Date: Aug 31, 2018
Source: جريدة الحياة
النظام العربي الجديد... أوجه القوة والعنف في الشرق الأوسط - مارك لينش
في 2011، نزل ملايين المواطنين في العالم العربي إلى الشارع. وكانت الانتفاضات الشعبية من تونس إلى القاهرة واعدة بإطاحة الأنظمة المستبدة وبإرساء إصلاحات ديموقراطية. وبدا أن نظام الشرق الأوسط القديم يُطوى، وأن نظاماً جديداً و «أفضل» يتربع محله. ولكن، سرعان ما تداعت الأمور. فانهارت بعض الدول على وقع الضغوط وانزلقت إلى حرب أهلية؛ وأفلحت دول أخرى في استعادة السيطرة على مجتمعاتها. وبعد 7 سنوات، يبدو أن الأمل بانعطاف إيجابي جوهري لم يكن في محله، على رغم أن الانتفاضات أفضت فعلياً إلى نظام عربي جديد - لكنه ليس ما انتظره شطر كبير من الناس. فلم تتمخض عن الانتفاضات أنظمة ديموقراطية ناجعة. غير أن الانتفاضات هذه غيّرت وجه العلاقات الإقليمية. فالقوى الكبرى التقليدية - مصر والعراق وسورية - هي اليوم دول شبه مشلولة، في وقت تزدهر دول الخليج. وساهم تكاثر عدد الدول الفاشلة والأضعف حالاً، في تشريع الأبواب أمام المنافسة والتدخل. فرجحت كفة لاعبين جدد. ولم يعد مدار الديناميات الإقليمية على تحالفات رسمية ونزاعات تقليدية بين دول كبيرة، بل صار الجسر إلى القوة هو بسط النفوذ وحروب الوكلاء. وصار مدار السياسة الخارجية في الدولة العربية على خليط من التهديدات وانتهاز الفرص السانحة. فالخوف من انبعاث الانتفاضات المحلية، ومن تدخل القوة الإيرانية، والتخلي الأميركي يتزامن مع طموحات تستغل ضعف الدول والفوضى الدولية - وهذه الدينامية تجرّ القوى الإقليمية إلى نزاعات الوكلاء المدمرة - وهي نزاعات تزرع الفوضى في أصقاع المنطقة. والنظام الجديد في الشرق الأوسط ليس مرآة توازن قوى جديد بل هو نظام جوهره الفوضى. فالحرب السورية الأهلية صارت من أبرز الكوارث في التاريخ، وهي أودت بحياة نصف مليون مدني، في أقل تقدير، وحملت أكثر من 10 ملايين على النزوح والهجرة. ولا شك في أن العراق خطا خطوات بارزة على طريق هزيمة «داعش». ولكن هذا النجاح دفع ثمنه الباهظ سكان المناطق المحررة. وفي اليمن (المهتز سياسياً)، 8.4 مليون نسمة على شفير المجاعة. وليبيا دولة فاشلة.

والدول التي تفادت الانهيار تنازع من أجل البقاء. وتعاني مصر إلى اليوم من نتائج انقلاب 2013 العسكري. فإحكام قبضة القمع يحول دون التقدم السياسي، ويخنق السياحة، وينفخ في التمرد، ويبث الاستياء الشعبي. وبعض الدول الناجحة إلى حد ما، مثل الأردن والمغرب وتونس، تجبه مشكلات اقتصادية ضخمة، واستياء الشباب، واضطراب دول الجوار. والمشكلات الاقتصادية والسياسية التي كانت وراء الانتفاضات الشعبية في 2011، صارت أفدح اليوم عما كانت عليه قبل 7 سنوات. واحتمالات الاضطرابات كثيرة في المنطقة. فانسحاب أميركا من الاتفاق النووي مع إيران شرّع الاحتمالات أمام ضربة أميركية أو إسرائيلية قد تفضي إلى حرب. وسياسة المقاطعة أضعفت بعض المنظمات الناجحة. وفي سورية، تساهم الضربات الإسرائيلية المتعاظمة وعمليات تركيا في الأراضي السورية، ورسوخ النفوذ الإيراني، في تغيير وجهة الحرب الأهلية هناك إلى وجهات جديدة، على رغم أن المعارضة المسلحة تنحسر، وتنتشر القواعد الإماراتية في القرن الأفريقي. وقد تستحوذ الأراضي الفلسطينية على الانتباه الدولي إذا انبعث العنف في غزة ولم تقيض الحياة لحل الدولتين. وفي هذا السياق المضطرب، تحالفت واشنطن مع دول عربية. ولكن السعي إلى نظام يشبه نظيره السائد قبل 2011، متعثر ومترنح. ففي الشرق الأوسط اليوم، يقوض انتشار الدول الفاشلة، وأزمات الحوكمة الموقوفة من غير حل، ونقاط تقاطع التنافس، أشكال القوة والحكم. وكلما سعت الدول إلى إحكام القبضة في الداخل أو النفوذ في الخارج، أججت الهشاشة الكامنة وضعف الاستقرار فيها. ولن تنجم عن قرار إدارة ترامب تعزيز دعم بعض الأنظمة المستبدة في المنطقة وتجاهل التغيرات البنيوية العميقة التي تحول دون انبعاث النظام السابق على 2011، النتيجة المرجوة: إرساء الاستقرار، وخدمة المصالح الأميركية.

