WED 7 - 5 - 2025
 
Date: Jan 16, 2011
 
السعودية ليست دولة دينية

الأحد, 16 يناير 2011
خالد الدخيل *


أعود إلى موضوع كتبتُ عنه هنا ثلاثة مقالات. كانت الأخيرة منها في 19 كانون الاول (ديسمبر) الماضي. كانت فكرة العودة تراودني، ثم جاء الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي وكتب مداخلة مطولة في هذه الصحيفة، في 30 كانون الاول، تعليقاً على ما كتبتُه. كان السعيدي مباشراً في التعبير عن اختلافه معي في مسائل مهمة وإستراتيجية، وعبر عن ذلك بأسلوب ينم عن قناعة راسخة بما يريد أن يصل إليه. ومع أن ما يريد الوصول إليه يتناقض مع ما كتبتُه، ومع طبيعة الدولة السعودية ونظامها الأساسي، إلا أنه لم يخرج في اختلافه عن أصول الجدل ومتطلباته، وهذا أمر يحسب له.
انصبّ اهتمام الكاتب في كل مداخلته على تأكيد الطبيعة الدينية للدولة السعودية، ولهذا يرفض أحياناً مصطلح الدستور، وأخرى يقترح أن نعطي له تعريفاً يتوافق مع تصوره الديني المسبق للدولة، من دون أن يفصح عن هذا التعريف. انسجاماً مع ذلك، ركَّز على مسألتين: مصطلح «الدستور» وصلاحيته لوصف النظام الأساسي، والثانية نفي الصفة الوطنية عن الدولة السعودية، والتأكيد بدلاً من ذلك على طبيعتها الدينية. واللافت أنه تجاهل في كل ذلك المسألةَ المركزية في ما كتبتُ، والتي كان يجب أن تكون موضوع النقاش، وأقصد طبيعة علاقة المؤسسة الدينية بدستور المملكة وحدود هذه العلاقة. وكنت قد طرحت هذه المسألة في المقال الأخير على النحو التالي: «ما هي تحديداً علاقة المؤسسة الدينية السعودية بالنظام الأساسي، باعتباره دستورَ الدولة التي تنتمي إليها؟ هل هو ملزم لها في كل ما يصدر عنها أو عن بعض أعضائها من مواقف وفتاوى؟»، أم أن هذه المؤسسة (وهذا سؤال أضيفه هنا) ليست ملزمة إلا بالمادة الأولى من النظام الأساسي، وغيرها من المواد، التي تؤكد على أن الكتاب والسنّة هما معاً مرجعيته الأولى، وأن المواد والعناصر الأخرى لهذا النظام ليست ملزمة لها؟ الباعث على مثل هذه الأسئلة، كما أشرت في المقالة ذاتها، هو الإشكال المتمثل في «أن مرجعية الكتاب والسنّة بالنسبة الى المؤسسة هي مرجعية مفتوحة، أي أنه ليس لها إطار دستوري يحدد وجهتها ويؤطر مواقفها وفتاواها بما يتفق مع مواد النظام الأساسي كوثيقة واحدة متكاملة». ونتيجة لذلك، صدرت عن المؤسسة مواقف وفتاوى تتعارض مع بعض أنظمة الدولة، كموقفها من النظام المصرفي، ومن عمل المرأة، على سبيل المثال. وبما أن الكتاب والسنّة هما مرجع النظام الأساسي، فلماذا لا يشكل هذا النظام بكليته الإطار الدستوري لعمل المؤسسة ومرجعيتها النهائية؟ هل لذلك علاقة بأن مفهوم «الكتاب والسنة» مفتوح على مدارس فقهية عدة، ويحتمل آراء واجتهادات قد تختلف في ما بينها إلى هذه الدرجة أو تلك، لكنها جميعاً تُعتبر اجتهاداتٍ صحيحةً ومشروعة؟


ليس هناك من معنى لسؤال الدكتور السعيدي عن هذه الإشكالية، لأنه يرى أن النظام الأساسي يؤكد أن «الدولة كلها، من رأس هرمها إلى نهاية أطراف قاعدتها الشعبية، هي مؤسسة دينية»، حتى «مجلس الوزراء... ومجلس الشورى... وبقية الوزارات، كلها مؤسسات دينية».


