Date: Sep 16, 2018
Source: جريدة الحياة
هل تكون إدلب بوابة خروج تركيا مِن ورطتها؟ - محمد بدرالدين زايد
ما زالت أصداء القمة بين روسيا وإيران وتركيا تتفاعل، فيما تواصل تركيا توجيه رسائل خلافها مع شريكيها في محاولة الحفاظ على مصالحها غير المتطابقة معهما من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولة ترطيب الأجواء مع الأطراف الأقليمية الأخرى وحلفائها السابقين وعلى رأسهم الولايات المتحدة. فتركيا تواجه معضلة معقدة في فلسفة سياستها الخارجية وتطبيقها، واتضح ذلك أخيراً في المواجهة مع حليفها الأميركي، على خلفية قضية القس المعتقل لديها بدعوى أنه جاسوس ورفضها طلب واشنطن إطلاق سراحه. وهذه المسألة ليست إلا قمة جبل جليدي لتباعد استراتيجي بين البلدين استغرق سنوات ولكن تصاعدت وتيرته خلال العام الحالي. فصول هذا التباعد بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، وتراجع طبيعي في دور تركيا في حسابات واشنطن الاستراتيجية من دون اختفائه كلية في ضوء معادلات التوازن مع روسيا.

هذا التغير النسبي سمح بإطلاق تفاعلات شبه طبيعية داخل النظام السياسي التركي وفي علاقاتها الخارجية، مهّد الطريق لنشوء الخلافات وعدم إمكان احتوائها، وربما كانت من أوائل إرهاصاته تلاعب تركيا بقيود الحظر الأميركي والغربي السابقة ضد إيران، وإن كان جزءاً من ذلك عدم ممانعة في استفادة تركيا اقتصادياً في هذا الشأن، ضِمن أوراق التفاعل مع إيران في مفاوضات الاتفاق النووي. على أن التعقد الكبير بدأ مع تفاعلات المسألة السورية، خصوصاً عندما بدأت فصول الشراكة التركية –الروسية- الإيرانية لإدارة الأزمة ومستقبل سورية.

وخلق هذا المشهد الصعب الذي رأيناه عندما وجدت واشنطن نفسها خارج عملية آستانة وخارج نسق التسويات الرئيسي لهذه الأزمة. وكان الحل الذي لجأت إليه واشنطن لمشاغبة وتعويق هذا الاستبعاد هو اللجوء إلى الورقة الكردية، التي كانت لها علاقة تاريخية بها، ولكنها تحولت إلى المزيد من التسليح والاعتماد على نشر قوة أميركية محدودة في مناطق في شمال شرقي تركيا برفقة قوات الفصيل الكردي الموالي لها، اعتبرته الأخيرة بمثابة تهديد استراتيجي لا يمكن التهاون فيه، ما قاد إلى التدخل التركي في عفرين، وتجميد عملية الانتشار الأميركية. ولكنها كانت صفعة شديدة لمكانة الولايات المتحدة الأميركية حتى لو كانت هي البادئة بالاعتداء والتجاوز، إلا أن واشنطن نفسها باتت في حرج لا يتناسب مع ما تبقى من مكانتها الإمبراطورية.

ما حدث هو بداية تباعد وفجوة استراتيجية لن تعالج بسهولة، فقد كشفت هشاشة ما آل إليه تحالف البلدين، من تجاوز واشنطن لخط أحمر بالنسبة إلى مصالح تركيا ورد الأخيرة بما يهين مكانة الثانية الدولية. ويعقد من هذه الخطوط الاستراتيجية الخلافات التالية حول شراء تركيا صفقة طائرات اف 35، ورفض الإدارة الأميركية هذه الخطوة، والتي كانت تركيا طرفاً في صنعها. ثم جاءت الخطوة التالية التي تمثلت في الحديث عن صفقة تركية لشراء منظومة الدفاع الروسية اس 400، ليتحول التباعد الاستراتيجي إلى مرحلة الضرر المحتمل لمنظومة الـ»ناتو» ومنظومة الدفاع الأميركية ذاتها.

