Date: May 1, 2011
Source: جريدة المستقبل الللبنانية
الطُغاة يُبيدون شعوبَهم! - بول شاوول

كنّا نعرف كم أن طغاة الأنظمة العربية التي أدركت السلطة بالانقلابات الحزبية أو الفئوية المسلحة بعد الاستقلال (وتحديداً بعد قيام الكيان الصهيوني: يا للمصادفة!) تحتقر شعوبها، وتستذلّها، وتستقزمها وتعدم حقوقها الإنسانية الدنيا. كنّا نعرف أن هذه الأنظمة التي سطت على السلطة "كنُخب" عسكرية وحزبية وبالقوة، وبالقتل، وبالانقلاب على الانقلاب، ومن ثم بتصفية "حلفائها" الانقلابية، أو سجنهم، إنها وصلت الى الكراسي ولن تذهب أو تغادر إلاّ بالثورات، ولن تغادر إلاّ باستخدام السلاح الذي استخدمته في انقلاباتها. وكنّا نعرف أن هذه الأنظمة ستصادر "الجماهير"، وتختزلها، تنتزع منها بالقمع والترهيب والمجازر والاغتيالات كل محاولة لمواجهتها أو نقدها أو الاحتجاج أو المطالبة أو ممارسة حق التعبير، والانتماء... والتفكير!
كنّا نعرف ذلك، كشهود عيان، ومتابعين، ومعايشين، على امتداد العالم العربي، من مغاربه الى مشارقه. لكن لم نكن نتصور أن يكره هؤلاء الطغاة (ورثة الستالينية والنازية والفاشية) شعوبهم الى هذا الحد، ويحتقرون شعوبهم الى هذا الحد، ويسترخصون دماء شعوبهم الى هذا الحد، ويُنكرون حتى "وجود" شعوبهم كناس وكأفراد وكمجموعات الى هذا الحد!


صحيح أننا كنّا نتوقع أن يلجأ هؤلاء الى كل الأساليب الدموية إذا ما تهددت سلطتهم، وتهدّد تسلطهم وإلى كل "الاختبارات" العسكرية والبوليسية (وذا ما شهدنا منه فصولاً على امتداد العقود الخمسة الماضية هنا وهناك) لكن لم نكن نتصور أن "السلطة" حوّلت هؤلاء "الحكام" وحوشاً الى هذه الدرجة ومسوخاً، وآلات "جهنمية" للقتل والتعذيب، وحتى للإبادة! (هناك أحداث أبادت فيها بعض الأنظمة العربية قسماً من شعبها إبادة جماعية تليق بالعدو الصهيوني ومجازره وبالخمير الحمر وهولاكو..) لكن كنّا، وفي ظروف مختلفة، نُمنّن النفس بالتبريرات، حتى التواطؤ، وأقصد الأحزاب والمجموعات البشرية والإعلام، ويمكن القول أن ما يجري في بعض الأقطار العربية التي تنتفض شعوبها على طغاتها، سعياً الى جمهوريات ديموقراطية، فاق كل تصور: فمعمر القذافي يعامل شعبه الثائر كعدو. وقد استخدمت هذه "العبارة" على لسانه وفي الإعلام الرسمي. "الثوار أعداء متآمرون على الوطن. ويستحقون الموت. والقصف. والتدمير والحصار. والعقاب الجماعي. والمجازر. والتجويع.. والترويع! تماماً كما يفعل أي عدو بعدو. بمعنى آخر، تنتزع هذه الأنظمة كل "هوية" مواطنية أو وطنية أو سياسية أو إنسانية عن شعوبها، لتعاملهم بمنطق التطهير السياسي: نقتلكم حيثما وُجدتم، نطاردكم كالجرذان، والكلاب، والخونة، زنقة زنقة، داراً داراً، محافظة محافظة، منطقة منطقة... ونحصدكم حصداً، ونُمثّل في جثثكم تمثيلاً تمثيلاً، ونمنع عن جرحاكم المعالجة، ونسرق الجثث، ونخطف المصابين.. لا شيء. أنتم أيها الشعب والناس لا شيء، من دوننا! سنحوّلكم مجرد موجودات وأهدافاً لقنّاصتنا، و"لأبطالنا" ولجيوشنا "المظفرة" ومخابراتنا التي حققت انتصارات مذهلة على العدو الصهيوني، في كل مكان، ولولا المؤامرات لحررت تل أبيب نفسها واستعادت كل فلسطين حتى من دون إطلاق رصاصة واحدة عليها بإذنه تعالى.. فرصاصنا ضد إسرائيل معنوي (وديبلوماسي) وسلمي، ورصاصنا عليكم "بالمليان" (بالتعبير المصري)، وبالقنابل العنقودية، والطائرات والمدافع، والدبابات، والرشاشات؛ هناك على إسرائيل الكلام، والشعارات، وهنا على ناسنا أحدث أنواع القتل، وأنبلها، وأعزها تدميراً وترهيباً وحصاراً.


