THU 8 - 5 - 2025
 
Date: Jan 16, 2011
 
درس تونس: الانسداد السياسي يولّد الانفجارات

الأحد, 16 يناير 2011
خالد الحروب *


ما يحدث الآن في تونس والجزائر، يمكن أن يحدث اليوم أو غداً في أي بلد عربي أو غير عربي تتفاقم فيه ظروف الانسداد السياسي إلى درجة الاحتقان الكامل. ليس هناك حاجة لاجتراح تفكير بارع لفهم أسباب الانتفاضة الشعبية هناك، واستعداد الناس للتضحية والموت في سبيل تغيير أوضاع يبدو أنه ما عاد بإمكان الغالبية تحملها. كما ليس هناك حاجة لتفكير بارع آخر لفهم أسباب دفاع النخب الحاكمة بشراسة عن نفسها ومواقعها، فالتمسك بالسلطة يكاد يكون الإغراء الأخطر في حياة البشر مذ وجدوا على هذه الأرض. لكن المحيّر هو إدارة هذه النخب ظهرها في شكل كامل لاستيعاب ما هي بداهات سياسية لا تني تجارب الشعوب تؤكدها حالة إثر أخرى. واحدة من أهم البداهات الألفبائية، سياسياً وفيزيائياً، تقول إن الضغط يولد الانفجار، وانه من دون إنهاء المسببات الحقيقية للضغط فإن الانفجارات التي تندلع تُدخل الشعوب والسلطات في أنفاق دموية مجهولة النهايات.


يمكن بالطبع تحليل خلفيات عدة وظواهر ومسببات متشعبة تقف وراء الغليان الراهن في تونس، وكل ذلك يفيد في إجلاء الصورة وتعميق فهمها. بيد أن كل ما يمكن أن يُسرد ويُشار إليه بالتحليل يعود جذره ومن دون أدنى شك إلى الانسداد السياسي والاستبداد المُطبق خلال ما يقارب ربع قرن. لا يهم الشكل التجميلي للبنية السياسية التسلطية وإن كانت ترتدي ثوباً حداثياً علمانياً، أو دينياً إسلامياً، فما عاد ذلك ينطلي على الوعي العام الذي راقب ارتداء كل الأثواب وكل المساحيق. الذي يهم هو وجود أو غياب الجوهر التسلطي، فهذا لا غيره هو ما يقلل أو يفاقم من احتمالات الانفجار. قد تنجح آليات الاستبداد في إطالة أمد حياته بعض الوقت، لكن النهاية واحدة وصارت معروفة في كل الحالات. هذا ما كان في الماضي البعيد والقريب، وهذا ما رأيناه يتكرر بانتظام مُدهش في تاريخ القرن العشرين. ولسوف يتكرر ذلك أكثر وأوضح في القرن الحالي ذلك أن مجتمعات عالم اليوم المتعولم ترابطت وتداخلت معارفها وعلائقها على نحو فريد، ثم انكشفت نجاحاتها وإخفاقاتها عبر الإعلام العابر للحدود، التلفزيوني والإنترنتي، وغدت عصية على أدوات الضبط والرقابة التقليدية. وباختصار شديد لم يعد هناك من يجادل في كنه المآلات النهائية والمتوقعة للاستبداد والمدعومة بشواهد تاريخية وحاضرة لا تحصى.


الدرس الأول والأهم من تونس هو أن الاستقرار الظاهري المبني على انسداد سياسي وتسلط عميق ينتهي إلى تصدع كبير لا يمكن احتواؤه. والسبب في ذلك أن الاستقرار الظاهري يشتغل عموماً على إنتاج الشيء وضده في الوقت ذاته. فعلى المدى القصير ينجح بالفعل في تحقيق وتمرير الصورة المستقرة عن البلد ويروجها داخلياً وخارجياً، بخاصة إن تواءمت سياساته الخارجية مع السياسات الغربية التي سرعان ما تتواطأ بدورها مع أنماط الاستقرار الظاهري المتحالفة معها. أما على المدى المتوسط والطويل فإن الاستقرار الظاهري يشتغل، وفي الآن نفسه، على مراكمة الإحباطات والغضب تحت السطح عوضاً عن معالجتها وتفريغها فوقه وتقديم الحلول لمسبباتها أولاً بأول. وهكذا تصبح الصورة الإجمالية خادعة وخطيرة: استقرار بائن للعيان شواهده كثيرة، لكنه عملياً يقوم على أرضية هشة تغلي البراكين تحتها.


