| | Date: Sep 23, 2018 | Source: جريدة الحياة | | طوابير الهجرة أمام السفارات: الخلاص الفردي ملاذاً - موسى برهومة | عندما وبّخ غسان كنفاني أبطالَ روايته «رجال في الشمس» من أنّ خياراتهم الشخصية الأنانية، بعيداً من وطنهم، ستودي بهم إلى التهلكة والموت الزؤام، لم يكن يعلم أنّ زمناً سيأتي، بعد نحو ستين سنة، تكون فيه الخلاصات الفردية هي الفسحة المتاحة أمام بشر كثر منثورين على المساحة العربية من الماء إلى الصحراء.
ذهب أبطال الرواية إلى الكويت بحثاً عن عمل، بعدما هدّم الاحتلال الصهيوني آمالهم، وبعدما تراخت قبضتهم عن الزناد، فآثروا الرحيل أو الهرب، موقتاً، لسد رمق الصغار في بيوت الطين والصفيح. ولم يقوَ الرجال اليائسون الطامحون إلى الثراء السريع في بلاد الخليج، على أن يدقّوا جدران الخزّان الذي حشروا في داخله ريثما يتم تهريبهم عبر الحدود، فماتوا اختناقاً في لهيب الصحراء المشتعل. لذا، أصبحت صرخة كنفاني كأنها حكمة أزلية معذِّبة: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟».
كان الهرب من البلاد، في ذلك الحين، يرقى إلى الخيانة والإفلاس الفكري والأنانية المشبعة بالكراهية، لأنّ أوطاناً كانت تحتاج إلى أبنائها لترقيتها وتحريرها من الاستعمار والجهل والتخلف، وكان المدى فسيحاً للتغيير آنذاك. الآن، انقلبت المعادلة رأساً على عقب، وصارت أفكار الهجرة بعيداً خارج الحدود، أكثرَ الأحلام التي يهجس به العربي، صغيراً كان أم كبيراً: فالأول يرغب في تأمين حياته، والثاني يأمل في تأمين مماته على نحو كريم لا مهانة فيه، حسبه أن يُداوى إن مرض، وأن يجد مأوى إن تعطل، ثم مرقداً أنيساً إن حانت ساعة الرحيل.
البلاد العربية جلّها طاردة على نحو تزداد وتيرته في شكل محموم، لذا تكفي نظرة واحدة على الطوابير المصطفة أمام السفارات الأميركية والأسترالية والكندية والسفارات الأوروبية، ليتيقن المراقب أنّ النسبة الأكبر من «سكان» المنطقة العربية يرغبون في الهجرة والانعتاق قبل أن تسودّ الدنيا في وجوههم أكثر، وقبل أن يصبحوا وقوداً لحروب لا تنفكّ تندلع بين ليلة وضحاها.
كتب الرجل الذي يحلم في الهجرة إلى السويد: «عندما كنّا أمميّين حالمين، رُحنا نفكّر في تغيير العالم، وكنّا على يقين من قدرتنا على ذلك. كانت الأفكارُ أصغرَ من الأحلام. كبرنا قليلاً وتهدّمت جدرانٌ كثيرة في الوعي والواقع، فصار مدار الحلم أن نغيّر دولنا ومجتمعاتنا. ولكنّ الفتق كان قد اتّسع على الراتق وأعجزه، فانكمش الحلم رويداً رويداً، حتى استقرّ عند حاكورة صغيرة يعتني، بأشجارها اليافعات، الرجلُ الذي ما زال يحلم في تغيير العالم، متذكّراً، بأسى، مقولة الماركسيّ الثائر بأنّ التغيّر الكيفي إنّما هو مجموعة متراكمة من التغيّرات الكميّة!».
قبل شهور قليلة، فكر شاب أردني يدعى «قتيبة» في أن يهاجر بعدما تهدّمت آماله وسُدّت الأبواب في وجهه، فسأل رئيس الحكومة المكلف آنذاك عمرَ الرزّاز على «تويتر»: هل أهاجر؟ فأجابه الرزاز: «لا، الأمور ستتحسن بمساعدتكم». وقال له: «لا تهاجر يا قتيبة». لكنّ مجيء حكومة جديدة، في أعقاب حكومة هاني الملقي التي أسقطتها التظاهرات الشعبية العارمة على الدوار الرابع في العاصمة عمّان، وعلى مقربة من مقر رئاسة الوزراء، لم يغيّر كثيراً من الوقائع التي تجعل قتيبة يَعدل عن قراره في الهجرة.
وفي أعقاب ذلك، انتشر وسم واسع الانتشار على «توتير» تحت عنوان (#هاجر_يا_قتيبة)، فيما انبرى مستخدمو «السوشل ميديا» يتداولون قصيدة الشاعر محمود ناجي الكيلاني «هاجر يا قتيبة» باعتبارها أيقونة زمن أردني وعربي عنوانه الخلاص، ولو كان ذلك على طريقة أبطال «رجال في الشمس» الذين ماتوا اختناقاً في الصحراء، في حين يموت كثيرون اختناقاً بالماء بعد أن تحطّم أمواج البحار قواربهم، كما حطّمت الحياة آمالهم بالعيش بكرامة في أوطان يسودها العدل، فـ «أينما يكن العدل، فثمّ شرعُ الله». | |
|