| | Date: Aug 14, 2018 | Source: جريدة الحياة | | تظاهرة الفلسطينيين في تل أبيب: الدلالات والتأثيرات - ماجد كيالي | ما حصل يوم السبت (11/8) كان حدثاً في غاية الأهمية، من الناحيتين التاريخية والسياسية. عشرات الألوف من الفلسطينيين، من الجليل والساحل والمثلث والنقب، أتوا إلى تل أبيب، للتظاهر ضد قانون «القومية اليهودية»، الذي يجعل من فلسطين «أرض إسرائيل»، ويمنح لليهود فقط، من كل أنحاء العالم، الحق الحصري بتقرير المصير في «دولة إسرائيل»، علماً أن إسرائيل تلك ليس لها دستور، وليس لها أي تعريف لحدودها الجغرافية. ومعلوم أن القانون المذكور (كنا تحدثنا عنه قبل أسبوعين، «الحياة»، 31/7)، يستهدف الشعب الفلسطيني كله، فهو ليس فقط يخرج فلسطينيي 48 من دائرة المواطنة، وإنما هو، أيضاً، يسلب الفلسطينيين في الضفة وغزة حق تقرير المصير، ويحرم اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى أرضهم التاريخية، وهي أمور قديمة من الناحية العملية، لكن الجديد فيها أن إسرائيل تريد أن تكرسها نظرياً أيضاً، في قوانين دستورية، باعتبارها أنها باتت في وضع يسمح لها بتشريعها صراحة، في ظل الظروف الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية والدولية السائدة.
بيد أن هذا القانون أدى إلى خلق تفاعلات أو ردود فعل، على أكثر من صعيد، يمكن ملاحظة تأثيراتها ودلالاتها في المجالات الآتية:
أولاً، بينما أطاح القانون المذكور، جملة وتفصيلاً، كل خيارات التسوية، وضمن ذلك اتفاق أوسلو (1993)، وبيّن أن إسرائيل إنما تتوخّى إبقاء الكيان الفلسطيني عند حدود سلطة ذاتية على السكان، فقط، وتالياً تكريس هيمنتها على كل فلسطين التاريخية، إلا أن ذلك، من الناحية المقابلة، خلق ردّة فعل مختلفة، إذ عزّز إدراك الفلسطينيين لأنفسهم باعتبارهم شعباً واحداً، بقضية واحدة، ومصير واحد، بغض النظر عن خصوصيات وأولويات كل تجمع من تجمعاته والمكانة القانونية له، وذلك بعد أن بات يظهر كأن الفلسطينيين أضحوا في مثابة «شعوب» متعددة، بقضايا مختلفة، وتالياً لذلك فإن هذا الحدث أعاد الاعتبار الى التطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين بعد أن تم فكّ هذا الترابط في المعادلات السياسية المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لا سيما بعد إقامة كيان السلطة في الأراضي المحتلة (1967).
ثانياً، أعاد هذا الحدث إمكان وجود قواسم مشتركة بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين المعادين للصهيونية، ولإسرائيل الاستيطانية والعنصرية، وهذا أمر بالغ الأهمية في كفاح الفلسطينيين المرير والطويل، خصوصاً بحكم ضعف إمكاناتهم، وضعف الإطار العربي المساند لهم، لا سيما أن الفلسطينيين لا يواجهون مجرد دولة استعمارية أو جيش لدولة استعمارية، وإنما يواجهون جيش هذه الدولة ومجتمعها، لذا فإن العمل على بلورة تيارات مناهضة للعنصرية والاستيطان، وللفكرة الصهيونية، هو أمر على غاية في الأهمية، في الكفاح ضد إسرائيل، وهو ما أثبتته تجربة النضال ضد العنصرية سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في جنوبي أفريقيا. وربما يفيد التنويه هنا بمشاركة منظمات يهودية في التظاهرة المذكورة، على رغم أن أجندة كل واحدة منها تختلف عن الأخرى، وضمن تلك المنظمات، حركة «السلام الآن» و»أطباء من أجل حقوق الإنسان» و»قوة للعمال»، إضافة إلى أكاديميين ومثقفين وفنانين وصحافيين إسرائيليين.
ثالثاً، حدث التظاهرة في تل أبيب، ورفع الأعلام الفلسطينية فيها، جاءا ضمن حملة إسناد واسعة، من الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة، تعبيراً عن إسنادهم للجزء الباقي من شعبهم في أرضه التاريخية، وتعبيراً عن نهوض الوطنية الفلسطينية، بعيداً من الطائفية والمناطقية والفصائلية، وهو الأمر الذي جرى تتويجه أو تمثله في النداء الذي وجهه مئات المثقفين والأكاديميين والكتاب والفنانين الفلسطينيين، في أماكن وجودهم كافة في حيفا ويافا وعكا والناصرة والجليل والنقب، وفي الضفة وغزة، وفي بلدان اللجوء والشتات، و»الذي تضمن خمس نقاط، أولاها تتعلق بإسناد تظاهرة يوم 11/8. وثانيتها، دعوة النواب العرب أعضاء الكنيست إلى تعليق أعمالهم جماعياً فيه. وثالثها، تعزيز مكانة «لجنة المتابعة العليا» والعمل على إعادة بنائها وهيكلتها على أسس ديموقراطية والانتخابات، وصولاً بحيث تصبح برلماناً يحتضن ويدافع عن الحقوق الجماعية للفلسطينيين في الداخل، وكأداة عمل مع القوى اليهودية - الإسرائيلية الديموقراطية والمعادية للصهيونية والعنصرية. ورابعها، رفض ومقاومة أي محاولة إسرائيلية لسلب الهوية العربية، أو إزاحة اللغة العربية... وتأكيد حضور اللغة العربية في الحيز العام. وخامسها، المبادرة إلى إيجاد إطارات عمل مشتركة للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة في فلسطين التاريخية وفي بلدان اللجوء والشتات، بعيداً من المناطقية والحزبية والفصائلية والأيديولوجية والطائفية... مع تأكيد التمسك بمنظمة التحرير ككيان معنوي موحد وقائد لكفاح شعب فلسطين، على قاعدة إعادة بنائها على أسس وطنية وتمثيلية وديموقراطية».
