| | Date: Aug 24, 2018 | Source: جريدة الحياة | | تهمة «العداء للسامية» في ذاكرة اليسار الأوروبي - وليد محمود عبدالناصر | تهمة «العداء للسامية» في ذاكرة اليسار الأوروبي
عادت إلى الواجهة في أكثر من مناسبة في الآونة الأخيرة اتهامات تطلقها وسائل إعلام أو منظمات غير حكومية في بلدان أوروبية أو غربية بصفة عامة أو غير ذلك ضد زعماء أو شخصيات مجتمع مدني أو نقابيين أو مثقفين أو فنانين في تلك البلدان ذاتها أو في بلدان أوروبية أو غربية أخرى بـ «العداء للسامية» على خلفية أقوال تفوه بها أو أفعال أتى بها هؤلاء في مناسبة أو أخرى أو على خلفية حدث دولي أو إقليمي أو محلي ذي صلة، وفي بعض الأحوال بنيت هذه الاتهامات على مجرد الأخذ بتفسير معين لهذه الأقوال أو الأفعال.
وقد طاولت تلك الاتهامات على وجه الخصوص زعامات وقيادات وكوادر ورموزاً وشخصيات تنتمي لليسار الأوروبي بأطيافه المتعددة وفروعه المتنوعة، وفي عدد ليس بالقليل من البلدان الأوروبية، سواء وجهت تلك الاتهامات إلى قادة أو مفكرين أو إعلاميين أو مثقفين أو ناشطين في دوائر المجتمع المدني أو غيرهم، فرادى في بعض الحالات أو مجتمعين في حالات أخرى.
وربما كان من أبرز الحالات في الآونة الأخيرة التي شهدت تجدد هذه الاتهامات وإلقاءها جزافاً أو التلويح بها على أقل تقدير كان حالة زعيم حزب العمال البريطاني وزعيم المعارضة في المملكة المتحدة جيريمي كوربين وعدد من قيادات وكوادر الحزب ورموزه أو من كبار الشخصيات المتعاطفة معه في المشهد المجتمعي البريطاني، وذلك على خلفية تصريحات صدرت عن بعض هؤلاء وكتابات صدرت عن بعضهم الآخر انتقدت ممارسات للحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة.
والواقع أن هذه الاتهامات ليست جديدة على اليسار البريطاني، ولا على اليسار الأوروبي أو الغربي في شكل عام، حيث سبق أن تكررت في أكثر من موضع وفترة زمنية، ولكنها على رغم ذلك تثير الاستغراب والدهشة.
أما أن هذه الاتهامات ليست جديدة فذلك لأنها طاولت من قبل رموزاً لليسار الأوروبي في مناسبات عدة وعلى فترات تاريخية ممتدة زمنياً، كما أنها لم تقتصر على بلد أوروبي من دون آخر، وكانت تلك الاتهامات أو التلويح بها في العديد من الحالات إما متسمة بالمغالاة والمبالغة أو حتى في بعض الأحوال متصفة بالادعاء والزعم، وفي حالات ثالثة سادها طابع السعي لابتزاز لهذه الشخصيات.
وتستحضر الذاكرة التاريخية من وقائع الماضي حالة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، والذي جاء من موقعه في زعامة الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى قصر الإليزيه عقب الانتخابات الرئاسية عام 1981 ليبقى لولايتين رئاسيتين متتاليتين كان إجماليهما في ذلك الوقت، وقبل تعديلات طرأت لاحقاً على الدستور الفرنسي، أربعة عشر عاماً. وعلى رغم أن ميتران وصل إلى الحكم وسط تخوفات عربية من مواقف فرنسية مستقبلية قد تتراجع عن الإرث الفرنسي الديغولي المتواصل الداعم للحقوق العربية، بخاصة الفلسطينية، منذ حرب الأيام الستة في حزيران (يونيو) 1967، وهي تخوفات غذاها لدى البعض كون زوجته «دانييل» يهودية، كما عززها لدى البعض الآخر أنه اختار لرئاسة أول حكومة في مطلع ولايته الأولي الاشتراكي (اليهودي أيضاً) لوران فابيوس. كما أن الحزب الاشتراكي الفرنسي كان آنذاك عضواً نشيطاً، بل وقيادياً، في رابطة أحزاب «الدولية الاشتراكية»، وفي هذا السياق كان يحتفظ بعلاقات وثيقة، بل وقوية، مع حزب العمل الإسرائيلي، الذي كان بدوره عضواً نشيطاً في تلك الرابطة نفسها، وهو الأمر الذي زاد بدوره من تلك المخاوف لدي بعض الأطراف العربية في ذلك الوقت.