قلنا: ما كنّا نتصور أن لا يميز هؤلاء الطغاة، بين الناس وبين أكياس المتاريس، ولا بين الأطفال والجدران، ولا بين النساء والشوارع، ولا بين الهررة والكلاب، خلطٌ سديمي بين البشر وبين الأشياء. تشييء الناس ومسخهم، و"إنزالهم" الى مراتب سفلية من الإنسانية: فهؤلاء ليسوا ناساً لمجرد أنهم يحتجون أو يطالبون بالحرية. الحرية للناس (لنا نحن الطغاة) وليس لهؤلاء القطعان والدواب والمواشي. وخيرات البلاد لنا ولعائلاتنا ولأقاربنا وزبانيّتنا وعملائنا، وليس لهؤلاء النكرات. وهذا هو منطق الإبادة: منطق الشعور بالتفوّق. وإذا كان منطق "التفوّق" العرقي قاد الى إبادة جماعية في رواندا، وإذا كان الانتصار السياسي أدى الى إبادة جماعية في فييتنام... فإن منطق التفوّق عند الطغاة يتخذ شكل "التقديس" العائلي أو القبلي أو الحزبي والمذهبي. فهناك الحزب المقدس والقبيلة المقدسة والعائلة المقدسة. فالحكم جعل هؤلاء الحكام في مرتبة "الآلهة" والقديسين والاولياء والآيات والخلود (راجعوا أعداد الصُور والتماثيل والبوستيرات التي نُصبت وعلّقت لبعض هؤلاء في الشوارع والساحات، وكذلك أسماء المشاريع والإنجازات التي طوّبت بأسمائهم!) وكما يكون للآلهة أن يمتلكوا النفوس والعقول والأرض وما عليها والثروات والمصائر، فمن الطبيعي أن يؤمنوا إيماناً راسخاً عميقاً... بهذا التفوّق "الخالد" و"الإلهام" (القائد الملهم) على العامة وعلى المفكرين والشعراء والكتّاب باعتبار أن على هؤلاء أن يستمدوا مواهبهم من "نار الآلهة" وأن يمارسوا طقوس "العبادة" والتكريم لهؤلاء الأبديين (من الأبد الى الأبد.. كم مرة سمعناها)، وبالفداء (بالروح بالدم.. نفديك يا فلان بن فليتان بن حميران!).


هذا الشعور بالتفوّق يستمده الطغاة من سلطة القتل. والقسر. والعسف. (فما بالك إذا كانوا آيات وفقهاء في بلاد ساسان وإيران!) وعلى الجمهور إذاً أن يقتبس وجوده منهم. فهم الذين ينتخبونه وليس عليه أن ينتخبهم. وهم الذين عليهم أن يستلهِموه، وليس هو الذي يجب أن يستلهمهم. وهو الذي يجب أن يصير مثلهم، وليس هم من يجب أن يصيروا مثله. حتى الأماكن يجب أن تشبه "حكامها". وحتى المدن. والشوارع. والمنازل. والمعمار. والمقاهي. والمكتبات. والسيارات. والطرقات يجب أن تشبه حكامها، وتستل "روحها" من وحيهم. ولهذا ربما يجب أن تتشابه الأمكنة وكأنها مكان واحد يشبه الطاغية الواحد وقمعه ومخابراته (تأملوا مكتبة تشبه عنصر مخابرات. أو تشبه فك دكتاتور!) ويتشابه الناس كأنهم واحد (شعار الوحدة الوطنية) يشبهون "وحيد زمانه" وهو المبلطح في الجهل والنرجسية والفساد: أي الحاكم المطلق. وحتى السجون يجب أن تشبه الطاغية. حتى السلاسل والقيود والقضبان. فالسجون كالأمكنة يجب أن تتخذ شكل "سخيفها" الأوحد؛ والسجناء أنفسهم يجب أن يشبهوا سجونهم... ويقتدوا بقائدهم وبتعاليمه (التافهة)، وبحكمته (اللصوصية وسرقة الأموال العامة)، وبنظافة كفه (القتل كأساس للقانون والشريعة والدستور: دستور الإلغاء!) وكأنما لا يكفي أن يمسخ النظام شعبه شكلاً وانتماء ورغبات، بل يحوّله عميلاً خارجياً: يمس قيمه وأخلاقياته