وتصاعد الأمر عبر اتهام تركي صريح لواشنطن بأنها وقفت وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التي يتهم الرئيس رجب طيب أردوغان خصمه فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة بالوقوف خلفها ويطالب واشنطن بتسليمه إلى أنقرة. هذه المنظومة المعقدة كانت تنتظر حالة كالقس الأميركي بدلالاتها الداخلية للرئيس ترامب وعلاقاتها باليمين الأميركي المحافظ الذي يدين له ترامب بالولاء لتكتمل أسباب تكريس مناخ الأزمة والتناقض بين الطرفين لتفرض واشنطن عقوباتها، ويرد أردوغان بانفعالاته وديماغوجيته وينزف الاقتصاد التركي في شكل حاد، ولتكتمل أبعاد معضلة السياسة الخارجية التركية بتراجع تحالفاتها التاريخية مع الغرب، وضعف أسس أي تحالفات أو شراكات مع أطراف أخرى.

الواضح أن الطرفين الأميركي والتركي يحاولان التهدئة الآن، ولكن ميدان هذه التهدئة الأساسي ليس فقط تخفيض حدة التصريحات المتبادلة، أو إجراء اتصالات علنية أو سرية بين الجانبين، وإنما عمليات تساومية ضمنية ساحتها سورية، وتحديداً إدلب. ولتواصل المسألة السورية لعب دورها الرئيسي في التأثير على التوازنات الدولية لصياغة مسارات السياسة الخارجية لدول المنطقة والعالم، كونها أصبحت أحد أهم ساحات صياغة الترتيبات الدولية والإقليمية المقبلة. وللتصعيد التركي بشأن هذا الأمر حيثياته التي تتضمن ما تبقى من التنظيمات المسلحة التي لعبت تركيا الدور الرئيسي في تسليحها وتدريبها، ومن غير المضمون أن تستمر تفاصيل هذه العلاقة بينها وبين أجهزة تركية في طي السرية، وبخاصة أن بعض فصولها معروف بالفعل. كما أن أخطار نزوح مواطنين سوريين إلى الأراضي التركية المتاخمة لمناطق المعارك المجاورة لها، عالية للغاية، وتشبُع تركيا بالنازحين السوريين وصل إلى درجة عالية، وطبيعة وجود تداخل سكاني بالشكل المتداول حول إدلب يعطي صدقية لمخاوف جماعات حقوق الإنسان تجاه الشعب السوري من هذه الحرب الصعبة. إذاً، فمصالح تركيا تدفعها بعيداً من شريكيها الروسي والإيراني في هذا الصدد، ما يمكن أن يحسن من فرص تقارب ضمني مع الأطراف الغربية وواشنطن الحليفة السابقة.

ولأن السياسة الأميركية تحركها اعتبارات التركيز على الخصم الروسي التاريخي، فإنها لن تضحي بسهولة بالشريك التركي، بينما اعتبارات التيار اليميني المحافظ الذي يريد التركيز على الصين كخصم استراتيجي محتمل لن تجعل لقيمة الشراكة مع تركيا مكانتها القديمة. إذاً، فتناقض هذه الاعتبارات قد يزيد الاحتمالات بحدوث تقارب نسبي بين الجانبين أو على الأقل تخفيف حدة الخلافات. إلا أنني لا أعتقد أن خصوصية العلاقات الأميركية – التركية يمكن أن تعود إلى عهدها القديم في ظل وجود أردوغان وترامب. فحسابات السياسة الخارجية المعقدة لهاتين القيادتين تدفع بالضرورة إلى تباعد بين البلدين، ولكن ما يمكن توقعه هو أن يساهم موقف تركيا في شأن إدلب في تخفيف حدة توتر العلاقات الأميركية– التركية ونزع فتيل التصعيد المتبادل لبعض الوقت. على أن طي صفحة الخلاف بدرجة كبيرة سيستدعي الإفراج عن القس الأميركي بكل ما يعنيه هذا من هز لصلف أردوغان، بل وصورة تركيا ذاتها. أمر ليس سهلاً على أي دولة يتم استدراجها للتصعيد المتبادل في هذا النوع من الأزمات، ولكن ربما يكون علينا انتظار نتائج التفاعلات حول إدلب أولاً. وهي تفاعلات ستتواصل في الأسابيع القليلة المقبلة، وأظن أنها سترقى إلى الوصف بأنها أكثر مراحل التعقد في الأزمة السورية.

* كاتب مصري