إلا أنه سرعان ما تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال بعد تولي ميتران المسؤولية الرئاسية الفعلية، فقد واجه واقعاً معاشاً وتطورات متلاحقة، بل ومتسارعة، على الأرض لم يكن يملك معها إلا التعامل من موقع رجل الدولة من جهة والتفاعل بمنطق اليسار الذي يعلي من شأن قيم العدالة من جهة أخرى، حتى وإن كان الحزب الاشتراكي الفرنسي يمثل يسار الوسط، بخاصة أن الرئيس الراحل ميتران وحزبه الاشتراكي كانا، خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، في حالة تحالف برلماني وحكومي مع الحزب الشيوعي الفرنسي بزعامة جورج مارشيه آنذاك، وهو الحزب صاحب التاريخ في التعاطف مع القضايا العربية في شكل عام ودعم الحقوق الفلسطينية على وجه الخصوص على مدار سنوات طوال.
وكان على الرئيس الفرنسي الراحل ميتران فور توليه مهام منصبه الرئاسي لعب دور فعال، يليق بمكانة وتأثير فرنسا في ذلك الوقت داخل الاتحاد الأوروبي، ودورها القيادي في الاتحاد مع ألمانيا، في بلورة مواقف أوروبية واضحة تجاه مسألتين مهمتين للغاية، ألا وهما الحوار مع العالم العربي الجار عبر البحر الأبيض المتوسط من جهة وأيضاً، وبما لا يقل أهمية، تجاه القضية الفلسطينية وتحولاتها وتداعياتها التي لم تعرف طعم الهدوء، خصوصاً منذ حرب السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973، من جهة أخرى، وذلك بدوره على خلفية تطورين مهمين سابقين على وصول ميتران للسلطة، أما أولهما فتمثل في إطلاق حوار عربي- أوروبي في عام 1974، ليس فقط على خلفية حرب تشرين الأول (أكتوبر) في حد ذاتها ولكن على خلفية أزمة النفط المصاحبة للحرب والمرتبطة بها والتي تأثر بها الغرب كثيراً، خصوصاً بلدان أوروبا الغربية الداعمة لإسرائيل في ذلك الوقت، وأما الثاني فكان تبني الاتحاد الأوروبي عام 1980، أي العام السابق مباشرة لوصول الرئيس الفرنسي الراحل ميتران لسدة الرئاسة في بلاده، لما سمي آنذاك بـ «إعلان البندقية»، والذي كان بمثابة أول مناسبة يصدر فيها إعلان رسمي جماعي عن دول أوروبا يتضمن الحديث في شكل واضح وصريح عن حتمية حل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية، على أن تكون الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة، والدعوة كذلك في الإعلان نفسه إلى حتمية الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كافة الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام الست في حزيران (يونيو) 1967، وذلك كسبيلين لبناء سلام آمن ودائم وشامل بين إسرائيل وجيرانها العرب، بمن فيهم الفلسطينيون.
