WED 20 - 8 - 2025
 
Date: Jan 3, 2011
 
حالة ارتباك بين الحداثة والليبرالية

الأحد, 02 يناير 2011
خالد الدخيل *


إذا كان السؤال عمّا إذا كان هناك ليبرالية في السعودية سؤالاً مشروعاً، فمن البداهة أن المعنى الواضح من ذلك أن هذه الليبرالية لا تزال ضعيفة. وهي كذلك بالفعل. ولا أعرف أن أحداً قال بغير هذا الرأي، بخاصة من بين الليبراليين أنفسهم. السؤال: ماهو سبب ضعف الليبرالية؟ وهو سؤال يضعك أمام إشكالية مهمة تستحق التأمل فيها، بخاصة أنها في سياقها الاجتماعي ليست إشكالية فريدة، بل تتداخل مع إشكاليات أخرى متعددة. فالتعليم ضعيف أيضاً، وكذلك التنمية. لم يتمكن المجتمع، بعد أربعين سنة من خطط التنمية، من خلق قوة عمل وطنية تنافس العامل الأجنبي. ولا يزال النفط يشكل أكثر من 80 في المئة من إجمالي الدخل القومي. ولم تتمكن الجامعات من التحول إلى مراكز متميزة ومستقلة للدراسة والبحث وإنتاج العلم، وتخريج طلاب متميزين في مختلف حقول المعرفة. والغريب، وهذه مفارقة، أن حتى الخطاب الديني، وهو المهيمن، هو الآخر ضعيف. والمؤشرات على ذلك كثيرة، منها عجزه عن تجاوز ثقافة الوعظ، إلى جانب أن هيمنته لم تشكل حاجزاً أمام تفشي الفساد، والثقافة الاستهلاكية، وانهيار أخلاقيات العمل، وانتشار المخدرات... إلخ.


كل ذلك واضح بالنسبة الى الجميع تقريباً، إلا عبدالله الغذامي، الذي اختار في «محاضرة» له في جامعة الملك سعود، أن يتحدث عن ضعف الليبرالية وكأنه اكتشف شيئاً جديداً. ولأنه لم يحسم موقفه من علاقة التقليد بالحداثة، لم يتمكن المحاضر من التعامل مع ضعف الليبرالية كإشكالية علمية حديثة، وإنما كشعار سياسي يمرر من خلاله الهجاء والتعميم. لم ينطلق في محاضرته من سؤال، بل من حكم مسبق. وتعامل مع موضوعه (الليبرالية) في معزل كامل عن سياقه الاجتماعي والسياسي. من هنا تميزت «محاضرته»، إلى جانب كثرة الأخطاء المنهجية فيها، كما سيتضح، بخطاب هجائي، لحمته حديث مرسل يفتقد أبسط تقاليد المنهج العلمي. في هذا الإطار جاء مأخذ المحاضر على شعار «لا حرية لأعداء الحرية» مجانياً، غير مدرك أنه رفع في لحظة ثورية ساخنة وحرجة، وأن الليبرالية بعد ذلك هي النظام الوحيد الذي يعترف لخصومه بحرية التعبير.


