FRI 25 - 10 - 2024
 
Date: May 15, 2011
Source: جريدة المستقبل الللبنانية
 
الشعوب المنتفضة تسحب البساط من تحت أقدام التطرّف - شاكر الأنباري

الحركات المتطرفة في مأزق، هذا ما تشير إليه قراءة الخارطة في دول عربية كثيرة. فتلك الحركات تسير في خط معاكس للثورات الحاصلة، في عموم المنطقة. سلمية التظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات، نزعت من يد تلك الحركات المتطرفة أهم ورقة كانت تمتلكها الا وهي ورقة السلاح.
لم يعد السلاح أداة للتغيير، كما تتبنى ذلك التنظيمات المتطرفة، ومنها القاعدة، وهذا ما يعتبر تحولا كبيرا في الذهنية الشعبية في المنطقة. والحركات الشعبية الحاصلة في دولنا القريبة لا تقارن بالمجموعات المتطرفة الموجودة على الساحة، فلكل منهما توجهات مغايرة جذريا عن الأخرى، هذه المغايرة فرضتها تحولات اجتماعية كبرى، ومنها التكنولوجيا، وتأثير الثقافة العالمية القائلة بحقوق الانسان، والتعددية السياسية، والديمقراطية، وحرية الاعلام.


الحركات العنفية تنمو وتزدهر عادة في بيئات مغلقة، اجتماعية، ودينية خاصة، ليصبح لها فقهها وسلوكها وأزياؤها ونمط تعاملها مع المرأة وموقفها من الغرب وموقفها من التاريخ عامة. الصراع الذي يحكم الحياة من وجهة نظرها هو بين الاسلام والآخرين، أو العالم الاسلامي والغرب تحديدا. لذلك عادة ما تكون مواقف هذه الجماعات متطرفة في عدائها للحضارة الغربية بكل مظاهرها. حتى تواصلها الخارجي يتم مع جماعات مشابهة في بيئات أخرى، فهي لا تستطيع تقبل الرأي المغاير، ومن هذه الرؤية الصارمة للحياة، استطاعت القاعدة ربما ان تبني جسورا عالمية في بلدان مختلفة ومنها المجموعات الاسلامية المتطرفة في أوروبا. وبشكل عام لا تحتكم تلك الحركات والجماعات الى العقل والمنطق، بل تأخذ الأمور والأفكار على شكل مسلمات لا تدحض ويحرم مناقشتها، فهي عادة ما تلقى القبول في بيئات اجتماعية جاهلة، مغيبة، معادية للتعليم، وللنساء على وجه الخصوص. يندر ان تشارك النساء في نشاطات هؤلاء لأن المرأة مكانها البيت. هي بيئات ذكورية بامتياز، تمجد القوة والشجاعة والهجوم والمباغتة. وهي لا تحبذ النظام والقانون، لأنها لا تؤمن الا بقانونها الخاص، قانون الجماعة، ما يترتب عليه رؤيتها القائلة بخلخلة النظام في كل منطقة، واشعال بؤر عنفية، وضرب المؤسسات المدنية، اذ يسهل عليها تنفيذ اجنداتها في أماكن تضربها الفوضى ويغيب عنها القانون والمؤسسات والحياة المدنية.


وهذه المجموعات تحاول جاهدة ان تلغي الوضوح في شعاراتها وحركاتها وعلاقاتها، فهي تتحرك عادة تحت الأرض، وتستغل الظلام، وتهرب من الشمس، ولا تؤمن بالحركات الاجتماعية التي تخرج في وضح النهار، اللهم الا اذا كانت تخرج باستعراض مسلح يرهب الآخر، سواء كان فردا أو مجتمعا. هذا ما عاشه الجميع في دول مثل العراق وافغانستان واليمن والجزائر، أي في مجتمعات كانت مأزومة في فترة زمنية محددة. والتأزم رديف للفوضى والانغلاق، وكلما ابتعد مجتمع ما عن التأزم والانغلاق كلما ابتعد ايضا عن توفير بيئة ملائمة للمجاميع المتطرفة والارهابية.


