THU 8 - 5 - 2025
 
Date: Jan 16, 2011
 
من نزاعات الهوية إلى الاحتجاج الاجتماعي

الأحد, 16 يناير 2011

ياسين الحاج صالح


في وقت واحد تقريباً وقعت في أربعة بلدان عربية عمليات اجتماعية يرجح أن يكون لها ما بعدها. في مصر، ذهب نحو 23 مسيحياً مصرياً ضحية جريمة إرهابية مشينة ذات دوافع دينية سياسية. وفي السودان يوشك الجنوب أن ينفصل، ليصفو الجو لتطبيق «الشريعة الإسلامية»، على ما وعد (توعد؟) الرئيس السوداني من ظلوا في عُهدته من السودانيين. أما في تونس فانطلقت منذ أسابيع احتجاجات اجتماعية عمت عدة مدن. ومثل ذلك حصل في الجزائر، لكن على نطاق أضيق.


مشهدان متعاكسان بين بلدي وادي النيل والبلدين المغاربيين. في الأولين شكلٌ «هويتي» للصراع الاجتماعي، يهيمن فيه البعد الديني. وهذا بعد تفتيتي ونابذ، تمثلت محصلته المُجرّبة طوال أكثر من ثلاثة عقود في انقسامات وطنية خطيرة في معظم بلداننا، وفي تراجع ثقافي وأخلاقي محقق، فضلاً عن تمكين القمع الحكومي ومنحه شرعية تحكيمية ما كان يستطيع تحصيلها لنفسه. وبينما عرضت سياسة الإسلاميين على الدوام نزعة معاداة للمجتمع ذاته (وليس للدولة وحدها) تتناسب طرداً مع تعريفهم لأنفسهم بدلالة المعتقد الديني وحده، فالإسلاميون المتأخرون، وفي صيغة السلفية الجهادية بخاصة، يظهرون نزعة عدمية مدمرة، تتحمل مسؤولية واسعة عما حل من دمار بأفغانستان، ثم بالعراق. ويُراد تعميم هذا الفضل على مصر. وهو معمم منذ الآن على السودان الذي وفرت البلاغة الإسلامية الشكلية لرئيسه فرصة تحويل تخليه عن الأمانة الوطنية إلى وفاء بأمانة دينية أرفع مرتبة.


في تونس والجزائر المشهد مغاير. كان ظاهراً منذ البداية أن ما تستهدفه الانتفاضة التونسية هو الأوليغارشية الحاكمة، الجامعة بين سلطة مطلقة وبين ثراء فاحش. يتكثف المنطق الاجتماعي للاحتجاجات التونسية في شعار متواتر: «الشغل استحقاق». يطلب جمهور المحتجين فرص عمل لا تتيحها هياكل للسلطة والثروة التي تشغل مراكز النفوذ مواقع امتيازية مهيمنة فيها. والمضمون نفسه يُستخلص من الواقعة التي أطلقت المسلسل الاحتجاجي التونسي أصلاً، وهي انتحار شاب عاطل من العمل، محمد بوعزيزي، كان مُنع من بيع خضار وفواكه على عربة يدوية، وتعرض للصفع فوق ذلك من شرطة البلدية. يتقاطع في هذه الواقعة ذل حاجة مواطن متعلم مع الإذلال من قبل سلطات فظة وعديمة الحس. وهو المضمون نفسه الذي حملته أغنية «ريس البلاد، شعبك مات» لمغني راب شاب سجن إثرها لبعض الوقت.


والأمر نفسه كما يبدو في الجزائر. كان محرك الاحتجاجات هنا رفع أسعار سلع أساسية بينما تفتك البطالة بنحو ربع قوة العمل الجزائرية حسب تقديرات غير رسمية (الحكومة تقدر البطالة بـ10 في المئة). وفي البلدين نخبة حكم معمِّرة، ثرية، سياساتها مفتقرة إلى أي معنى ثقافي أو بعد قيميّ، ولا تظهر حساسية حيال مطالب السكان وتطلعاتهم. والجيل الناشط في الاحتجاجات اليوم، شباب متعلمون دون الخامسة والثلاثين، فاقد للأمل، يبدو أن معظم أفراده لا يجدون مخرجاً من أوضاعهم غير مواجهة مباشرة مع ما يسلبهم فرص العيش وما يقيدهم. أما الهجرة إلى أوروبا فمقيدة جداً اليوم. ولعله يغدو ظاهرا أن «الهجرة» إلى السماء تسبب مشكلات وطنية ولا تحل مشكلات اجتماعية.