الوطنية والإنسانية: فهو كما قال "ملك الملهوسين" معمر القذافي، إن المتظاهرين ضد حكمه مدمنون يتناولون الحبوب المهلوسة، وأنهم لصوص وكلاب، وعملاء للخارج، وأصوليون (تحركهم القاعدة... وأميركا: لم يذكر إسرائيل هذه المرة لا هو وسواه من الأبطال الميامين) فهم مرضى وفي غيبوبة وفي حالات لوناتيكية، وفاسدون، ولولا هذه الحبوب المهلوسة لما خرجوا على طاعته. والقذافي كسواه من هؤلاء الطغاة "المسلسلين" صوَّر شعبه "مرتزقاً". مجرد مرتزق، يقبض الأموال من الخارج، ويتلقى السلاح، لينفذ مؤامرة خارجية ضد البلاد (وضد الشعب). أكثر: يكذب هؤلاء الطغاة في تشويه صورة شعوبهم، وانتماءاتهم، ومطالبهم: إما يحيلونهم على السلفية والأصولية (كرسائل موجهة الى الغرب لاسترضائه) وإما على البلطجية والشبيحة والعصابات والزعران (رأينا دور البلاطجة في مصر وليبيا واليمن وتونس و... وسبحة الطغاة تكر قبل أن تفرط). أكثر: يعمد البلاطجة (وهم من المخابرات والفرق السوداء: عندنا في لبنان ذوو القمصان السود أيضاً) الى السرقة، ونهب المنازل، والمحال، وحتى البنوك، ليلصقواهذه التهم بالثوار. (أوليس هذا ما فعله أنور السادات عندما وصف المنتفضين في أحداث مصر بثورة الحرامية). أكثر: وكما حدث في مصر، وتونس، وليبيا... فأنظمة الطغاة تفتح السجون وتطلق اللصوص والمجرمين وتمدهم بالسلاح ليروّعوا الناس، ومن ثم ليلصقوا التهمة إما بالعصابات المسلحة (المجهولة!) وإما بالمنتفضين. أكثر: ولكي تعزز هذه الأنظمة الفاشية صدقيتها (أوه ما أصدقهم!) يحضرون بعض الشبان من المعتقلات ومن ذوي السوابق أو من الأجهزة، ويلقنونهم "اعترافات" متلفزة أمام الجماهير، يعترفون بها بتلقيهم أموالاً وأسلحة لقتل الشعب أو "الاعتداء" على "الشرعية" وتتمة لهذه الأكاذيب يستجلبون "زبانيتهم" من المؤسسات الإعلامية والنقابية والسياسية والذين عيّنتهم "الأجهزة"، بتشويه الحقائق، وممارسة النفاق، لتلطيخ صورة الثورة. هؤلاء نعرفهم جيداً: خريجي معاهد "المخابرات"، و"كواتم الصوت" والاغتيالات، وتلفيق التهم. نعرفهم؟ ولو! ألم نكن في لبنان وعشنا كل حروب هؤلاء الطغاة ومخابراتهم ووصاياتهم وعرفنا كيف ينسجون المؤامرات على الأوطان، وكيف يخططون للاغتيالات ليتهموا آخرين (وهل نسينا سلسلة الاغتيالات التي ارتكبت وحتى أمس القريب) وأي دور لعبه عملاء الأنظمة والأحزاب لتحويل الأنظار عن إجرامهم واتهام جهات أخرى بحيث اتُهم مثلاً سعد الحريري بقتل والده (راجعوا إحدى الصحف الرسمية غير البعيدة)، وأن وليد جنبلاط قتل سمير قصير (حليفه آنئذ)، وأن سمير جعجع قتل بيار الجميل، وأن الرئيس أمين الجميل أيضاً هو الذي قتل ابنه بيار!). نعرف هؤلاء جيداً! أكثر: ألم تحاول وصايات أنظمة الطغاة العربية تشويه صورة الشعب اللبناني ووصمه بأنه مجموعة مذاهب وطوائف قاصرة وغير قادرة على الحكم والتعايش وأنها أقرب الى الوحوش المتناحرة، لتبرير "تدخلهم" و"إنقاذ" اللبنانيين من أنفسهم، بحيث يكون تدخلهم أو وصاياتهم بمثابة نداء استغاثة لبته هذه الأنظمة بمروءة "المعتصم" ووفاء "السموأل"! إذ لا يكفي أن شوّه هؤلاء