TUE 26 - 11 - 2024
 
Date: Nov 23, 2020
Source: جريدة الشرق الأوسط
في ما خص الغرب والاستعمار والحروب الأهلية - حازم صاغية
حازم صاغية
ما كادت المدافع تسكت بين الأرمن والأذريين، حتى اندلعت حرب جديدة في إثيوبيا بين السلطة المركزية و«جبهة التحرير الشعبي في تيغراي»، وبدا أن مسألة الصحراء الغربية مهددة بالاشتعال مجدداً، انطلاقاً من معبر الكركرات، فيما كان العالم
يواجه، مرة أخرى، مصاعب التغلب على النزاع الليبي. في هذه الغضون، زار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، شمال قبرص، فتوسعت رقعة المخاوف: فحلول إردوغان في مكان ما إنذار بالأسوأ، تبعاً لنزوعه الإمبراطوري المتضخم، وبدورها فتلك الجزيرة المتوسطية الصغرى أعطت العالم، منذ حربها عام 1974، اسم «القبرصة».

هذه الحالات وغيرها كثيرة اليوم، يجمع بينها، على اختلاف في التفاصيل، عدد من المواصفات:

أولاً، حدة مسألة الهوية، دينية كانت أم طائفية أم إثنية، وتَغذّى أكثرها على تفاوت في توزيع الثروة مصحوب غالباً بالفساد.

ثانياً، المداخلات الدولية، إنْ مباشرة أو مداورة، إما دفاعاً عن مصالح قائمة أو سعياً وراء مصالح ممكنة.

ثالثاً، الصدام بين نزعة مركزية دمجية ونزعة انفصالية محتقنة. النزعتان تنهلان من تاريخ عريق تشوبه المشاعر والتنميطات العدائية المتراكمة.

رابعاً، أن العالم، بعد الحرب الباردة، أقل حرصاً على صون الخرائط والحدود المرسومة. حروبه الأهلية لم يزد عددها فحسب، بل صارت أيضاً أقل انضباطاً بأهداف سياسية واعتبارات جيو سياسية مُلزمة، وبالتالي أصعب على الحل وأكثر قتلاً للمدنيين.
الأسباب أعلاه قابلة لأن تُجمع تحت عنوان أكبر: ضعف مسألة الدولة والتشكل الوطني في هذه البلدان.

والحال أن نوازع الانقسام والاحتراب ليست حكراً على تلك البلدان ومثيلاتها. إننا نراها، مثلاً لا حصراً، في بلدان كثيرة، بعضها أوروبي كإيطاليا وإسبانيا وآيرلندا. الفارق أن البلدان التي حصلت على درجة بعيدة نسبياً من الاستقرار تعرضت لعوامل أخرى وازنت بها عوامل التفتيت. فلنسترجع بعض التجارب «الكلاسيكية» المعروفة:

إيطاليا مثلاً عرف نصفها الشمالي ثورة صناعية جبارة بعد الوحدة، خصوصاً بين 1897 و1913: سيارات في تورينو، معامل صلب في إلبا وجنوا... ثم بعد الحرب العالمية الثانية انطلقت الهجرة الداخلية الضخمة من الجنوب شمالاً: أكثر من مليونين استقر معظمهم في المناطق الصناعية. كذلك، نشط على صعيد وطني حزبان عابران للمناطق، هما المسيحي الديمقراطي والشيوعي، وإن تركزت قوة الأول في الجنوب، والثاني في الشمال. اختيار الديمقراطية البرلمانية منذ 1945 امتص بعض النزاعات ونقلها إلى المؤسسات. دور النخبة الثقافية والفكرية كان حاسماً في توكيده على الوحدة الإيطالية.

الهند تنطق بعشرين لساناً، فضلاً عن مئات اللغات الصغرى، وهي تنقسم إلى ألفي جماعة إثنية غالباً ما تتقاطع واحدتها مع موقع طبقي ما، فضلاً عن أن سكانها يدينون بسائر الأديان، وإن كان التنازع الهندوسي - الإسلامي عنوانها الديني الأبرز. لكن الهند هي أيضاً البيروقراطية الكفوءة التي أسسها الحكم البريطاني، والمعروفة بـ«الخدمة الإدارية الهندية»، ومعها شبكة سكك الحديد التي تُعد اليوم الرابعة حجماً في العالم. الهند أيضاً هي النظام الديمقراطي البرلماني والعمل الحزبي على نطاق وطني. «حزب المؤتمر»،ش على رغم تراجعه الهائل في السنوات الأخيرة، أسس، منذ نشأته في 1885، وطنية صلبة.

اليابان ليست بلداً مرشحاً للانقسام، لكنها معروفة برابطتها القرابية، وبالآثار السلبية التي تتركها على الحياة السياسية، وعلى الحياة الاقتصادية من خلال الشركات الضخمة المملوكة عائلياً (زايباتسو). في المقابل: اليابان هي حيث بلغ الاحتلال الأميركي أبعد درجاته التدخلية في حياة السكان، ومن ضمن ذلك وضع دستور ماك أرثر. اليابان أيضاً ديمقراطية برلمانية وحزب عمل على مدى وطني، هو «الليبرالي الديمقراطي». وهي أيضاً، مثلها مثل الهند، انفتاح بلا تحفظ على التقنية ونمو لجماعات «بيزنس» ناشطة وكبيرة.

الأمر ليس سحراً بالتأكيد، وبعض هذه البلدان قد تجرفها النزاعات أيضاً. لكنْ يبقى أن التجارب المذكورة وسواها تمنح مناعات مضادة لنزعات التفكك واحتمالات لتصويب الخلل. هذه المناعات هي بالضبط نتاج التأثر بالثمار التي طرحتها واحدة أو أخرى من الثورات التي عاشها الغرب ولم نعشها (الثورة الصناعية، الثورة السياسية، التنوير، الإصلاح الديني إلخ...). تلك الثورات سمّاها المؤرخ المغربي عبد الله العروي «ثورات مُفوتَة» لدينا. ما زاد في تفويتها أن النزاع السياسي مع الغرب فاض وأصبح نزاعاً ثقافياً أيضاً. هذا كله قبل الانتكاسة الشعبوية في الغرب نفسه، المرفقة بالانكفاء على الذات وبالارتداد على التنوير وعلى وحدة الدولة والمجتمع.

هكذا بات مطلوباً تقليل الحضور الغربي في حياة هذه المجتمعات، لأن الغرب لم يعد يعني إلا الاستعمار (الذي رحل قبل عقود). في حالة بلد كإثيوبيا قد يغدو المسرح الدموي المقبل، لم يعرف ذاك البلد الاستعمار أصلاً.

The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Related News
UN calls on Arab world for more solidarity against pandemic
Virus impact could kill over 50,000 children in MENA: UN agencies
Virus cases surpass 200,000 in Gulf states
Mideast economies take massive hit with oil price crash
Trump says US will destroy any Iranian gunboats harassing U.S. ships
Related Articles
Democracy in the digital era
From hope to agony, what's left of the Arab Spring?
Reopening the peace factory
Tackling the inequality pandemic: a new social contract
Global wake-up call
Copyright 2024 . All rights reserved