ولكن التطورات المتلاحقة على الأرض أيضاً لم تترك مجالاً للرئيس الفرنسي الاشتراكي الجديد سوى استمرار السعي لتبني مواقف متوازنة تحفظ لفرنسا واليسار الفرنسي مواقفهما التاريخية المتعاطفة مع اليهود، خصوصاً منذ ما بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي وانتهاء الحرب العالمية الثانية من جهة، وكذلك من جهة أخرى تأكيد مواقف فرنسا واليسار الفرنسي المبدئية من الحرص على تطوير علاقات فرنسية عربية وأوروبية عربية قوية ومزدهرة ومتطورة تلبي مصالح الطرفين الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية من جانب، وكذلك من جانب آخر الالتزام بقرارات الشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن والأجهزة المعنية الأخرى للأمم المتحدة مثل الجمعية العامة التي هي محل توافق دولي وذات صلة بإيجاد تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبما يتواءم مع اعتبارات الاهتمام الأوروبي بتحسين العلاقة مع العالم العربي، وكذلك تركيز اليسار الأوروبي، بما فيه الفرنسي، على منح الأولوية لاعتبارات العدالة، ذات الأولوية القصوى لدي اليسار بمختلف أطيافه، وإن بدرجات مختلفة، لدى تسوية القضية الفلسطينية.
وفي هذا الإطار، جاء الغزو الإسرائيلي الشامل للبنان في صيف 1982 ليقلب كل الموازين ويربك كافة الحسابات، فأحد لم يتوقع آنذاك غزواً إسرائيلياً شاملاً للبنان وصل إلى حد حصار العاصمة بيروت لأسابيع، وذلك بعد أقل من أربع سنوات على غزو إسرائيلي محدود أعقبه احتلال جزئي طاول الجنوب اللبناني. أما الغزو الشامل عام 1982 فقد دفع باللاعبين الإقليميين والدوليين كافة إلى مراجعة أوراقهم وتقديراتهم، ولم يكن هناك مناص من جانب المجتمع الدولي من التعامل بكل جدية وصرامة مع هذا الحدث، ووجد الأوروبيون أنه ملقى على عاتقهم في شكل خاص عبء كبير نظراً لمواقف الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان المؤيدة تماماً لما فعلته إسرائيل في ذلك الوقت، ومن المواقف الهامة الصادرة من الجانب الأوروبي آنذاك الإدانة الواضحة والصريحة من جانب فرنسا «الميترانية» للغزو الإسرائيلي ولاستمراره وللاحتلال ولبقائه لاحقاً في الجنوب اللبناني عبر ترتيبات إسرائيلية من جانب واحد. وبالطبع يتعين أن نتذكر هنا خصوصية العلاقات التاريخية والثقافية التي تربط بين فرنسا ولبنان والتي شكلت دافعاً إضافياً للرئيس الفرنسي الراحل ميتران لتبني مواقف داعمة للبنان في مواجهة الغزو الإسرائيلي آنذاك.
وكان من شأن تلك المواقف أن تفتح على الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران أبواب جهنم، ورأينا تحول الأقدار، وفاجأتنا الاتهامات التي تكال له من دوائر داخل فرنسا وخارجها، تتهمه بـ «العداء للسامية»، على رغم كل مواقفه السابقة المؤيدة لبقاء وسلامة وأمن، بل وقوة، إسرائيل، وذلك لمجرد إعلانه مواقف وتبني سياسات مناهضة للغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال أجزاء من أراضيه والمطالبة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من كافة الأراضي اللبنانية وعدم التدخل في الشأن الداخلي اللبناني، وقد كيلت هذه الاتهامات له على رغم أنه أكد في الوقت ذاته ضرورة التوصل إلى ترتيبات من شأنها ضمان أمن حدود إسرائيل مع لبنان وعدم تعرضها لتهديد أمني أو عسكري من داخل أراضيه في المستقبل.
وفي ضوء هذا المثال التاريخي الذي مضى عليه الآن أكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمان، فلا عجب ولا غرابة في الاتهامات التي طاولت جيريمي كوربين ورفاقه في حزب العمال البريطاني من ناحية، وصدق المثل العربي القائل بأنه ما أشبه الليلة بالبارحة من ناحية أخرى، فالتاريخ كثيراً ما يكرر نفسه، ولو بصيغ متنوعة أو أشكال مختلفة، ومع تغيير هنا وتبديل هناك، ما بين زمن وآخر ومكان وآخر.
* مفكر وكاتب مصري | |
|