صورة شعوبهم... بل تجاوزوا الى تشويه صورة شعوب أخرى ومنها لبنان! واليوم، ما زالوا يمضون في اتهام الآخرين بحَبك المؤامرات عليهم، عندنا وعند سوانا: ويقللون من مناعة أهلهم، وقيمهم... كل ذلك في طرق تفكير باتت بدائية وحجرية لا تنطلي على أحد. وقد اكتشفنا مرة أخرى بعد مرات، غباء هذه الأنظمة، التي باتت "ادعاءاتها" و"أكاذيبها" مصدر سخرية، وقهقهة، كأننا أمام أفلام فكاهية من فترة الأربعينات، غباء بالأسود والأبيض. ومن هنا بدا شاسعاً البون بين "النُخب" الحاكمة وبين ناسها: "النُخب" الحاكمة ما تزال حتى في طرق القمع والبروباغاندا في العصر الستاليني، وفي الذهنية والأفكار في العصر الانحطاطي، وفي الحساسيات في العصر البرونزي! بينما بدا المنتفضون من شعوب هذه الأنظمة منتمين الى عصر جديد، وإلى روح جديدة، بعيدة من ذهنيات الماضي وشعاراته وأحزابه وقضاياه: فهو أيضاً صراع بين "حداثة" متحجرة ومزيفة عند الأنظمة وحداثة مفتوحة حية عند هؤلاء الثوار. فهي ثورة الحداثة المفتوحة قبل كل شيء، مقابل الثورات المضادة عليها. الحداثة بمفهومها التجددي والسياسي والتقني خارج القولية والمذهبة والأدلجة والعسكرة الأحادية والشمولية.


من هنا إنها ثورة الشباب. ولا يعني ذلك السمة الزمنية والعمرية فقط، بل السمة الداخلية، والتجاوزية، والجدّة. عصر قديم مقابل عصر جديد. وهذا ما أسهم في تمسك الطغاة بمنظوماتهم السياسية والأمنية الهرمة المتداعية وبأساليبهم المُتخطّاة البالية، في مواجهة الظواهر الشبابية. ولهذا السبب فشلت الأنظمة في هذه المواجهة، لأنها فوجئت بالمستويات غير المتوقعة لناسها ولشعوبها، ولأنها، وبسبب انغلاقها في قواقع السلطة والقمع والفساد، غابت عما يجري من تحولات في البواطن وفي الطبقات والشرائح. وعندما أرادت مقاومة هذه الظواهر لجأت الى الأساليب والأدوات العتيقة لمواجهة هذه التجليات الجديدة! لجأت الى لغة "الشتاء" و"الخريف" والذبول والأوراق المتساقطة لتواجه لغة الربيع والنضارة والتفتح: المعركة بدت منذ البداية غير متكافئة. ونظن أن ما ضاعف حقد "النُخب الحاكمة" على شعوبها شعورها بالتخلف: فبعد الإحساس بالتفوّق على الناس، ها هو الإحساس بالقهقري. من هنا باتت المعركة مصيرية. من هنا لجأ هؤلاء الى الأسلحة "القديمة" أي القوة والبطش والدبابات والبلطجية... لردم هذه الهوة، وإعادة التوازن. هنا الخطأ: فالإصلاح في هذا المجال بات نبرة متجاوزة. بل بات مجرد محطة، إزاء أحلام شبابية بواقع تغييري شامل: في البنية المتراكمة الهرمة المفككة، المتآكلة السائدة. ولهذا بدا الكلام عن تنحي هذا الحاكم أو ذاك مجرد مطلب مرحلي، أو مفتتحاً لأفق جديد. لهذا تحديداً، انقلبت الأدوار. فمن موقع فوقي مستكبر لدى الحكام، الى موقع ارتدادي حضيضي. ومن موقع "دوني" وخاضع، لدى الناس الى موقع متقدم، بدا فيه الاحتقان المتراكم أكثر من مشاعر للتفجر، والحقد، والانتقام، بل أكثر من ردود فعل: إنه الفعل الثوري بامتياز الذي لا بد أن يتبلور مع التجارب، والنضالات أثناء مقاومة الطغاة وبعد انهيارهم!
إنه ربيع الثوار يعقب شتاء والطغاة!