وليست السياسات العابرة للحدود طارئة على الشرق الأوسط، ولكن بنية الديناميات في المنطقة هذه تغيرت عن سابق عهدها. وغلبت على الخمسينات والستينات ما سماه الباحث مالكولوم كير، «الحرب الباردة العربية» (التنافس بين مصر جمال عبدالناصر والأنظمة التي كان الغرب يدعمها، والتدخل العسكري المصري في اليمن إلى نزاعات بالوكالة في الأردن ولبنان وسورية). ويرى التأريخ التقليدي أن السبعينات هي مرحلة انتهاء الحروب الأيديولوجية العابرة للحدود في المنطقة. فمع وفاة عبدالناصر وبروز الثروات النفطية الضخمة، صار شاغل الدول نجاة أنظمتها عوض القضايا الأيديولوجية الكبيرة. وفي هذه المرحلة، طورت الأنظمة أجهزة أمنية وطنية أقوى قمعت الانتفاضات الداخلية. ومع إرساء الأمن الداخلي في هذه الدول، انحسرت فرص التدخل بالوكالة، فيما خلا في لبنان لحظه التعس، وامتدت الحرب الأهلية فيه من 1975 إلى 1990، وصار مسرح أبرز النزاعات بالوكالة. وإثر الثورة الإيرانية، رصت الأنظمة العربية الصفوف في مواجهة العدو المشترك، وفاقمت قمع القوى الإسلامية التي تتحداها في الداخل.

وعلى خلاف السردية السائدة، بدأت مرحلة الدول القوية تذوي قبل 2011. ففي التسعينات، برزت تحديات أساسية للنظام الشرق الأوسطي التقليدي مع العولمة. فالسياسات الاقتصادية الدولية حملت الدول على تقليص الإنفاق الاجتماعي والتوظيف في القطاع العام. وبدأ الفقر يتفشى في الدول العربية، وبدأت البنى التحتية تتآكل. وحتى الدول النفطية وجدت نفسها تحت رحمة القوى الاقتصادية المعولمة، على غرار الأزمة المالية في 2008 وتقلب أسعار النفط. وفي المرحلة ذاتها، قوضت الفضائيات التلفزيونية والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التكنولوجيات الجديدة، الأنظمة هذه، وهي كانت تعول على ضبط سيل المعلومات والآراء. وبعد 2001، قوضت الحرب على الإرهاب، والشياطين التي أعتقها الاحتلال الأميركي العراق من أصفادها، وانهيار عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، أسس التعاون الإقليمي. وفي 2010، لم يعد من سند أو جامع يشد أواصر النظام العربي غير احتواء إيران وخنق التغيرات الديموقراطية. والانتفاضات العربية في 2011، لم تولد من فراغ، بل من رحم تراكم تغيرات بنيوية بدأت منذ وقت طويل. فالفضاء السياسي في المنطقة صار موحداً من طريق الفضائيات العربية والإنترنت وغيرهما من القنوات العابرة للحدود. وهذه التغيرات عبّدت الطريق أمام انتقال عدوى الاحتجاجات من تونس إلى مصر والمنطقة كلها. والانتفاضات المتزامنة عرّت قوة الدول العربية الداخلية: وبعضها كان تكيفه يسيراً، وبعض آخر كاد ألا ينجو، وغيرها كان مآله إلى الانهيار.

وفي هذا النظام الجديد، أنهكت النزاعات الداخلية القوى التقليدية مثل مصر وسورية، فصارت عاجزة عن بسط النفوذ في الخارج، على خلاف دول الخليج الثرية. فهذه الدول تملك المال وإمبراطوريات إعلامية وموقعها مركزي في الشبكات العابرة للحدود أو في قطاع الأعمال الدولي، فوسعها اللجوء إلى القوة الناعمة. وهذه الدول صغيرة الحجم، ولكن جيوشها مدربة على أمثل وجه وعتادها ممتاز، وفي متناولها قوات (عند الطلب). فوسعها بث النفوذ في ليبيا وغيرها من الدول أكثر مما وسع يوماً الدول العربية التقليدية.

