Date: Jul 10, 2018
Source: جريدة الحياة
«لخبطة» الوضع السوري في لجنة سوتشي - عادل يازجي
معظم القراءات السياسية للتغيُّرات الميدانية لايمكن الركون إليها، فقد تكون ظواهرها مُخادِعة لتعدد الاحتمالات فيها، وما يرشح عن مُختبر ترامب في مساوماته البراغماتية، والخط الساخن بين البيت الأبيض والكرملين لا تُقرأ فيه نتائج ملموسة واضحة، في زحمة مساومات دولية مُريبة حول التصعيد الميداني في الجنوب الملتهب، والشمال المتأهب للالتهاب.

لجنة سوتشي الدستورية جاهزة وتنتظر، النظام يرفضها عندما يتقدم ميدانياً، ويجامل الراغبين فيها عندما يشتدّ الضغط عليه، والمجتمع الدولي أساساً لم يكن مقتنعاً بها، ثُمّ اقتنع، وعراقيل إعلانها مسألة لوجستية، لا ترقى إلى مستوى الخط الساخن، الذي فعّله تصعيدُ النظام وروسيا في الجبهة الجنوبية وتصاعد ضغط واشنطن ليس لإيقاف تصعيد النظام كما كان مُتوقعاً، بل لإبعاد إيران من الجنوب عاجلاً، ومن سورية كلها لاحقاً، وهذا لا تكفيه مساومات الخط الساخن، إذ لا بُدّ من ضبط شطحات ولايَتَيْ الفقيه الإيرانية والتركية داخل الحرم السوري. واشنطن يرهقها ردع الفقيه التركي حليفِها المتمرّدِ عليها وعلى حليفها الكردستاني في الشمال، وموسكو يرهقها أكثر ردع الفقيه الإيراني الحليف المتمرد عليها فوق كامل التراب السوري. وكلاهما لا يبوح بما يكابده مع حليفه، وربما تسربت أبعادُه السياسية، وليس اللوجستية، عبر الخط الساخن الذي أسفر عن سكوت واشنطن تجاه التصعيد في الجنوب، بينما «جبهة النصرة» تقوم بترتيب بيتها الداخلي في إدلب، لإقلاق راحة موسكو عندما تعود أنقرة إلى حضن الناتو، وحالياً تجدد نفسها على الطريقة الأردوغانية الإخونجية، بدعم تركي قطري تأهُباً لمعركتها مع النظام وموسكو التي لم تبدأ بعد، ويصعب التكهُّن بعدم حدوثها لأنّها ستفتح آفاقاً جديدة أمام الاستثمارات السياسية الإقليمية والدولية؟

تأخّر كشف النقاب عن اللجنة الدستورية احتراماً لازدحام المساومات الميدانية والسياسية من الشمال إلى الجنوب، المساومات في الشمال أميركية تركية فرنسية إيطالية، وفي الجنوب أميركية روسية إسرائيلية إيرانية أردنية، والنظام يرصد ويستعدّ للحظةٍ سياسية يمكن استغلالها ميدانياً لإعادة إمارة إدلب إلى بيت الطاعة، والمهمّ ليس تشكيل اللجنة بل عملها، إذا عُقدت، وبلا أدنى شكّ ستكون مسالك عملها وعرةً مليئةً بالمطبات، وقد يحتاج تذليلها إلى مساعدة ميدانية من «داعش» أو «النصرة»، أو كليهما معاً!

المجتمع الدولي لم يطرح تغيير النظام إلاّ للمناورة حول المسائل الخلافية في خريطة المصالح السياسية وتوابعها، والنظام مطمئن إلى بقائه، ويناور للإمساك بزمام توجهات اللجنة الدستورية، بمساعدة موسكو الحريصة على عدم إفساح المجال لأيّ تمرد على رغبته، سواء في تشكيل اللجنة أو في صياغة بنود دستورها، والنظام لا تنقصه الخبرة في خلق الثغرات أو سدّها، والخروج منها منتشياً، فالدستور، جديداً كان أم معدّلاً، سيعتمد إمّا فلسفة الرتوش التي يطرحها النظام بصيغة الوحدة الوطنية، أو فلسفة الرتوش الديموقراطية الروسية لسد الذرائع الأممية، وفي أيٍّ من الصيغتين لم تحسم الخلافات حول سيطرة «الدولة» على ما ليس تحت إمرة النظام وتحديداً في الشمال والشرق، إذا حُسم نهائياً وضع الجنوب على الحدود مع الأردن.