عدا عن مغالطته الواضحة بمثل هذا الرأي، فإن موقف الكاتب ملتبس، فهو يقبل من النظام الأساسي المواد التي يرى أنها تؤكد الطبيعة الدينية للدولة، ويُسهب كثيراً في تعداد إيجابياتها ودقتها، وهو ما ينطوي على اعتراف ضمني بأن هذا النظام هو الدستور الذي على أساسه تتحدد طبيعة الدولة. لكنه من ناحية ثانية، يرفض هذه الصفة الدستورية للنظام، انطلاقاً - كما يقول - من سيادتنا كدولة، وأن هذه السيادة تقتضي أن يكون لنا حرية «اختيار التعريف المناسب للمصطلحات التي تعبِّر عن هوية دولتنا وأمتنا...». ماهو هذا التعريف؟ يجيب بأنه «ليس من تمام السيادة أن نكون أسرى لفهم بشري لا يستند إلا إلى عرف قانوني لم يكن في يوم من الأيام ناتجاً عن ثقافتنا...»، أي أن القرآن هو دستور المملكة، لكنه - أي الكاتب - لا يدلف إلى تفصيل ذلك وتبريره. أراد أن يأخذ من النظام الأساسي ما يعتقد أنه يؤيد تصوره عن طبيعة الدولة، وترك ما لا يتفق مع هذا التصور. فاته هنا أمران: الأول أن السيادة لا علاقة لها بعملية التثاقف والتفاعل الحضاري بين الأمم، لأنها جزء من عملية التراكم الإنسانية، وأن الكثير من المفاهيم والمصطلحات تتحول، في هذا الإطار، إلى مفاهيم إنسانية قد يكون منشأها عربياً، أو صينياً، أو رومانياً لا فرق، فالغرب مثلاً أخذ مصطلح «الدستور»، وهو فارسي، وأخذ من العربية مصطلحات علمية أخرى، ولم تتأثر سيادته في شيء. والخليفة عمر بن الخطاب أخذ مصطلح «الدواوين» من الفرس ولم تتأثر حينها أيضاً سيادة الدولة الإسلامية في شيء. لماذا نحن من دون غيرنا سوف تتأثر سيادتنا عندما نأخذ بمصطلح الدستور؟ وفات الكاتب أيضاً تسبيب إصراره على أن القرآن هو الدستور الوحيد الصالح لهذه الدولة الإسلامية أو تلك. ولا أظن أنه كان في إمكانه ذلك، لأنه ليس في القرآن، ولا في السنّة، ولا في التجربة السياسية الإسلامية، وخاصة المبكرة باعتبارها التجربة التأسيسية، ما يدل على أن الكتاب، أو السنّة، أو كليهما معاً، يشكلان دستوراً ملزماً بهذه الصفة السياسية والقانونية، ولو كان هناك شيء من ذلك لما اختلفت الطريقة التي تولى بها أبو بكر الخلافة عن تلك التي تولى بها عمر، وتلك التي تولى بها عثمان، أو التي تولى بها علي، أو الخامسة التي تولى بها معاوية، والتي دشنت مرحلة مختلفة عن الخلافة الراشدة. بل إن الاختلاف البيّن لهذه الخلافة الأخيرة عن الخلافة الراشدة، لا يترك مجالاً للقول بأن القرآن كان دستور الدولة، لأنه لو كان كذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة: مَن مِن أولئك الصحابة خالف الدستور؟ وقبل ذلك، لم يستعن أحد من أطراف الخلاف الذي انفجر في السقيفة، بعد وفاة الرسول (ص)، بالقرآن لتأييد موقفه من الخلافة، ما يؤكد أن القرآن لم يكن يُنظر إليه حينها على أنه دستور الدولة.


بعد تفصيله لدلالة المادة الأولى للنظام الأساسي، يقول السعيدي «إنني لا أعرف بعد سبب إصرار الكاتب على وصف الدولة بأنها وطنية...»، ويضيف: «وأخشى ما أخشاه (أنه) يريد بهذا الوصف إنكار كون السعودية دولة دينية...». وأنا أحيله إلى المادة التاسعة من النظام الأساسي، التي تؤكد على «حب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد»، وعلى المادة 12، التي تعتبر الوحدة الوطنية واجباً. لكن على أي أساس استند السعيدي في وصف السعودية بأنها «دولة دينية»؟ ليس في النظام الأساسي ما يشير من قريب أو بعيد إلى هذه الصفة. ما يؤكده هذا النظام، وقبله تاريخ الدولة، هو أنها دولة عربية إسلامية، وليست دينية. الواضح أن الصفة الوطنية للدولة تتناقض، في رأي الكاتب، مع هويتها الإسلامية، وهو بهذا يحصر الهوية الإسلامية للدولة في بعدها الديني، مستبعداً الأبعاد الحضارية الأخرى، من اجتماعية وفكرية واقتصادية. كأن الكاتب لا يدرك خطورة هذا المنحى، وأنه يفضي إلى إقصاء بعض مكونات المجتمع، لأن الدين بطبيعته يتوزع إلى مذاهب وطوائف، لكل منها رأيه ومعتقداته، وهو ما يتناقض رأساً مع التعددية التي هي المكون الطبيعي للمجتمع الإنساني، والمجتمع السعودي ليس استثناء من ذلك.