كانت فكرة المحاضرة، وأنا أسميها كذلك مجازاً، بسيطة، ولا تستحق بالطريقة التي عرضت بها أن تكون موضوعاً لمحاضرة عامة. تقول الفكرة إن مجموعة من الناس (ليبراليين) تنطحوا لقضية الإصلاح والتغيير، وهم في الواقع ليسوا مؤهلين لمثل هذه المهمة. وللتدليل على ذلك أورد ثلاثة مؤشرات: الأول أنه عندما ألغيت انتخابات النوادي الأدبية لم يعترض أي واحد ممن يعتبر نفسه ليبرالياً على ذلك. والحقيقة أنه يحسب للغذامي أن أعلن احتجاجه على هذا الإجراء. لكن، يبقى سؤال: لماذا ظل هذا مثالاً يتيماً في سيرة الغذامي؟ هل لذلك علاقة بحقيقة أنه بعد إلغاء الانتخابات مباشرة عين د. سعد البازعي، خصمه اللدود، رئيساً لنادي الرياض الأدبي؟ وهل وجد الغذامي عندها أنه لم يعد في وسعه إلا مقاطعة النادي؟ وأن إلغاء الانتخابات جاء ذريعة لفعل كان سيقدم عليه في كل الأحوال؟ أترك المسألة في شكل سؤال. والمؤشر الثاني أن ثلاثة من رؤساء الأندية الأدبية قالوا كلاماً يندى له الجبين في حق المرأة. من هم هؤلاء الثلاثة؟ وهل يعتبرون أنفسهم ليبراليين؟ ومع افتراض أن كلامه عنهم دقيق، هل يمكن أن يمثل موقفُ ثلاثة موقفَ غالبية الليبراليين؟ هذه أسئلة تكشف تهافت المؤشر، وانعدام صدقيته العلمية. فات الغذامي أنه قال في بداية «محاضرته» إن ممارسات الناس لا تصلح حكماً على المصطلح. والناس هنا مجرد ثلاثة: هل يعكس سلوكهم مؤشراً ذا صدقية على ما يفترض أنهم يمثلونه؟ لم يدرك المحاضر أنه كان يتصيد أوهى المؤشرات على ضعف الليبرالية السعودية.


ماذا عن موقف الغذامي نفسه من الإصلاح والتغيير؟ هو يجيب على ذلك بالنص قائلاً: «لم أرفع راية التغيير الاجتماعي والسياسي في البلد. وفعلاً أقولها بالفم المليان، أنا مفكر حر أنتقد وبس». وهذا اعتراف متأخر لتبرير أنه لم يكن يوماً معنياً بقضايا المجتمع. وإلا ما الذي يفعله الليبراليون أكثر من النقد، والمطالبة بإصلاح الأخطاء هنا وهناك؟ لكن، يدرك عبدالله أن نقده لا يتجاوز حدود النص الأدبي، في حين أن نقد الليبراليين يتركز على النص الاجتماعي والسياسي. ولذلك يريد من الليبراليين التوقف، والكف عن هذا النقد، مع بقائه هو في حدود النص الأدبي. لماذا يطالب بهذا؟ وكيف يتفق ذلك مع إصراره على أنه تحول إلى النقد الثقافي؟ ربما أننا بهذه الأسئلة، وما سبقها من ملاحظات، نحمل المحاضرة أكثر مما تحتمل. بساطة فكرة المحاضرة، جعلتها من دون إشكالية واضحة، ومن دون منهج محدد، ومن دون هدف علمي. كانت نوعاً من العبث الثقافي: رفض فيها المحاضر الليبرالية لأسباب واهية، ولم يقدم بديلاً لما يرفض. وصف الليبراليين بأنهم غير مؤهلين، بما يوحي الطلب منهم أن ينسحبوا من الشأن العام، كما انسحب هو من قبل. كان في إمكانه أن يكون أكثر جدية وإيجابية: أن ينتقد الليبرالية، ويكشف أسباب ضعفها، أو أن يقدم ما يرى أنه الأفضل. لكنه لم يفعل. توقف عند حدود الهجاء، لا غير. هل كان المحاضر يستخدم هجاء الليبرالية للتغطية على انسحابه من الشأن العام؟


