| | Date: Sep 18, 2018 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | الطبقة السياسية اللبنانية خارج الخطوط الحمر - صلاح أبوجوده | تسلك المسؤوليّة السياسيّة في لبنان منذ بضع سنوات مسلكًا انحطاطيًّا يمعن في تآكل مختلف قطاعات الدولة ويفاقم يأس المواطنين. وإن كانت علامات الانحطاط على المستوى الدستوريّ والقانونيّ لم تغب يومًا عن تاريخ لبنان المعاصر، إذ تغيب المحاسبة أو المساءلة ودور القضاء عن تصرّف الطبقة السياسيّة الممسكة بمصير البلاد (وتغيب أسسُ النظام هذه أيضًا عن عمل كبار الموظفين المحسوبين على مرجعيّاتهم، أي تلك الفئة التي يمكن أن تتحوّل كبش محرقة في أيّ مساومة أو ادّعاء بإصلاح)، فالمشكلة آخذة بالاشتداد على مستوى نوعيّة العمل السياسيّ نفسه، إذ يغيب عنه كلّ تفكير في الحدّ الأدنى من متطلّبات "العيش معًا".
من الناحية المنطقيّة المثاليّة، يتوقّف الخروج من حالة الهريان العامّة على تطبيق الدستور بمعزل عن أيّ مرجعيّة لا تنصّ عليها موادّه، وتفعيل القضاء باستقلاليّة تامّة عن الحسابات السياسة والطائفيّة. ولكنّ الوضع اللبنانيّ الخاضع لنزعة طائفيّة وزعامتيّة مرضيّة تُغلِّب نزعة ميثاقيّة غامضة على الدستور إلى حدّ تهميشه وتسخيفه، وتقيِّد القضاء، يجعل من الصعب جدًا بلوغ هذَين المطمحَين الوطنيَّين الصرف. لذا، يعتمد الحلّ البرغماتيّ على تثبيت مسؤوليّة أخلاقيّة سياسيّة يمكنها أن تفتح باب أمل. أمّا الكلام على "تثبيت" هذه المسؤوليّة وليس على "البحث" عنها، فذلك أنّ الوسطيّة اللبنانيّة التقليديّة سبق أن أنتجتها، والخطر الكبير أنّها تحتضر منذ سنوات، وتحتاج، بالتالي، إلى إعادة إنعاش.
فبالرغم من طابع هذه الوسطيّة السلبيّ، إذ تفتقر إلى رؤية وطنيّة جامعة تُترجَم بسياسة فطنة تعبر باللبنانيّين تدريجيًّا من حالة الطائفيّة إلى المواطنيّة والديموقراطيّة، فإنّها، بفضل برغماتيّتها الملتصقة بحسّ مسؤوليّة أخلاقيّة مقبولة، قد أرست عند أنصارها الذين يتعاطون الشأن العامّ معالم أخلاقيّة ضمنيّة، تُلهمها أهميّةُ الحفاظ على "العيش معًا"، وما يفترضه هذا من استقرار أمنيّ واقتصاديّ، وعمل المؤسّسات الدستوريّة والعامّة، وحماية القطاع التربويّ، وتحييد لبنان عن صراعات المنطقة على قدر الإمكان. لذا، إن كان الحكم الوسطيّ لا يُلغي المحاصصة والزبائنيّة والتفضيليّة والفساد، ولا الصراع على المناصب العامّة على أنواعها والنفوذ والمال وتأثير السياسات الخارجيّة، فإنّه، بمقتضى مسؤوليّته الأخلاقيّة تجاه العيش معًا، يحافظ في الوقت عينه - كما يتّضح من تاريخ لبنان المعاصر- على درجة معيّنة من الاستقرار تسمح بولادة شعور بالأمل والتفاؤل عند المواطنين، وتشجّع على الاستثمار، وتُبقي على إمكانيّة تطوير النظام الطائفيّ بفضل فسحة تلاقي اللبنانيّين التي تواكبه والتي تُطوِّر تدريجيًّا شعورًا وطنيًّا يتجاوز الطائفيّة ويؤْثر الديموقراطيّة، وتوفّر جوًّا ملائمًا لإجراء إصلاحات إداريّة، ولتفعيل دور المنظّمات غير الحكوميّة لمحاربة الفساد، ودور منظّمات المجتمع المدنيّ العابرة الطوائف.