الدرس الثاني من تونس يقول إن توظيف الحداثة والعلمانية بهدف إطالة أمد التسيس المُحبط والتسلطي لا يمكن أن يستمر طويلاً. ينجح هذا التوظيف بقوة على خلفية التخوف الواسع النطاق، والمُبرر معظمه، من البديل للأنظمة القائمة وهو الحركات الإسلامية الأصولية. ويصبح الخيار المطروح على الشعوب والأطراف المختلفة محصوراً بين أنظمة علمانية فاسدة ومستبدة، أو حركات إسلامية أصولية برامجها غامضة والتجارب التي سيطرت فيها على الحكم لا تبشر إلا بمزيد من الاستبداد والخوف (إيران، السودان، «حماس»، ...). وعلى هامش هذا الضيق الخانق في الخيارات يصبح الانحياز الى الأنظمة القائمة على ما فيها من سوء خياراً عقلانياً كما يجادل كثيرون. وعلى رغم ما في هذا الرأي من وجاهة لا يمكن أن يتم التغافل عنها، إلا أن التجربة والشواهد المتزايدة تضعف منطقه الإجمالي. فعلى المدى الطويل أيضاً تخسر الحداثة والعلمانية كثيراً عندما تكون ممثلة بأنظمة مستبدة وفاشلة، والخسارات المتلاحقة لهما في منطقتنا كانت هي الممول الأهم لصعود التيارات الأصولية. فهذه الأخيرة لم تكن لتنجح بناء على برامج خارقة اقترحتها على الشعوب، بل لأن البدائل الحداثية والعلمانية فشلت فشلاً ذريعاً وصارت عناوين للاستبداد والفساد والقمع ليس أكثر.


الدرس الثالث يقول إنه على عكس الاتهامات الإحباطية للشباب العربي بأنه غير مبال وتافه (لأنه جيل «ستار أكاديمي» وتلفزيون الواقع!) ولا يهتم بالشأن العام فإن الشرائح الشبابية العربية تمتلك وعياً عميقاً وحاداً بالقضايا التي تحيق بها. والأهم من ذلك أنها مستعدة للتضحية القصوى في سبيل تحسين ظروفها ومواجهة ما تراه ظلماً وغياب عدالة. ويثبت الدرس التونسي أيضاً أن ليس من الدقة القول بأن الشريحة الشابة النشطة الوحيدة في الشارع العربي هي الإسلاميون. فالذي يتبدى للمتابع للشارع المنتفض في تونس هو أن الاحتجاجات عامة والمشاركين فيها يتجاوزون أي محاولة للتصنيف الحزبي، إسلامية كانت أم علمانية. بل ربما يجوز تسجيل ملاحظة غياب الإسلاميين، فضلاً عن تصديهم لقيادة هذه الاحتجاجات كما تقول أطروحة سيطرة الإسلاميين على الشارع العربي.


الدرس الرابع يقول إنه ما عاد بإمكان السلطة في تونس، أو في أي بلد عربي آخر، التخفي وراء النجاح الاقتصادي وتوظيفه لإدامة الانسدادات السياسية والتسلطية. لا يمكن أن يتواصل أي نجاح أو انفتاح اقتصادي من دون أن يرافقه نجاح وانفتاح سياسي. يكفي أن نتذكر أن تكافؤ الفرص والشفافية والمحاسبة هي مفاهيم تقع في قلب أي اقتصاد ناجح. وهذه المفاهيم لا يمكن أن تتواجد وتشتغل وتحافظ على فاعلية الاقتصاد إلا في مناخ حريات سياسية وتعبيرية ونزاهة في النظام القانوني. في غياب القضاء المستقل والتعددية السياسية والصحافة الحرة فإن الاقتصاد الناجح في الظاهر يعمل بسرعة خارقة على تخليق فساد مستشر ومركب، ينمو من دون ردع ولا رقابة. ثم يبدأ هذا الفساد بقضم اللحم الحي للاقتصاد الناجح الذي تولد على هامشه.


