MON 12 - 5 - 2025
 
Date: Jan 17, 2011
 
حركة شعبية بلا أحزاب أسقطت الحكم التونسي

الإثنين, 17 يناير 2011

محمد سيد رصاص *


لم يتحمل الحبيب بورقيبة أحداً ، لا في السلطة ولا في المعارضة. أبعد العروبي صالح بن يوسف عن السلطة في عام1961، ثم أتبعه بوزير التخطيط والاقتصاد أحمد بن صالح في نهاية ستينات القرن الماضي بعد تجربته الفاشلة في «تعاونيات» القطاع الزراعي، ومن ثم أتبعهما بأصحاب التوجه الليبرالي مثل وزير الداخلية أحمد المستيري (1971) ورئيسي الوزراء الهادي نويرة (1980) ومحمد مزالي (1986). وفي المعارضة ضرب الحزب الشيوعي في عام 1962، وفي السبعينات لاحق بعنف التنظيمات القومية العربية والماركسية الماوية مثل «منظمة العامل التونسي»، وعندما أعطى الحزب الشيوعي الحرية بالنشاط العلني في تموز (يوليو) 1981 هو و(حركة الديموقراطيين الاشتراكيين) بزعامة المستيري كان ذلك مسبوقاً بحملة أمنية كبيرة على «حركة الاتجاه الإسلامي» بقيادة راشد الغنوشي.

 

كانت قدرة بورقيبة على العوم في رأس هرم السلطة التونسية مستندة إلى رصيده الوطني خلال فترة الكفاح من أجل الاستقلال تونس، وإلى إنجازات اقتصادية، وتحديثات تشريعية، أمنَت له قاعدة اجتماعية عريضة، خصوصاً في الفئات المدينية الوسطى وبالذات في المدن الساحلية، وإلى دعم خارجي من باريس وواشنطن، في وجه الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة، وحكم جزائري، في عهدي بن بله وبومدين اللذين لم تكن ترتاح إليهما فرنسا والولايات المتحدة.

 

مع هذا، فإن فترة ما بعد إقالة محمد مزالي، في عام 1986، أظهرت فراغاً في المؤسسة التونسية الحاكمة في ظل رئيس بدأ يعاني من أمراض الشيخوخة. لم يستطع الجيش، المهمش الدور في تونس البورقيبية بخلاف غالبية البلاد العربية، أن يملأه، ولا الحزب «الحاكم»، ولا الجهاز الإداري الذي كان يلعب دوراً بارزاً في تسيير مؤسسات السلطة التونسية لم تصل إليه باقي الإدارات العربية. قام بملء ذلك الفراغ شخص اسمه زين العابدين بن علي، صعد من المؤسسة الأمنية إلى الطابق العلوي من السلطة السياسية، خلال أشهر قليلة في النصف الثاني من عام1987 ، قبل أن يتولى خلافة بورقيبة في يوم 7 تشرين ثاني (نوفمبر) 1987: قالت «حركة الاتجاه الإسلامي»، التي كان قائدها الغنوشي في السجن البورقيبي ومحكوماً بالمؤبد،، عن «بيان 7 تشرين الثاني» أنه «أدخل البلاد في طور جديد سيقطع مع أساليب الحكم الفردي»، كما رحب بالعهد الجديد كل من الحزب الشيوعي (أصبح اسمه منذ عام 1994 «حركة التجديد»، وحركة المستيري، و (التجمع الاشتراكي التقدمي: اسمه»الحزب الديموقراطي التقدمي» منذ 1988)، ووقعت هذه الأحزاب والحركات (إضافة إلى أحزاب وحركات أقل أهمية ولكن مرخصة) مع الحزب «الحاكم»، الذي أصبح اسمه «التجمع الدستوري الديموقراطي» منذ تموز (يوليو) 1988، على وثيقة «الميثاق الوطني» (7 تشرين الثاني 1988) التي تنص على «مبدأ الديموقراطية المستند إلى تعدد الأحزاب»، و أعطيت خلال عام 1988، حتى التنظيمات غير المرخصة مثل «حركة الاتجاه الإسلامي» و «حزب العمال الشيوعي»، ترخيصات لنشراتها، مع حرية النشاط العلني.

 

ولكن منذ عام 1988، بدأت ملامح الدولة الأمنية بالظهور: انتقال كادرات المؤسسة الأمنية إلى الوزارات والإدارات وحزب السلطة، في تجربة لا توازيها ربما سوى تجربة فلاديمير بوتين الآتي، مثل بن علي، من الجهاز الأمني في آخر عهد يلتسين - 1999، وأيضاً كرئيس للوزراء قبل أن يخلف الأخير. كان هذا الانتقال مترافقاً مع تصفية بقايا «الحرس القديم» البورقيبي من حزب السلطة ومن الإدارة ، ومع ضرب مركز القوة المتبقي من العهد القديم، المتمثل في «الاتحاد العام التونسي للشغل»، الذي وقف أمينه العام الحبيب عاشور، وأحياناً بتشجيع من بورقيبة، في وجه نويرة ومزالي.

