WED 27 - 11 - 2024
 
Date: May 30, 2019
Source: جريدة الشرق الأوسط
العراق الأورويلي ونتائجه - حازم الشهابي
أبرز ما يميز مرحلة ما بعد انهيار حزب البعث، وسقوط أعتى رموز الدكتاتورية في العالم اجمع؛ كانت ظاهرة انتشار السلاح وازدياد الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة.

ظاهرة بدأت تنمو بشكل مضطرد منقسمة على نفسها، ومنشقة من بعضها كالأميبا في تكاثرها، لتكون واحدة من أصعب التحديات وأشدها في بناء دولة عصرية يسودها النظام والقانون.

من جملة الأسباب التي أدت إلى إنتشار هذه الظاهرة، يعود لبعض من المقدمات التي تتعلق بالجانب السيكولوجي، من ناحية الاستعداد النفسي والايدولوجي وما يتبعه من متبنيات فكرية منغلقة متقوقعة على ذاتها، لتكون بذلك أرضا خصبة لتنامي هذه الظاهرة وغيرها من الحالات الاخرى بشكل متسارعٍ في محيط المجتمع.

هذه الحالة انعكست بالتالي على سلوكيات بعض الذوات، ممن يمتلكون في الأصل قابلية التوافق النفسي وهذه الظاهرة والانسجام معها، بشكل يوازي معتقداتهم الفكرية،التي إمتازت بالتفرد والإقصاء وفرض الذات وكسر الإرادة، من خلال الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، فالطبع عادة يغلب التطبع..

حداثة العملية السياسية في العراق، وما رافقها من مطبات وإخفاقات في بناء دولة عصرية، مهدت بشكل أو بأخر لإتساع رقعة التمرد على القوانين والأنظمة، بسبب التلازم الاعتباري المترسخ في ذهنية المواطن العراقي والشرقي بشكل عام بين الأنظمة والقوانين من جهة والسلطة الحاكمة من جهة أخرى نتيجة لتراكمات أزمنة الاضطهاد والحرمان لعقود من الزمن.

كلنا يذكر أن سياسات النظام البائد - حزب البعث - الذي حكم العراق لأكثر من ثلاثين عاما مضت،بنيت على أساس إقصاء وتهميش الأغلبية وإبراز القلة على أنهم الطبقة العليا في المجتمع العراقي،ومنحهم كافة الامتيازات والصلاحيات التي تؤهلهم ليكونوا أصحاب السيادة والمعالي، وتسخير كافة مفاصل الدولة لتكون تابعة ومؤتمرة بأمرهم.

فضلا عن الماكينة الإعلامية التي طالما كانت تسعى جاهدة لدس السم في العسل، والتأثر في إستراتيجيات العقل الجمعي وقيادته وتوجيه دفته كيفما تشاء، حتى بات الأمر أشبه ما يكون بالمسلمات!

من هنا نستطيع ان ندرك إن التركيبة السيكولوجية للمجتمع، هي نتاج لجملة من تراكمات بنيوية متجذرة بأعماق الطبقة "المجهّلة" من المجتمع، التي طالما عمدت الأنظمة الفاسدة لتجهيلها وتجاهلها وإخماد جذوة الفكر والثقافة لديها.. وهي سياسة إتبعها معظم الطغاة والفاسدين من الحكام والسلاطين،حيث يسهل السيطرة عليها وأدلجتها وحصر أفكارها بمسارات فكرية ضيقة محددة، وقد أشار لذلك المفكر الجزائري مالك ابن نبي عندما قال (الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس افكاراً فحسب بل ينصب أصناما)

وكتب التاريخ حبلى بروايات وقصص وحكايات، تروي لنا طبيعة سلوك الطغاة في حربهم للفكر والثقافة في المجتمعات، واستخدامهم الإعلام كوسيلة لتمرير إراداتهم وترويض مجتمعاتهم بما ينسجم ومزاج السلطان وطبيعة نظامه، وما على الشعوب المسكينة بأفقها الضيق المحاصر إلا الإنصياع والتسليم والتأثر والتأثير بشكل غير مباشر، مما أدى بطبيعة الحال إلى خلق طبقة مجتمعية تحيطها الشبهات والعقد والصراعات النفسية وشعورا "بالدونية" ليأخذ الأمر منحاً أعمق بكثير من كونه حالة آنية، ليكون جلد الذات والانتقاص منها وتصغيرها صفة سادت بين بعض فئات المجتمع. بل وحتى "اللهجة" هي الأخرى لم تسلم من سهام تركة البعث البائد الثقيلة التي وما لها من تأثير في صلب المجتمع، حتى بات البعض يتحاشى الحديث مع الآخرين بلهجته الجنوبية بأريحية (على سبيل المثال) خوفا من إن يقع تحت طائلة الاستهزاء والاستصغار، بغض النظر مدى واقعية هذه المخاوف، لأن عقله الباطن واللاشعور لديه وما حمله من تراكمات غابرة يحول دون تجاوزه هذه العقدة، مستخدما التصنع تارة والتحاشي تارة أخرى..

ما نراه اليوم من مشاكل مجتمعية ما هو إلا نتيجة لمقدمات فاسدة عمد النظام البائد لإيداعها في عقر المجتمع العراقي لتصبح، جزءا من مقومات تركيبته السيكولوجية من حيث لا يشعر، مما يتطلب المزيد التدقيق والبحث والتمحيص لوضع المعالجات اللازمة للحد من هذه الظواهر السلبية في المجتمع العراقي، فظاهرة الفساد الإداري وتفاقمه في مؤسسات الدولة لم تكن وليدة اللحظة أو أنها حالة مرحلية جاءت نتيجة لإرهاصات العملية السياسية، وما رافقها من متغيرات، إنما هو غرسة من غراس نظام البعث البائد منذ تسعينات القرن المنصرم، وجميع من عاصر تلك المرحلة وعاش أيامها الحالكة، يدرك جيدا حجم الفساد وانتشار ظاهرة الرشى في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية منها..

النتيجة.. يصوّرها جورج اوريل في روايته ( مزرعة الحيوان) والتي كانت صرخة ساخرة بفهم عميق للواقع، ونقد لاذع لنظام سياسي جائر يعلو شأن فئة قليلة على حساب مجتمع بأكمله، كما انتقد نفوساً بشرية فعلت ما كانت تستنكره في أبناء جلدتها،وان بعض الضعفاء المقهورين يظلمون ضعفاء آخرين..!

كاتب

The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Related News
'Not a good idea:' Experts concerned about pope trip to Iraq
In sign of frustration, US shortens sanctions waiver to Iraq
US plans further troop reductions in Iraq by November
Trump to meet Iraqi PM as ties rebound
US general sees Iraq troop drawdown as Daesh threat dims
Related Articles
The Iraqi people cry out for unity
The stalled effort to expel United States troops from Iraq
Could Turkey Moderate Iran's Influence Over Iraq?
Iraqi Kurdistan’s saga of executive offices in transition
A fractured Iraqi Cabinet: Abdel-Mahdi facing uphill battle
Copyright 2024 . All rights reserved