وبفضل صفتها الاجتماعية العامة، تحوز الوقائع المغاربية طابعاً «تقدمياً» وديموقراطياً خلافاً للوقائع المصرية والسودانية. فحتى لو أخفقت الحركة الاحتجاجية، فقد نشطت حيوية المجتمعين ورفعت اعتبارهما الذاتي، ومنحتهما، التونسي بخاصة، ذاكرة احتجاج عامة وشهداء اجتماعيين. فإذا حققت بعض أهدافها الاجتماعية والسياسية كانت خطوة مهمة نحو تعديل موازين القوى الاجتماعية لمصلحة الفئات الأكثر هامشية وحرماناً، أي نحو الديموقراطية. ومنذ الآن هناك وعود من الحكومة التونسية بتوفير فرص العمل وإطلاق مشاريع تنموية في مناطق الاحتجاجات. وقد أردِفت بعد قليل بإقالة وزير الداخلية ووعدٍ بالإفراج عن جميع موقوفي الانتفاضة، وتعهدٍ بالتحقيق مع مسؤولين فاسدين.


لا يوثق بهذه الوعود، لكنها اعتراف موارب من قبل السلطات بشرعية الاحتجاجات ومحاولة لرشوتها وإجهاضها، بعد أن أخفق التهديد ووصم المحتجين بالإرهاب و «عصابات الملثمين». وأخيراً من المتوقع أن تكون للتحركات الاجتماعية انعكاسات على التفكير الاجتماعي والسياسي في البلدين وفي العالم العربي ككل. فلطالما ارتبط التطور الفكري بنوعية الحركات والمقاومات الاجتماعية وبمدى قوتها واستمرارها. وبالعكس، تعكس المناخات الثقافية القاتمة، المخيمة عربياً اليوم، خمود المقاومات الاجتماعية، أو انزلاقها في مسارات خصوصية، دينية وفئوية.


هذا هو حال الوقائع المصرية والسودانية. إنها ممزِّقة اجتماعياً ومدمرة معنوياً وثقافياً، ولا تنفتح على أي أفق عام أكثر تحرراً وإنسانية. وهي حركات خاصة، طائفية، هزيمتها محنة كبيرة، وانتصارها كارثة عامة. وفي مصر، ومع الاعتداءات الإجرامية على مسيحيين مصريين يغدو النظام حامياً معترفاً به للمسيحيين وضامناً للاستقرار العام. أما في السودان فإن آفاق الشمال تنفتح على طور أشد قسوة من حكم استبدادي ديني، أو على مزيد من تفكك البلد. وفي حين أن استقلال الجنوب يخلِّصه من الشكل الأكثر فظاظة من تحكم الشمال، إلا أنه بحد ذاته ليس حلاً لأية مشكلة تواجه دولة ناشئة.

هل تؤشر الاحتجاجات المغاربية على عهد جديد من الكفاح الديموقراطي الاجتماعي؟ لا نملك ما يبيح لنا إجابة مقنعة. لكن الطبيعة المفاجئة لتلك الوقائع تظهر أن في مجتمعاتنا كوامن قد تتفجر على حين غرة هنا أو هناك، مغيّرة الوقائع والتوقعات، ومحررة الإرادات والأذهان. وقد نرى يوماً إلى الاحتجاجات الاجتماعية هذه كتمارين أولية في الاعتراض العام على عهد الحكام الأغنياء الذين يحكمون بلدانهم من دون مراقبة ومن دون مسؤولية ومن دون مشروع عام من أي نوع، وبثروات فاحشة. المفاجأة هي شيمة الحدث التاريخي دوماً. فهو لا يكون متوقعاً إلا بعد أن يقع، ومن وجهة نظر المؤرخين. وقد يقال حينها إن التمردات الاجتماعية كانت مكتوبة أصلاً في ظاهرة الحكام، المغرورين جداً والأثرياء جداً، واللاإنسانيين جداً.