وحتى لا يبدو أن في الأمر مبالغة هذا نص ما قاله في المحاضرة عن الليبرالية، وأنها «مصطلح على فئة لا مصطلح لها، ومسمى لمن لا مسمى له. فإذا الواحد ما يقدر يقول أنا حداثي، والحداثة صعبة، فيها أدونيس، وفيها غموض، وفيها نظريات، وفيها مقولات، فالانتماء إليها يحتاج شوية حاجات (كذا). والإسلامي، الإسلامي واضح في تصرفاته ومقولاته. إذا ما عندي لا ذي ولا ذي، أقول ليبرالي، خلاص ...». أول ملاحظة على هذا الكلام هو عاميته وبساطته المتناهية، وتحلل صاحبه من ضوابط المنهج العلمي. لاحظ أن لا علاقة لليبرالية، في هذا الاستشهاد، بالحداثة. الليبرالية، ليست أكثر من فكرة سهلة، وسقط متاع يتسمى بها من لا مسمى له. أما الحداثة، فهي من الصعوبة والتعقيد أن دونها خرط قتاد نظري ومنهجي لا يحتمله، ربما إلا صاحب الاستشهاد نفسه. كيف أجاز المحاضر لنفسه فصل الليبرالية عن الحداثة، وعلى أي أساس، وهي من أهم وأخطر إفرازات الحداثة، بل هي في القلب من الحداثة؟ وإذا لم تكن الليبرالية منهجاً حداثياً بامتياز فما عساها تكون؟ يقول الغذامي إنه اعتمد على برتراند راسل، لكنه لم يلاحظ أن الفيلسوف الإنكليزي وضع الليبرالية في قلب العصر الحديث، واعتبرها من أهم علامات هذا العصر. تحت ظل هذه الليبرالية ازدهر العلم، ونمت الديموقراطية، واعترف القانون بالإنسان وحقوقه باعتباره فرداً، وليس عضواً في جماعة، أو قبيلة، أو حزب، أو دين. ثم كيف يمكن الجمع بين قبول الأصل المنهجي، وهو الحداثة، ورفض النتيجة الفلسفية والسياسية المترتبة على ذلك الأصل؟ الملاحظة الثانية، أن اسم أدونيس يرد في هذا الاستشهاد كعلامة على التعقيد النظري، والمقولات الحداثية الشائكة، وفي شكل يتناقض تماماً مع ما قاله الغذامي في مكان آخر عن هذا الحداثي، من أنه رجعي ولا علاقة له بالحداثة على الإطلاق. أما الملاحظة الثالثة فهي وصف الإسلامي في هذا الاستشهاد بأنه «واضح في تصرفاته، ومقولاته». لا نعرف إن كان هذا الوضوح ينم عن صلابة وقوة، أم عن ضعف وهزال فكري. لكن هذا توصيف لافت، لأنه ترك السؤال التالي من دون إجابة: ما الذي منع الليبرالي من أن يختار الخطاب الديني إذاً، إذا كان يتصف بهذه الدرجة من الوضوح، وعلى عكس ما تتصف به الحداثة؟ الأرجح أن المحاضر لم يكن يفكر ملياً عندما خط هذا الكلام على الورق، بقدر ما كان يعبر عن مشاعر مختلطة، تأخذه يمنة ويسرة، وسمح لها أن تأخذه في هذا المسار المضطرب منهجياً. وربما أن «النسق» تلبس المحاضر، وصار يتحدث بالنيابة عنه.


وإذا كان رأيه في علاقة الليبرالية مع الحداثة كما رأينا، فما هو تعريفه للحداثة؟ يقول في محاضرته إن الحداثة هي «التطور الواعي»، وفي مكان آخر إنها «التجديد الواعي». لا يتضمن هذا التعريف شيئاً تتميز به الحداثة عن سواها، لأنه تعريف صالح لكل شيء، ولكل زمان ومكان. كان من الممكن أن يقول به توماس الأكويني من القرن 13 الميلادي، أو ابن تيمية من القرن 14 الميلادي، أو إيميلي دوركايم في القرن العشرين. الآن قارن هذا بما قاله برتراند راسل، الذي اعتمد عليه المحاضر، عن العصر الحديث، وأنه يتميز بتصور ذهني يختلف عن العصور الوسطى بخصائص كثيرة، تأتي في مقدمها اثنتان: الأولى تناقص سلطة الكنيسة، والثانية تصاعد سلطة العلم. وبهاتين الخاصيتين ترتبط، وفق راسل، خصائص أخرى، مثل أن ثقافة العصر الحديث هي ثقافة دنيوية وليست دينية، وأن الدولة تحل محل الكنيسة باعتبارها السلطة التي تسيطر على الثقافة. ومن ذلك يمكن الاستنتاج بأن الحداثة هي استبدال سلطة المؤسسة الدينية، وسلطة الفكر الديني، بسلطة العقل والعلم والمعرفة. يعرف الغذامي هذا، لكنه يتعمد تجاهله، واضعاً نفسه بين سلطة حداثة لفظية، وسلطة الخطاب الديني. في «محاضرته» الأخيرة ابتعد قليلاً عن الأولى، واقترب من الثانية. ولهذا بدا مرتبكاً، وأكثر ميلاً الى الانفعال والهجاء منه الى التحليل العلمي الرصين.