غير أنّ العلاقات التنافسيّة والنزاعيّة التي تعيشها الطبقة السياسيّة حاليًّا، تتجاوز بالكامل الخطوط الحمر التي ترسمها المسؤوليّة الأخلاقيّة المذكورة، لا بل وحتّى يغيب عن مواقف السياسيّين وسلوكهم أحيانًا كثيرة كلّ تمالك للنفس يخلقه بديهيًّا حسّ المسؤوليّة. فلا عجب إذًا أن تبدو البلاد كمن يسير باستمرار على حافة الهاوية؛ أوليس غياب الحسّ بالمسؤوليّة يجعل من التضحية بالشعوب أمرًا سهلاً؟
في حين أنّ المسؤوليّة الأخلاقيّة السياسيّة وليدة الوسطيّة تُبقي على منطق النقاش المستمرّ بين جميع الأطراف أو على الأقلّ الأقوى منها، وتعقلِن سلوك السياسيّين على نحوٍ يوازن بين مصالحهم ومتطلّبات العيش معًا، فإنّ ما نشهده منذ بضع سنوات يمثّل انقطاعًا مع تلك المسؤوليّة من دون اقتراح بديل عمليّ إيجابيّ لها. بل ما يسود منطق الصدام وخطابه التأثيريّ الذي يدخل البلاد بشكل مستمرّ في حالة استثنائيّة مضطربة لاعقلانيّة يمكن أن تخرج عن السيطرة بسهولة.
وبكلام آخر، إذا كان الخوف من فقدان العيش معًا يخلق أخلاقيّة سياسيّة تحوّل نزاعات الزعامات إلى مواضيع تفاوض بهدف التوصّل إلى توازن، فإنّ الظاهر حاليًّا أنّ السياسيّين الذين يملؤن المشهد الوطنيّ قد تجاوزوا هذا الخوف الحيويّ، إذ ما عاد من ضوابط ضمنيّة لسلوكهم يُلهمها العيش معًا، تفرض عليهم التوصّل إلى إرساء توازن معيّن هو بمثابة ركيزة الوسطيّة التي لا حياة للبلاد من دونها والتي بفضلها يبقى الأمل قائمًا بتطوير النظام. هل يخفي هذا السلوك نفسيّة المحارب الذي لم يقم بعد بما يسمّيه فرويد بــ"عمل الحداد" على زمن الحرب ونتائجها ومنطقها الصداميّ الإلغائيّ، والحرب قد انتهت منذ سنوات؟ أم أنّ ثمّة طبقة سياسيّة تجهل كليًّا الوسطيّة وأخلاقيّاتها السياسيّة وأهميّتها لاستمرار البلاد بالرغم من عيوبها، وتعيش في ما يشبه وهم الاكتفاء الذاتيّ أو الثقة المفرطة بالذات؟
مهما يكن من أمر، فإنّ المسؤوليّة السياسيّة ترسم منذ الآن صورة المستقبل، وإنّها، ويا للأسف، صورة قاتمة. فثمّة أزمة اقتصاديّة حادّة تعيشها البلاد بدأت تقضي على الطبقة الوسطى، ولا يمكن أن تعالج إلاّ بالاستقرار السياسيّ الذي لا يؤمّنه السلوك السياسيّ الراهن. وثمّة ملامح أزمة جديدة بين اللبنانيّين بشأن العلاقة بسوريا، قد تؤدّي إلى تعريض السلم الأهليّ للخطر إذا لم يتوصّل السياسيّون إلى بلورة موقف من سوريا ومن اللاجئين السوريّين تُلهمه أولويّة العيش معًا. وينطبق الأمر نفسه على نتائج المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان التي يُرتقب صدورها أثناء السنة القادمة.
وفي الواقع، تضع الطريقة التي يتعاطى فيها السياسيّون مع الأوضاع علامة استفهام كبيرة على مكانة العيش معًا في تفكيرهم: هل تدخل علّة وجود لبنان هذه في حساباتهم؟ إنّ ضياعهم في النزاعات التي تثيرها المصالح الضيّقة يُعطي جوابًا سلبيًّا. ليس من طريق خلاص إلاّ بتصالح السياسيّين مع أخلاقيّة السياسة الوسطيّة؛ وكلّ كلام على إصلاح البلد ودمقرطته لا يتّخذ من هذا الطريق منطلقًا، يبقى كلامًا وهميًّا وفي بعض الأحيان خطرًا بل ومميتًا. وهذا يفرض بدوره الإقرار بقاعدة أخلاقيّة أساسيّة للعمل السياسيّ وقراراته: عدم القيام بأيّ عمل أو اتّخاذ أيّ قرار يهدّد العيش معًا أو يضعفه. وانطلاقًا من هذه القاعدة الملهمة، تتفرّع باقي أنواع المسؤوليّات ويتمّ التحاور بالمسائل الخلافيّة.
أستاذ في جامعة القديس يوسف | |
|