كشفت الاحتجاجات المغاربية فاعلية شبكة الانترنت في نقل أخبار الاحتجاجات وتوثيقها وتعميم خبراتها، وأنها تشكل عالماً موازياً خاض المحتجون والأوليغارشيات الحاكمة معاركهم فيه بالتوازي مع معارك العالم الواقعي. وأظهرت أيضاً ظهور بيئة افتراضية عربية متضامنة بقدر معقول. لكن ظهر كذلك أن هناك نظاماً عربياً رسمياً متضامناً وفعالاً. الحكومات مبتئسة مما يجري في تونس وجرى في الجزائر، وبادر الجار الليبي إلى إجراءات تطعيمية استباقية. وحين لا يصف الإعلام الحكومي الاحتجاجات بأنها أعمال شغب، فإنه يسكت عنها.

 


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Inside:
Why Algeria will not go Egypt's way
When revolutionary euphoria subsides: Lessons from Ukraine
A letter from the Cedar Revolution to the Nile Revolution
Mubarak, save Egypt and leave
Barack Obama sees Egypt, but remembers Indonesia
Just changing generals is not freedom
Egypt’s Youth are Responsible for Defending their Revolution from Those who Would Climb upon It
Can Lebanon kill its own tribunal?
Egypt's future in Egyptian hands
Social media are connecting Arab youths and politicians
The Mediterranean between sunny skies and clouds of pessimism
For the West, act of contrition time
Why Arabs have airbrushed Lebanon out
The Tunisian experience is likely to mean evolution in Morocco
Can Egypt's military become platform for political change?
Lost generations haunt Arab rulers
Democracy: not just for Americans
For better or worse, Arab history is on the move
The Middle East's freedom train has just left the station
Mubarak's only option is to go
Ben Ali's ouster was the start, and Mubarak will follow
Is this a Gdansk moment for the Arabs?
Tunisia may be a democratic beacon, but Islamists will profit
The Arabs' future is young and restless
Egypt's battle requires focus
Arab rulers' only option is reform
Exhilarating Arab revolts, but what comes afterward?
Hezbollah enters uncharted territory
Resisting change fans the flames
To participate or not to participate?
choice decisive for Lebanon
Lebanon typifies Arab political poverty
Between Tunisia’s Uprising and Lebanon’s Tribunal
Lebanon, Between Partnership and Unilateralism
What might Hezbollah face once the trial begins?
In Lebanon, echoes of the Iraq crisis
Is Hezbollah's eye mainly on Syria?
Egypt's Copt crisis is one of democracy
The thrill and consequences of Tunisia for the Arab region
Three Arab models are worth watching
Tunisia riots offer warning to Arab governments
Tunisia has a lesson to teach
Time for Lebanese to re-think stances
Amid stalemate, let negotiations begin!
North Africa at a tipping point
The Options Available When Faced with the Failure of Arab Governments
Latifa and Others
Troubling trends in this Arab new year
The past Lebanese decade
Beyond the STL
Yet another Arab president for life
An independent Egyptian Web site gives women a voice
Fight the roots of extremism
Fractures prevail as Arabs cap 2010
Truth about injustice will help reduce Muslim radicalization
Christian flight would spell the end for the Arab world
Defining success in the Lebanon tribunal
60% of the Lebanese and 40% of Shiites Support the Choice of Justice
Without remedy, Lebanon faces abyss
The Saudi succession will affect a broad circle of countries
The Arab world faces a silent feminist revolution
The canard of regime change in Syria
Egypt faces a legitimacy crisis following flawed elections
Lebanon: Reform starts with politicians
Human Rights: Three priorities for Lebanon
What's changed?
Monitoring in the dark
Myths about America
Lessons from the fringes
On campus, not all get to vote
'Your credit is due to expire'!
Blood for democracy
Lebanon can solve its own problems
The Janus-like nature of Arab elections
Social Structural Limitations for Democratization in the Arab World
Jordan’s Public Forums Initiative
Islamic Historic Roots of the Term
Copyright 2025 . All rights reserved