كانت التجربة خلال العقد المنصرف قد أيدت هذه المقولة بامتياز. الحركات الاحتجاجية التي شهدناها في أكثر من بلد عربي سارت في مدار مغاير، وبدأ حجمها يتمدد على حساب البيئات المغلقة والمجاميع العنفية المتطرفة الخارجة منها. التظاهر هو بوح اجتماعي، يشارك فيه مختلف الشرائح، ومختلف المستويات التعليمية، ابتداء بالعامل البسيط وانتهاء بالمفكر والمثقف والأكاديمي، وهذا ما يعطيه بعده المنفتح والمؤثر، فيثريه بأفكار جاءت من مناشئ متباينة، ومن ينابيع فكرية وحياتية متعددة، ومن هنا بالذات غناه الاجتماعي والانساني. تباين الرؤى لدى المحتجين، او المطالبين بالحرية، يجعل من مكان التجمع مكانا للمواجهة مع النظام، وبذلك تكتسب المواجهة بعداً انسانياً لا يخضع للآيديولوجيا، بل تغلب عليه المشروعية على الصعيد الحقوقي والقانوني، ما يجعل من السلطة بكل مؤسساتها في موقع الدفاع. الشعب هو الضحية في كل الأحوال، طالما لم يرفع السلاح اداة للتغيير ولم يمارس العنف بأي شكل كان. وهي رؤية حديثة للمطالبة بالحقوق. معظم الاحتجاجات الجماهيرية طالبت في البدء بالاصلاح، ولكن مهمة مثل تلك لا يمكن لنظام مكّن مؤسساته، قمعيا، بالتماسك والسيطرة، ان يستجيب لهكذا مطلب، لا يبقى امامه سوى وسيلة استخدام العنف. وهذا ما سحب شعار الاصلاح يوما بعد آخر الى ضفة شعار اسقاط النظام، بالوسائل السلمية، بضغط كتلة بشرية غير مسلحة، لا تهيمن عليها اي آيديولوجيا محددة. الثورات الشعبية التي قامت في تونس ومصر وأسقطت النظام لم تكن مؤدلجة مما رفع رصيدها الشعبي عاليا، ومكنها من تحقيق غايتها. وكانت وسيلة تلك الجموع هي التكنولوجيا الحديثة، الفيس بوك، والتويتر، والانترنيت، والموبايل، والفضائيات التي لا تستأذن أحدا في الدخول الى البيت. عبر تلك الوسائل تم خلق وشائج متينة بين فئات، وطبقات، وأفكار منفتحة، اجتمعت على التغيير عبر المكان وتحت ضوء الشمس دون حياكة مؤامرات في غرف مظلمة. هذا ما منحها القوة في مواجهة العسكر والاعلام الممسوخ المحّرف للحقائق الذي يتغاضى عن نقل صور التظاهرات والاحتجاجات كما جرت في الواقع.
لم يعد الشباب بحاجة الى تعلم كيفية نصب لغم، او تفخيخ سيارة، او استخدام الآربي جي، او المدفع الهاون لتغيير واقعه، كما تعتمد ذلك معظم الحركات المتطرفة. اصبحت التكنولوجيا والحوار المرافق لها، الحوار المفتوح على قارات العالم كلها هو البديل، ولم يعد ثمة ما هو مقدس لا يمكن التطرق له او محاورته. وهذا ما نقل الذهنية الشعبية الى أفق مفتوح، هو أفق الحضارة العالمية ذاتها.


الحركات الشعبية تلك، بحواراتها، بتعدد مناهجها ورؤاها، بقدرتها على المواجهة المعنوية، ومعرفتها الواضحة لما تريده في تغيير واقعها، جعل منها كتلة تغيير ضخمة، الغت مقولة المتطرفين، والارهابيين، والمتعصبين، الذين اقتنعوا خلال العقود الماضية ان تغيير الأنظمة لا يتم الا بالعنف، والعنف المسلح وحده. عبر هذه الرسالة استطاعت الحركات الاحتجاجية ان تكسب تعاطف المؤسسات المدنية الدولية، وتعاطف الشعوب الأخرى، ومنظمات الأمم المتحدة، وحتى الأنظمة القوية التي تمتلك تأثيرا على القرارات الدولية. اي انها خلقت رأيا عاما عالميا مساندا لها ولمطالبها، لذلك صار قمع تلك الحركات، او سحقها بقوة الأجهزة الأمنية، لا يخص الدولة المعنية فقط، بل دول العالم أجمع، مما اضاف لها زخما آخر للديمومة والمطاولة، ووضعها عبر الاعلام الحر في بؤرة الاهتمام الشعبي والرسمي.
وكان أن انفتح بهذا باب جديد لتغيير الواقع لم يكن موجودا سابقا، وأثبتت الثورات الناجحة صحة سلوكه والعبور منه الى أفق حياتي آخر، والى صفحة في التاريخ جديدة بعد أن طويت صفحة الأنظمة المتكلسة التي اوقفت تاريخ تلك الدول عقودا وعقودا. اصبحت المظاهرات، والاعتصامات، والاحتجاجات السلمية، غير المؤدلجة، قابلة مأذونة لولادة التاريخ. وهذا ما لم تستطعه الحركات الارهابية التي سادت ذات يوم في المنطقة، واثبت منطق الحياة فشلها، لا لسبب الا لأنها، وببساطة، وقفت، وتقف، على التضاد مع نسغ الحياة الصاعد الى الشمس دون كلل.


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Copyright 2024 . All rights reserved