الدرس الخامس يقول إن الاعتماد على الدعم الخارجي لتعويض الشرعيات المنقوصة لا يحقق إلا استقراراً قصير الأمد. ليس هناك من بديل عن شرعيات قوية متوافق عليها ومتأسسة على بنيات داخلية. الخارج، وتحديداً الدول الغربية، تواجه هي الأخرى تحولات العالم المعولم والإعلام المنفلت حتى عن سيطرتها. السياسات الإزدواجية سرعان ما صارت تنفضح، وما عاد بالإمكان إحكام طوق التواطؤ الإعلامي والسياسي لدولة حليفة تقمع شعبها وتدوس على قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان التي يدعو لها الغرب نفسه. والقوى الديموقراطية والحقوقية والإنسانوية في الغرب تستهدف فضح حكوماتها في كل حالة تسيس نفاقي. ولهذا فإن أقرب الداعمين للحكومة التونسية في الغرب، فرنسا والولايات المتحدة، اضطرتا وبعد صمت مخز للحديث علانية ونقد ما يحدث من قمع شديد في الشارع واستخدام مفرط للقبضة البوليسية. ليس هذا فحسب بل نعرف أيضاً من التجربة التاريخية أن الدول الكبرى والغربية تراقب أي وضع محلي عن كثب في الدول الحليفة وغير الحليفة، وأنها لا تتردد في تغيير «الأحصنة» في اللحظة المناسبة. لا يهمها أن يسقط بيدق على رقة الشطرنج هنا أو هناك، أو أن يرتفع بيدق جديد، أو أن يتم تأهيل بيدق قديم، فما يهمها هو الرقعة نفسها وليس البيادق التي فوقها. منطقتنا رأت ذلك في حالات عدة من إيران الشاه وعراق صدام حسين إلى ليبيا القذافي، وغيرها كثير.
* محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Inside:
Why Algeria will not go Egypt's way
When revolutionary euphoria subsides: Lessons from Ukraine
A letter from the Cedar Revolution to the Nile Revolution
Mubarak, save Egypt and leave
Barack Obama sees Egypt, but remembers Indonesia
Just changing generals is not freedom
Egypt’s Youth are Responsible for Defending their Revolution from Those who Would Climb upon It
Can Lebanon kill its own tribunal?
Egypt's future in Egyptian hands
Social media are connecting Arab youths and politicians
The Mediterranean between sunny skies and clouds of pessimism
For the West, act of contrition time
Why Arabs have airbrushed Lebanon out
The Tunisian experience is likely to mean evolution in Morocco
Can Egypt's military become platform for political change?
Lost generations haunt Arab rulers
Democracy: not just for Americans
For better or worse, Arab history is on the move
The Middle East's freedom train has just left the station
Mubarak's only option is to go
Ben Ali's ouster was the start, and Mubarak will follow
Is this a Gdansk moment for the Arabs?
Tunisia may be a democratic beacon, but Islamists will profit
The Arabs' future is young and restless
Egypt's battle requires focus
Arab rulers' only option is reform
Exhilarating Arab revolts, but what comes afterward?
Hezbollah enters uncharted territory
Resisting change fans the flames
To participate or not to participate?
choice decisive for Lebanon
Lebanon typifies Arab political poverty
Between Tunisia’s Uprising and Lebanon’s Tribunal
Lebanon, Between Partnership and Unilateralism
What might Hezbollah face once the trial begins?
In Lebanon, echoes of the Iraq crisis
Is Hezbollah's eye mainly on Syria?
Egypt's Copt crisis is one of democracy
The thrill and consequences of Tunisia for the Arab region
Three Arab models are worth watching
Tunisia riots offer warning to Arab governments
Tunisia has a lesson to teach
Time for Lebanese to re-think stances
Amid stalemate, let negotiations begin!
North Africa at a tipping point
The Options Available When Faced with the Failure of Arab Governments
Latifa and Others
Troubling trends in this Arab new year
The past Lebanese decade
Beyond the STL
Yet another Arab president for life
An independent Egyptian Web site gives women a voice
Fight the roots of extremism
Fractures prevail as Arabs cap 2010
Truth about injustice will help reduce Muslim radicalization
Christian flight would spell the end for the Arab world
Defining success in the Lebanon tribunal
60% of the Lebanese and 40% of Shiites Support the Choice of Justice
Without remedy, Lebanon faces abyss
The Saudi succession will affect a broad circle of countries
The Arab world faces a silent feminist revolution
The canard of regime change in Syria
Egypt faces a legitimacy crisis following flawed elections
Lebanon: Reform starts with politicians
Human Rights: Three priorities for Lebanon
What's changed?
Monitoring in the dark
Myths about America
Lessons from the fringes
On campus, not all get to vote
'Your credit is due to expire'!
Blood for democracy
Lebanon can solve its own problems
The Janus-like nature of Arab elections
Social Structural Limitations for Democratization in the Arab World
Jordan’s Public Forums Initiative
Islamic Historic Roots of the Term
Copyright 2025 . All rights reserved