* كاتب سعودي

 


The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Inside:
Why Algeria will not go Egypt's way
When revolutionary euphoria subsides: Lessons from Ukraine
A letter from the Cedar Revolution to the Nile Revolution
Mubarak, save Egypt and leave
Barack Obama sees Egypt, but remembers Indonesia
Just changing generals is not freedom
Egypt’s Youth are Responsible for Defending their Revolution from Those who Would Climb upon It
Can Lebanon kill its own tribunal?
Egypt's future in Egyptian hands
Social media are connecting Arab youths and politicians
The Mediterranean between sunny skies and clouds of pessimism
For the West, act of contrition time
Why Arabs have airbrushed Lebanon out
The Tunisian experience is likely to mean evolution in Morocco
Can Egypt's military become platform for political change?
Lost generations haunt Arab rulers
Democracy: not just for Americans
For better or worse, Arab history is on the move
The Middle East's freedom train has just left the station
Mubarak's only option is to go
Ben Ali's ouster was the start, and Mubarak will follow
Is this a Gdansk moment for the Arabs?
Tunisia may be a democratic beacon, but Islamists will profit
The Arabs' future is young and restless
Egypt's battle requires focus
Arab rulers' only option is reform
Exhilarating Arab revolts, but what comes afterward?
Hezbollah enters uncharted territory
Resisting change fans the flames
To participate or not to participate?
choice decisive for Lebanon
Lebanon typifies Arab political poverty
Between Tunisia’s Uprising and Lebanon’s Tribunal
Lebanon, Between Partnership and Unilateralism
What might Hezbollah face once the trial begins?
In Lebanon, echoes of the Iraq crisis
Is Hezbollah's eye mainly on Syria?
Egypt's Copt crisis is one of democracy
The thrill and consequences of Tunisia for the Arab region
Three Arab models are worth watching
Tunisia riots offer warning to Arab governments
Tunisia has a lesson to teach
Time for Lebanese to re-think stances
Amid stalemate, let negotiations begin!
North Africa at a tipping point
The Options Available When Faced with the Failure of Arab Governments
Latifa and Others
Troubling trends in this Arab new year
The past Lebanese decade
Beyond the STL
Yet another Arab president for life
An independent Egyptian Web site gives women a voice
Fight the roots of extremism
Fractures prevail as Arabs cap 2010
Truth about injustice will help reduce Muslim radicalization
Christian flight would spell the end for the Arab world
Defining success in the Lebanon tribunal
60% of the Lebanese and 40% of Shiites Support the Choice of Justice
Without remedy, Lebanon faces abyss
The Saudi succession will affect a broad circle of countries
The Arab world faces a silent feminist revolution
The canard of regime change in Syria
Egypt faces a legitimacy crisis following flawed elections
Lebanon: Reform starts with politicians
Human Rights: Three priorities for Lebanon
What's changed?
Monitoring in the dark
Myths about America
Lessons from the fringes
On campus, not all get to vote
'Your credit is due to expire'!
Blood for democracy
Lebanon can solve its own problems
The Janus-like nature of Arab elections
Social Structural Limitations for Democratization in the Arab World
Jordan’s Public Forums Initiative
Islamic Historic Roots of the Term
Copyright 2025 . All rights reserved