TUE 26 - 11 - 2024
 
Date: Feb 10, 2019
Source: جريدة النهار اللبنانية
جورج زريق الذي أحرق نفسه لن يكون بوعزيزي لبنانيّاً - منى فياض
اندلعت الثورات العربية انطلاقاً من جسد قام بحركة مفاجئة. جسد الشاب التونسي بوعزيزي كان مسرحها وموضعها. أضرم النار في نفسه، في جسده. تحوّل هذا الجسد إلى تجسيد للرفض المطلق ورمزاً له. اشتعلت النيران ملتهمة الجسد والخوف معاً، مفسحة المجال لانبثاق طاقة تجاوزت في تفجّرها الرهبة والرعب القدريَّين. وجدت الثورة لها جسداً، وصار لها موضعٌ انحفرت فيه هويتها ومآلها. صار لها جسد مقتحم ومشارك بقوة لن تقهر بعد الآن.

في ثقافتنا نعرف طائر الفينيق الذي نتشبّه به عند كل حرب جديدة نشعلها بيننا، ونقول إن لبنان ينبعث من تحت الرماد مثل فينيقنا!! والفينيق طائر أسطوري يتميّز بقدرته على الولادة المتجددة بعد أن يحرق نفسه بحرارته الذاتية. وهو يرمز بهذا إلى حلقتَيْ الموت والانبعاث. وهو إذ يعيش طويلاً لكنه غير قادر على التناسل؛ لذا عندما يشعر أن نهايته قد حلّت، يهيّئ عشّاً من أغصان معطّرة ومن بخور، ويترك نفسه للاحتراق الذاتي... ومن رماد هذا الاشتعال، ينبعث فينيق جديد يتوصّل إلى ضبط النار أكثر فأكثر عند كل اشتعال.

لا يحصل إضرام الجسد للقضاء عليه، بل لكي يتمكّن من الانبعاث مرة أخرى، لكي يتجدّد.

من هنا وجه القرابة بين فعل بوعزيزي وبين الأسطورة: وصلت الأوضاع في تونس وفي العالم العربي إلى طريق مسدود، إلى "زنقة" مقفلة؛ فجاء اشتعال النار في جسد بوعزيزي مؤشراً وإيذاناً بانبعاث أزمنة أخرى لأجساد جديدة.

لكن هذا كان في تونس.

أما في لبنان فأمر آخر. كتب الصحافي صبحي ياغي:

"وقف صديقي وسط القاعة معلناً استنكاره لقيام جورج زريق بإحراق نفسه في الكورة لعدم تمكّنه من دفع الأقساط المدرسية لأولاده... كل من في القاعة سمع الخبر، وأكمل حديثه بشكل عادي جداً. البوعزيزي في تونس الذي أشعل نفسه، أشعل ثورة بأمّها وأبيها، ولكن في جمهورية الطوائف وعبدة الأصنام والتماثيل والشياطين، الأمر بسيط جداً. معقول مثل هذا الخبر لا يهزّ الدولة؟! لا يهزّ ضمائر الرؤساء؟! من أي طينة أنتم يا أشباه الرجال ولا رجال؟".

البوعزيزي أحرق نفسه بعد أن أهانته الشرطية وصفعته على وجهه. جورج زريق أحرق نفسه بعد أن رفضت المدرسة إعطاءه إفادة مدرسية لابنته.

في الحالة الأولى الغضب للكرامة والوضع الاقتصادي.

في الحالة الثانية الغضب من الإهانة المزدوجة ومن الحاجة الاقتصادية. من الإحساس بالعجز عن تعليم الابنة في البلد الذي انبثقت منه الأبجدية التي غيّرت وجه العالم؛ والشعور بالإهانة لرفض المدرسة إعطاءه حتى الإفادة التي تبرهن عن هذا العجز.

فلو خيّر جورج زريق لفضّل إبقاء طفلته في مدرستها الخاصة، ولما اضطر إلى نقلها خلال العام المدرسي الى المدرسة الحكومية التي فقدت مستواها الرفيع الذي تمتّعت به قبل انهيار المؤسسات الحكومية على مختلف أنواعها.

لبنان لم يعد لمواطنيه، بل تملّكته طبقة سياسية مع ملحقاتها، وتتعامل مع سكانه كالرقيق. نقل صديق فايسبوكي (نبيل كنعان)، ما يلي:

" لمّا قريت يللي كتبو أحد الزملاء الأطباء الْيَوْم عن يللي صار أمام مستشفى كليمنصو، فار دمّي ..!!