حصلت صدمة كبرى لنظام بن علي في انتخابات برلمان 2 نيسان (أبريل) 1989: نالت «حركة النهضة»، التي قدمت في شباط (فبراير) السابق طلباً لرخصة قانونية بهذا الاسم لم تنلها كبديل عن اسم «حركة الاتجاه الإسلامي»، أصواتاً بلغت 17 في المئة من مجموع أصوات المقترعين في القوائم التي دعمتها، ولم تنل كل الأحزاب الستة المرخصة سوى 3 في المئة، فيما حصل حزب السلطة على80 في المئة. كان من الواضح، منذ اليوم التالي لتلك الانتخابات، أن الصدام بين السلطة والإسلاميين مسألة وقت، وقد لعب بن علي على ذعر باريس فرانسوا ميتران من صعود إسلاميي الجزائر المتنامي في ذلك العام (والذي كان هناك الكثير من المؤشرات، في تلك الفترة، على تشجيع «ما» من واشنطن له لاستخدامه من أجل نزع النفوذ الفرنسي في الجزائر) لضمان غطاء فرنسي لتحركه ضد الإسلاميين، قبل أن يتحرك، بعد مرحلة من التضييق عليهم، لضرب «حركة النهضة» في أيار (مايو) 1991بعد وضوح تباعد واشنطن عن الحركة الإسلامية العالمية خلال حرب الخليج 1991، التي كانت أول مؤشر على انفراط تحالفهما طوال فترة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. لم يقتصر بن علي على ضمان حلفاء دوليين ضد الإسلاميين، أو إقليميين مثل القاهرة، وإنما وضع في جيبه كل الأحزاب المرخصة أثناء ذلك الصراع، وحتى الحزب غير المرخص والذي لم يكن محتوى من السلطة، مثل «حزب العمال الشيوعي»، انجرف في موجة عداء السلطة للإسلاميين عبر منظور فكري ولا سياسي، عندما أصدر زعيمه حمة الهمامي كتابه «ضد الظلامية» في تلك الفترة، قبل أن يقوم النظام بحملة اعتقالات شاملة في صيف 1992 ضد هذا الحزب، بعد انتهائه من ضرب الإسلاميين. في السياق نفسه، كان أيديولوجيو حزب السلطة كلهم من الماويين السابقين في «منظمة العامل التونسي»، مثل منصف خوجة رئيس تحرير صحيفة «التجديد» الناطقة باسم (التجمع الدستوري)، أو وزير التربية محمد الشرفي، وكانت ماركسيتهم السابقة تحوَلت إلى علمانية - فرنكوفونية معادية للإسلاميين وللعروبة.

 

عندما حاول الأمين العام لـ «حركة الديمقراطيين الاشتراكيين» محمد مواعدة الخروج عن دائرة الحركة التي رسمتها السلطة في عام 1995، بعد اكتشافه سراب الوعود بـ «تحقيق الديمقراطية» بعد التفرغ من أمر الإسلاميين، كان مصيره السجن والمحاكمة. خلال التسعينات، أصبح بن علي نموذجاً مدللاً عند الغربين الأوروبي والأميركي، وكان يشار آنذاك إلى نجاحاته ضد الإسلاميين التي فاقت ما جرى في القاهرة والجزائر، وإلى نجاحاته الاقتصادية، التي جرت وفق نموذج كان يذكر بنموذج بينوشيه في تشيلي السبعينات بعد انقلاب 11أيلول (سبتمبر) 1973 المدعوم أميركياً ضد الحكومة المنتخبة للرئيس سلفادور أليندي، إذ تم جمع القمع العاري للسلطات مع السياسة الاقتصادية الليبرالية، التي دعمتها في سانتياغو أيضاً في البداية فئات وسطى ورجال أعمال.

 