وفقاً لهذه الدلالات، وبغض النظر عن المبالغة أو التقليل مما حدث، فإن ما جرى هو أمر مهم، وخطوة أولى، يفترض البناء عليها واستثمارها، لفتح أفق كفاحي وسياسي جديد للفلسطينيين، على ضوء مراجعة ونقد تجربة نصف قرن من الصراع مع إسرائيل، بما لها وما عليها، لا سيما أن المفاهيم والأدوات والبنى الفصائلية السابقة، لم تعد تنتج، أو تفيد شيئاً، في الظروف والمعطيات السائدة.
في الحديث عن الحدث المذكور، أي تظاهرة تل أبيب، يمكن التكلّم عن سلبيات عدة، أولاها، ضعف التوافق بين القوى الحزبية العربية (الجبهة، التجمع، الحركة الإسلامية، الحركة العربية للتغيير، أبناء البلد)، فثمة انقسام مؤسف على قضايا كثيرة، على رغم أنهم يواجهون عدواً واحداً، ومشكلات واحدة، إذ ما زالت المصالح الفصائلية، والعقليات الأيديولوجية، والحساسيات الشخصية تغلب على المصلحة العامة، ولا توجد إطارات ضغط جماهيرية للضغط لفرض رؤى موحدة. ثانياً، حتى الآن لا يوجد توافق بين الطبقة السياسية لفلسطينيي 48 بخصوص مكانة العضوية في الكنيست، تعليق أو تجميد أو إنهاء العضوية أو إبقاء العضوية، ما يضعف من قوة أو مكانة الثقل العربي في الضغط على إسرائيل، وفضح صورتها على الصعيد الدولي. ثالثاً، ثار جدل غير مفيد في شأن رفع علم فلسطين في التظاهرة، وهذا أمر لا معنى له، إذ من حق أي كان أن يرفع علمه، وعلم فلسطين هو رمز لشعب فلسطين، ولهويته الوطنية، والخضوع للابتزاز الإسرائيلي لا يفيد شيئاً، سوى في قبول الإملاءات أو الروايات الإسرائيلية، فحتى القوى اليهودية المعادية للعنصرية والمؤمنة بالمساواة تدرك ذلك، أو يفترض أن تدرك ذلك. وهذا ما قاله محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا، بتأكيده: «إن علم فلسطين هو علم الشعب الفلسطيني المظلوم. هو العلم الذي يحاولون من خلال قانون القومية إزالته من التاريخ ولكنه راية شعب فخور». وفي السياق نفسه، يقول د. أسعد غانم الأستاذ في جامعة حيفا: «هذا علمنا ويجب أن يتعودوا عليه... إذا رفع بعض الشباب العلم يجب أن نرى بذلك تعبيراً عن حق أساسي... قبول الخطاب القومي اليهودي والدفاع عنه وحالة التنصل من العلم من بعض القيادات، خصوصاً بعض ممثلينا في الكنيست، يجب أن تنتهي... ارفعوا قاماتكم قليلاً!!!! شعبكم قوي ومعكم، فلا تخذلوه». رابعاً، بدا واضحاً أنه لا يوجد يسار واحد، فثمة يسار صهيوني، يخشى على إسرائيل من الفضيحة، ويسار يناهض العنصرية لأنها عنصرية وجريمة ضد الإنسانية، وهذا التيار يفترض توسيع المشتركات معه، في النضال ضد إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، يقول ألون مزراحي: «اليسار الصهيوني ليس غاضباً من التمييز بل من تشويه صورة دولته. عندما يبكي ممثلو اليسار الصهيوني بسبب قوانين التمييز، فهم لا يبكون على مصير الفلسطينيين، بل هم يذرفون الدموع على تقليص مجال المناورة، الذي يمكّنهم من دعم (بالصمت أو بالفعل) الابرتهايد، وفي الوقت نفسه يظلون يحظون بالهالة السائدة في المعسكر الديموقراطي. إذا كان هناك أصحاب ضمير ومحبون للحقيقة في أوساط الجمهور اليهودي في إسرائيل، يجب عليهم أن يهبّوا للنضال ويعلنوا «نحن لا نستطيع العيش تحت نظام تمييزي. نحن لا نستطيع أن نخدمه، أو نتماهى معه، ليس لأنه يمسّ بصورتنا، بل لأنه يمسّ كرامتنا الإنسانية والمبادئ المقدسة لنا وببني البشر أمثالنا. من يريدون معارضة الفاشية في صورة ناجعة، يجب عليهم استجماع الشجاعة ورمي الامتيازات في القمامة ورؤية الظلم الحقيقي والقسم لأنفسهم: إما المساواة أو لا شيء». («هآرتس»، 12/8). | |
|