إعلام النظام مُمَثَّلٌ في اللجنة الدستورية، والإعلام المعارض في الخارج يشكك في اللجنة من أساسها، والإعلاميون الذين طردوا أنفسهم من إعلام النظام، ومن إعلام معارضيه، هؤلاء يشكّون بوجود أيّ متنفس لحرّية الكلمة في قرارات هذه اللجنة باعتبارها سياسية أكثر منها قانونية، فالجميع من الجانبين متأهّبون لتفاوض عقيم في نقطة سياسية محددة، لا يستطيع التكنوقراط القانوني حسم الخلاف حولها، وصيغتها النهائية ستقرر كمية الرتوش الديموقراطية الممكنة.

حرية الكلمة في بلادنا العربية لا تُمنح بل تُؤخذ، إمّا عنوة، أو بالتسلل بين بنود القوانين، وهي غير مؤهلة للاصطدام بالعقل الرقابي المغلق المُسوّر بلا أيِّ مساحة اجتهادية يمكن استثمارها في نقاش سياسي مفتوح.

من المؤكد أن الحرية وشقيقتها الديموقراطية غير مرغوب فيهما لدى البراغماتية السياسية العربية منذ أقدم العصور الى يومنا هذا، ومصطلح الحرية مالم يتسلل تحت مظلّةٍ ما، فلن يكون له أيّ حضور مُعلن، أو مُضمر في لجنة مؤدلجة يسعى كل جانب فيها الى شد اللحاف نحو الطرف الذي يمثّله، فتخرج الشمولية من الباب، لتدخل من النافذة! والعهدة على قوة تأثير المجتمع الدولي فيها من خلال موسكو، وما عدا ذلك غير مقدور عليه، ولن يمرّ عبر الخط الساخن بين البيت الأبيض والكرملين.

قبل 2011 اقتصرت طروحات المعارضات السياسية العربية على مسألة الديموقراطية، وهذه الطروحات لم تكن تشغل بال السلطات الحاكمة، وعندما هجمت عواصف الربيع عليهم، استنفروا في وجهها كل طاقاتهم، وفي توجُّهٍ دفاعي مرتبك قرّر بعضهم الإمساك بطرف خيط ديموقراطي للتلويح به امام معارضيهم، هذا مافعله النظام السوري الذي سارع الى إعادة النظر فوراً في مسائل ثلاثٍ: الدستور، وحرية الإعلام، والتعدد الحزبي بديلاً من سيطرة الحزب الواحد؟ قبل الانشقاقات العسكرية، وقبل ظهور التنظيمات الإرهابية، وأراد منها ان تشكّل استباقاً سلطوياً لانفتاح يسد به ذرائع التظاهرات المطالبة بالحرية. إيحاءاته، كانت تعلن استعداده لقيادةِ تغييرِ ذاتِهِ، لكن ارتباك الوسط الموالي والمُعارض والحراك الجماهيري المتصاعد، تجاهل وربما لم يلحظ إيحاءات النظام، ولم يناقش معه صدقيتها، ففشل هذ التوجّه في تنفيس الاحتقان، فاتّجه النظام الى السلاح وكان ماكان.

الخط الساخن حرّك عواصف سياسية لن تهمد حتى بلقاء الرئيسين بوتين وترامب، وربما تحولت الى أعاصير سوبر سياسية، طالما رُفع من التداول أميركياً وأممياً تغييرُ النظام، وبالتالي لن يكون باستطاعة اللجنة الدستورية أن تفتح النوافذ للشمس.

* كاتب سوري