الغريب أن حصر هوية الدولة في بُعدها الديني يجد جذوره الفكرية ليس في التاريخ الإسلامي، بل في تاريخ العصور الوسطى الأوروبية، فـ «الدولة الدينية» مصطلح مسيحي ينتمي إلى تاريخ علاقة الكنيسة بالدولة في تلك العصور، وهو يعني الدولة التي يحكمها ملك على أساس حق إلهي في الحكم. وقد ارتبط قيام هذه الدولة بالطبقة الكهنوتية التي سيطرت على الكنيسة، ومن خلالها على الدولة. هل كان في الإسلام مثل هذه الدولة؟ أبدا، بل لا وجود لمصطلح «الدولة الدينية» في المصادر الكلاسيكية الإسلامية، من كتب تاريخ، وفقه، وسياسة، وتفسير، وسير وتراجم... إلخ. والأهم من ذلك، أن القرآن والسنّة كليهما ترك مسألة الحكم شأناً دنيوياً يختار فيه المسلمون ما يتفق مع مصالحهم ولا يتعارض مع ثوابت الإسلام. والرسول توفي وهو لم يوصِ - تماشياً مع القرآن - لأحد بالحكم، ولا بصيغة معينة للحكم أو الخلافة. ومن الطبيعي أن المصطلح الشائع إسلامياً كان «الخلافة» أو «الإمامة»، وهذه يعرفها الماوردي بقوله: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا». أما ابن خلدون، فيعرّف الخلافة بأنها «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي». لاحِظْ أن الماوردي لم يصف الدولة بأنها دينية، وإنما وصف وظيفتها بـ «حراسة الدين وسياسة الدنيا»، ما يتضمن تمييزاً واضحاً بين الديني والدنيوي (السياسي)، وأن الدولة هنا هي الرابط العقدي بين الاثنين. وركز ابن خلدون أيضاً على «مقتضى النظر الشرعي»، وهو تعريف يتضمن أولاً الرأي (مقتضى النظر)، الذي يتعدد حسب المكان والزمان، وثانياً الشرعي، أي الفقهي قبل الأيديولوجي. بعبارة أخرى: لم يعطِ أيٌّ من هذين الفقيهين للدولة تعريفاً أيديولوجياً، كما في مصطلح «الدولة الدينية»، وإنما تعريفاً سياسياً قانونياً، وهو المعنى نفسه الذي تنطوي عليه كل مواد النظام الأساسي في السعودية، وعلى عكس ما يتمنى صاحب المداخلة.

* كاتب وأكاديمي سعودي

 


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Inside:
Why Algeria will not go Egypt's way
When revolutionary euphoria subsides: Lessons from Ukraine
A letter from the Cedar Revolution to the Nile Revolution
Mubarak, save Egypt and leave
Barack Obama sees Egypt, but remembers Indonesia
Just changing generals is not freedom
Egypt’s Youth are Responsible for Defending their Revolution from Those who Would Climb upon It
Can Lebanon kill its own tribunal?
Egypt's future in Egyptian hands
Social media are connecting Arab youths and politicians
The Mediterranean between sunny skies and clouds of pessimism
For the West, act of contrition time
Why Arabs have airbrushed Lebanon out
The Tunisian experience is likely to mean evolution in Morocco
Can Egypt's military become platform for political change?
Lost generations haunt Arab rulers
Democracy: not just for Americans
For better or worse, Arab history is on the move
The Middle East's freedom train has just left the station
Mubarak's only option is to go
Ben Ali's ouster was the start, and Mubarak will follow
Is this a Gdansk moment for the Arabs?
Tunisia may be a democratic beacon, but Islamists will profit
The Arabs' future is young and restless
Egypt's battle requires focus
Arab rulers' only option is reform
Exhilarating Arab revolts, but what comes afterward?
Hezbollah enters uncharted territory
Resisting change fans the flames
To participate or not to participate?
choice decisive for Lebanon
Lebanon typifies Arab political poverty
Between Tunisia’s Uprising and Lebanon’s Tribunal
Lebanon, Between Partnership and Unilateralism
What might Hezbollah face once the trial begins?
In Lebanon, echoes of the Iraq crisis
Is Hezbollah's eye mainly on Syria?
Egypt's Copt crisis is one of democracy
The thrill and consequences of Tunisia for the Arab region
Three Arab models are worth watching
Tunisia riots offer warning to Arab governments
Tunisia has a lesson to teach
Time for Lebanese to re-think stances
Amid stalemate, let negotiations begin!
North Africa at a tipping point
The Options Available When Faced with the Failure of Arab Governments
Latifa and Others
Troubling trends in this Arab new year
The past Lebanese decade
Beyond the STL
Yet another Arab president for life
An independent Egyptian Web site gives women a voice
Fight the roots of extremism
Fractures prevail as Arabs cap 2010
Truth about injustice will help reduce Muslim radicalization
Christian flight would spell the end for the Arab world
Defining success in the Lebanon tribunal
60% of the Lebanese and 40% of Shiites Support the Choice of Justice
Without remedy, Lebanon faces abyss
The Saudi succession will affect a broad circle of countries
The Arab world faces a silent feminist revolution
The canard of regime change in Syria
Egypt faces a legitimacy crisis following flawed elections
Lebanon: Reform starts with politicians
Human Rights: Three priorities for Lebanon
What's changed?
Monitoring in the dark
Myths about America
Lessons from the fringes
On campus, not all get to vote
'Your credit is due to expire'!
Blood for democracy
Lebanon can solve its own problems
The Janus-like nature of Arab elections
Social Structural Limitations for Democratization in the Arab World
Jordan’s Public Forums Initiative
Islamic Historic Roots of the Term
Copyright 2025 . All rights reserved