شقيقة وزير صار سابق من شي يومين، بتؤمر الشوفير إنّو يصفّ سيارتها على مدخل المستشفى لأنها بدها تطلع تشوف حدن وترجع دغري عالسيارة. ما هي مش مجبورة تنطر السيارة لترجع، ومنّها مضطرة تدفع ڤاليه پاركينغ. وأخونا الشوفير مرعوب من المدام لأنو خيّها بعبع راعب البشرية ومحطّم الأرقام القياسية بعدد سيارات المواكب تبعو. 

المدام طبعاً طلعت من السيارة مشنفخة رأسها لفوق ومناخيرها كمان كأنها شامّة ريحة مكبّ برج حمّود، ومفتكرة حالها ماري كوري أو ڤالنتينا تريشكوڤا.. ولو، مش خيّها الوزير الفلاني بطل الأبطال وريّس الأدغال ومحطّم قلوب العذارى !؟

وبعد شوي بيطلّ طبيب عمبيشتغل مستشار آخر هالايام، وكمان بيقرّر يسكّر مدخل المستشفى لأنو هيك.. حرّ هوّي. ما بدو يتعذّب. شو إنت حريجو!؟ بدو يصفّ محل ما بدو وما حدا خصّو. ما هوّي مستشار لزعيم وهيدا بيخولو يعمل شو ما بدو. وإنتو يا حشرات شوفو كيف بدكن تدبرو حالكن. نشالله مفتكرين حضرتو مجبور فيكن!؟ هيدا الزلمي حامل همّكن وأنتو مجبورين تغنّجوه وتدلّعوه وتحلمسولو لأنو بيحكي عنكم".

أحاول، كل يوم، أن أفهم هذا التبلّد في الأحاسيس عند اللبناني، والاكتفاء بـ"الثورات الفايسبوكية – الافتراضية!".

لا أجد إجابة واحدة مقنعة، لذا أتلمّسها حتى وأنا أحضر فيلماً بعيداً عن كل ما نعيشه. ولقد شاهدت مرة بضعة مشاهد من فيلم بالصدفة... فتى يافع يقول لجدّته: لم أنم أمس. كنت أفكر لو أننا اجتمعنا هنا من أجل جنازة بدلاً من عرس، لربما شعرنا بالارتباط أكثر، الموت هو الذي يوحّد وليس الحب.

تردّ الجدة: هذا مثير للاشمئزاز!! أنت لم تتربَّ كما يجب.

يقول: لماذا؟ عندما حصلت أحداث أيلول 2001، وكنت صغيراً جداً، كانت المرة الوحيدة التي شعرت فيها بالارتباط بأفراد عائلتي بعمق. ربما نحتاج إلى تراجيديا كي نتوحّد!!".

عندما استمعتْ إليه فهمت ما يشعر به من رتابة عيشه. يحتاج إلى مشاعر قوية تهزّه كي يشعر بوجوده، وكي يشعر بارتباطه بالآخرين. لكن هذا اليافع يجهل، بالمقابل، أن التراجيديا يكون لها هذا التأثير القوي لأنها نادرة الحدوث، وأن من يعيش سلسلة من الأحداث التراجيدية يتعب، وتفرغ مشاعره، ويخفت تضامنه، ويشعر بالخوف والوحدة. ألسنا في تراجيديا متقلبة لا تتوقف منذ عام 2005، ووصل بنا الحال إلى ما نحن عليه من التفكك التّام وانحلال اللحمة، وانحدار القيم إلى مستوى غير مسبوق!؟ تحلّل يشمل الأسرة والأصدقاء والجيران..الخ. بسبب الخلافات وانعكاس الصراعات السائدة. هناك فكرة موهومة عند البعض حول "عصبيّتهم المذهبيّة التي توحّدهم" وتجعلهم أقوى. الجميع ضعفاء وخائفون ولا يفكرون إلا من أحشائهم وغرائزهم. يوحّدهم الخوف والجبن.

فبئسَ الزمن الذي يطلب من جورج الموت حرقاً لتأمين تعليم أولاده. 

التراجيديا عندما تصبح خبزنا اليومي تحيلنا إلى أشباه بشر.

The views and opinions of authors expressed herein do not necessarily state or reflect those of the Arab Network for the Study of Democracy
 
Readers Comments (0)
Add your comment

Enter the security code below*

 Can't read this? Try Another.
 
Related News
Long-term recovery for Beirut hampered by lack of govt involvement
Lebanon to hold parliamentary by-elections by end of March
ISG urges Lebanese leaders to form govt, implement reforms
Lebanon: Sectarian tensions rise over forensic audit, election law proposals
Lebanon: Adib faces Christian representation problem in Cabinet bid
Related Articles
The smart mini-revolution to reopen Lebanon’s schools
Breaking the cycle: Proposing a new 'model'
The boat of death and the ‘Hunger Games’
Toward women-centered response to Beirut blast
Lebanon access to clean drinking water: A missing agenda
Copyright 2024 . All rights reserved