيت بعد نزوحها إلى الموصل محافظة على صلة بعمقها الريفي والعشائري، وكما كان البعث معتمداً في نفوذه في المدينة على هؤلاء، نجحت «داعش» أيضاً في ذلك.
في أسواق الموصل يمكنك أن تسمع أصواتاً حادة حيال «داعش» لا تخلو من مشاعر أهل المدن حيال الطارئين على مدينتهم، لكن غالباً ما يميل المدينيون إلى تفادي تظهير المشهد كاملاً، لا سيما أن ثمة خريطة نفوذ موازية لتلك التي يقدمونها، وهذه تضعف صلابة ما يقولون وإن كانت لا تنفيه، فالموصل اليمنى التي ما زال «داعش» يقاتل في أحيائها، تضم المناطق القديمة من المدينة، وهي أيضاً مناطق غير مخترقة بسكن الأقليات، علماً أن «داعش» كان تدفق على المدينة من هذه المنطقة، وخط إمداده من الريف يعبر منها. وفي هذه المناطق استقر قادة التنظيم، وفيها ألقى أبو بكر البغدادي خطبته الوحيدة.
لا شك في أن التنظيم كان يشعر بالاستقرار أكثر في الموصل اليمنى، أي الموصل غير المخترقة بسكن الأقليات، والموصل المتصلة بالريف وبالبادية وبمدينة تلعفر، التي تعتبر «قدس داعش» في العراق. وموقع القسم الأيمن من المدينة هذا يرشحه أيضاً إلى احتمالات مأسوية تتفوق فيه الكارثة على كارثة الشاطىء الأيسر، ذاك أن قراراً بحصار عناصر التنظيم فيه وعدم فتح طريق انسحاب لهم، قد اتخذ، وهذا يعني قتالاً حتى الموت، ويعني أيضاً دماراً شبه كامل لهذا الجزء من المدينة.
|