وفي هذا النظام الإقليمي الجديد، آلية دوران القوة مختلفة. فالانتفاضات نفخت في الأنظمة مخاوف من الانهيار. وأحوال الدول الفاشلة والحروب الأهلية ولدت فرصاً جديدة لمد النفوذ. وتوحيد الحيز العربي السياسي من طريق الانتفاضات، حمل الدول على اعتبار أي حادثة في المنطقة مؤشراً إلى قوة ما ومصدر خطر محتمل، في آن: وهذا يسري على الدول كلها. ووجدت أنظمة المنطقة نفسها، سواء نزولاً على رغبتها في نشر نفوذها أو نتيجة دفاعها عن مصالحها والحؤول دون استغلال الخصوم الفرص السانحة، تنزلق إلى حروب أهلية و «ألعاب القوة». وحين بلغت الانتفاضات العربية ليبيا، أصدرت جامعة الدول العربية قراراً يجيز التدخل الإنساني هناك، ومدت دول عربية ميليشيات محلية معارضة لنظام القذافي بالمال والعتاد. وكل من هذه الدولة دعم جهات مختلفة من المعارضة الليبية. وإثر سقوط النظام، احتفظت هذه الميليشيات بأسلحتها وولائها للرعاة الخارجيين، وحالت دون تعزيز الدولة الليبية، ومهدت الطريق أمام الحرب الأهلية.

ولكن الآثار المدمرة للتدخل الخارجي لم تكن جلية على الفور. ففي 2012، اعتبرت دول عربية وتركيا (والولايات المتحدة) أن تدخلها في ليبيا هو قصة نجاح. وبدأت تبحث عن فرص جديدة، ووجدت في الانتفاضة السورية على بشار الأسد فرصةً للنأي بسورية عن إيران وترجيح كفتها في ميزان القوى. ولكن في مطلع 2012، بدا أنها عاجزة عن تكرار ما جرى في ليبيا واستمالة دعم مجلس الأمن لإصدار قرار ضد الأسد. فبدأت تركيا ودول عربية بتسليح الانتفاضة السورية. وعلى رغم أنها أخفقت في إسقاط الأسد، وجدت الدول هذه الحرب في سورية فرصة لاستنزاف حليف إيران. وأدى دعم الثوار السوريين إلى نتائج كارثية، ونفخ في وتيرة العنف من دون حل يلوح في الأفق. وعلى رغم أن المسؤولية عن شطر كبير من الفظاعات المنظمة والعنف تقع على الأسد، ساهم داعمو المعارضة الخارجيون في تأجيج الحرب، على رغم أثمانها البائنة والباهظة. فبنى سياسة المنطقة الجديدة حتمت الإخفاق لا محالة. ففي كل مرة أفلح الثوار في التقدم، تدخلت قوى خارجية - إيران، «حزب الله» وروسيا - لترجيح كفة الأسد. ولكن القوى المتنافسة في سورية لم تكن على القدر ذاته من المهارة في الحروب بالوكالة. فالقوى التي تدعم الأسد تتصدر أولوياتها دعم نظامه. فالإيرانيون برعوا في فن دعم الميليشيات المحلية، وغالباً ما كانت تحت إشراف الحرس الثوري. وعلى خلاف إيران، كانت دول عربية وتركيا مبعثرة الصفوف. فهي حليفة ومتنافسة في وقت واحد. ولم تكن تنسق مساعيها، فحصدت خلاف ما تشتهيه (نتائج عكسية). وسعت أميركا في حمل الفصائل السورية المتباينة على التعاون، غير أنها أخفقت في تجاوز النزاع الداخلي بين الرعاة وفي إرساء استراتيجية متماسكة. وفاقمت المشكلات هذه «خصخصة» تدفق السلاح والمال على المجموعات المتمردة في أيام مصيرية من نهاية 2012 ومطلع 2013. ومع دوران آلة الحرب، نقلت دول عربية وتركيا دعمها إلى تحالفات إسلامية راديكالية في مسعى إلى العثور على مقاتلين أشداء وفعالين. وبرز «داعش» في هذا الجو، ولكنه لم يكن قوة وكيلة عن دولة من الدول بل قوة تمرد متكيفة مع ما آلت إليه الأمور في سورية.

* عن «فورين أفيرز» الأميركية، 9-10/2018، إعداد منال نحاس