كان الوضع في تونس مختلفاً في تفاصيله عن سانتياغو: لم تكن المؤسسة العسكرية هي الحاكمة، كما في تشيلي 1973-1990، وإنما حاكم فرد استند، إضافة للدعم الدولي، إلى أجهزة الأمن التي امتدت أذرعها إلى مفاصل السلطة وتحكَمت في الإدارة والمؤسسات الإعلامية والثقافية، وإلى رجال أعمال معظمهم أتى بثروته من تحت خيمة السلطة أو استظل بها. ولكن، وكما في تشيلي منتصف الثمانينات عندما بدأت أزمة مديونية دول أميركا اللاتينية تلقي بثقلها، فإن بن علي أيضاً قد بدأت سقوف «معجزته الاقــتصـــادية» تتكشف عن محدودية علوها منـــذ عام 2005 لما وصلت بطالة الشباب إلى 30 في المئة، ثم ظهر الأمر أكثر وضوحاً منذ أزمة أيلول 2008 المالية - الاقــتصادية العالمية التي أصابت في أوروبا أكثر ما أصابت الحزام الجنوبي الضعيف للجماعة الأوروبية، روما ومــــدريد ولشبونة، الذي ترتبط به تونـــس عبر تشابكات اقتصادية من العمل وتحويل الأموال والاستثمارات على التراب التونسي، الأمر الذي أدى إلى مفاعيل كـــبرى في البنية الاقتصادية - الاجتماعية التونسية، التي ظهر، أثناء أزمتها الاقتصادية الأخيرة، مدى قوة الفوارق الطبقية في مجتمع كانت فئاته الوسطى في بحبوحة كبيرة حتى أوائل التسعينات وكانت تمثل نسبة عالية من السكان، خصوصاً في المدن الساحلية، وهذا يفسر كون «الانتفاضة العمالية» في1978، و «أحداث قفصة» عام 1980، و «ثورة الخبز» في1984، من دون امتدادات شاملة للتراب التونسي أو لغالبية الفئات الاجتماعية، بخلاف ما رأينا في الأسابيع الأربعة الفاصلة بين يومي 17 كانون أول (ديسمبر)2010 و14 كانون ثاني (يناير) 2011، حين امتدت المطالب الاقتصادية - الاجتماعية إلى مسارات صعدت نحو أعلى الطابق السياسي، عبر حركة عفوية غير مؤطرة حزبياً، كان وقودها المحرك شباب عاطلون من العمل، أو يشعرون بالتمييز الاقتصادي - الاجتماعي، وذلك في مجتمع تم منذ عشرين عاماً مسح طاولة قواه السياسية المعارضة، أو احتواء أحزابه وحركاته «القانونية»، وهو الأمر الذي جعل هاتين الفئتين من التنظيمات السياسية غير قادرة، على رغم محاولاتها، على قيادة تلك الحركة، التي هي أول حركة في الشارع العربي تستطيع خلال العصر الحديث إعادة تشكيل السلطة السياسية.

 


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Inside:
Why Algeria will not go Egypt's way
When revolutionary euphoria subsides: Lessons from Ukraine
A letter from the Cedar Revolution to the Nile Revolution
Mubarak, save Egypt and leave
Barack Obama sees Egypt, but remembers Indonesia
Just changing generals is not freedom
Egypt’s Youth are Responsible for Defending their Revolution from Those who Would Climb upon It
Can Lebanon kill its own tribunal?
Egypt's future in Egyptian hands
Social media are connecting Arab youths and politicians
The Mediterranean between sunny skies and clouds of pessimism
For the West, act of contrition time
Why Arabs have airbrushed Lebanon out
The Tunisian experience is likely to mean evolution in Morocco
Can Egypt's military become platform for political change?
Lost generations haunt Arab rulers
Democracy: not just for Americans
For better or worse, Arab history is on the move
The Middle East's freedom train has just left the station
Mubarak's only option is to go
Ben Ali's ouster was the start, and Mubarak will follow
Is this a Gdansk moment for the Arabs?
Tunisia may be a democratic beacon, but Islamists will profit
The Arabs' future is young and restless
Egypt's battle requires focus
Arab rulers' only option is reform
Exhilarating Arab revolts, but what comes afterward?
Hezbollah enters uncharted territory
Resisting change fans the flames
To participate or not to participate?
choice decisive for Lebanon
Lebanon typifies Arab political poverty
Between Tunisia’s Uprising and Lebanon’s Tribunal
Lebanon, Between Partnership and Unilateralism
What might Hezbollah face once the trial begins?
In Lebanon, echoes of the Iraq crisis
Is Hezbollah's eye mainly on Syria?
Egypt's Copt crisis is one of democracy
The thrill and consequences of Tunisia for the Arab region
Three Arab models are worth watching
Tunisia riots offer warning to Arab governments
Tunisia has a lesson to teach
Time for Lebanese to re-think stances
Amid stalemate, let negotiations begin!
North Africa at a tipping point
The Options Available When Faced with the Failure of Arab Governments
Latifa and Others
Troubling trends in this Arab new year
The past Lebanese decade
Beyond the STL
Yet another Arab president for life
An independent Egyptian Web site gives women a voice
Fight the roots of extremism
Fractures prevail as Arabs cap 2010
Truth about injustice will help reduce Muslim radicalization
Christian flight would spell the end for the Arab world
Defining success in the Lebanon tribunal
60% of the Lebanese and 40% of Shiites Support the Choice of Justice
Without remedy, Lebanon faces abyss
The Saudi succession will affect a broad circle of countries
The Arab world faces a silent feminist revolution
The canard of regime change in Syria
Egypt faces a legitimacy crisis following flawed elections
Lebanon: Reform starts with politicians
Human Rights: Three priorities for Lebanon
What's changed?
Monitoring in the dark
Myths about America
Lessons from the fringes
On campus, not all get to vote
'Your credit is due to expire'!
Blood for democracy
Lebanon can solve its own problems
The Janus-like nature of Arab elections
Social Structural Limitations for Democratization in the Arab World
Jordan’s Public Forums Initiative
Islamic Historic Roots of the Term
Copyright 2025 . All rights reserved