Date: Jun 28, 2018
Source: جريدة الحياة
تحديات اللامركزية التونسية: نقل السلطة الفعلية إلى الأطراف - سارة يركيس ومروان المعشّر
دراسة سبقت الانتخابات المحلية واستشرفت مستقبل العمل المحلي
ثمة الكثير من التحديات، البنيوية واللوجستية والنفسية، التي لا تزال تقف حجر عثرة في وجه اللامركزية في تونس. أضخم التحديات اللوجستية هي أن قانون السلطات المحلية، المعروف في تونس بـ «مجلة الجماعات المحلية»، والذي يتحكّم بعملية اللوجستية بقضّها وقضيضها (القانون الأساسي الرقم 48 للعام 2017)، لم يُقر في البرلمان إلا في 26 نيسان (أبريل) 2018، أي قبل 10 أيام فقط من الانتخابات البلدية.

وقد أعرب العديد من نشطاء المجتمع المدني عن قلقهم من أن هذا القانون لن ينضج بما فيه الكفاية قُبيل الانتخابات في شكل يسمح للمرشحين بفهم ماهية أدوارهم، ويمكّن الناخبين من هضم ماذا ينتخبون. وهذا القانون، الذي هو الأطول والأعقد في تاريخ تونس، يحل محل قانون الحوكمة البلدية القديم الذي لم يعطِ المسؤولين المحليين «سلطة فعلية تتمتّع باختصاصات ذاتية واستقلالية مالية أو إدارية»، على حد تعبير الصحافية التونسية هيفاء ذويب.

ثمة تحدٍّ بنيوي آخر هو أن البلديات الـ86 الجديدة (من أصل 350 بلدية) استُحدثت خلال تطبيق عملية اللامركزية ولا تزال «حبراً على ورق». والحال أن 18 في المئة من التونسيين باتوا يعيشون في إطار بلديات جديدة، فيما يقيم 58 في المئة داخل حدود بلديات ممتدة. وفي حين أن بعض هذه البلديات اشتُقّت من بلديات أكبر، وبالتالي لديها أصلاً موظفون فاعلون ومكاتب وميزانيات، إلا أنه من الصعب تزويد 350 بلدية بالموظفين وخلق ثقافة المجتمع الصغير في وقت قصير. وكما لاحظ ناشط في المجتمع المدني في سيدي بوزيد: من الصعب للغاية في معظم المناطق الريفية وضع الأنظمة المادية في مكانها، في شكل يسمح ببروز اتصال مباشر بين المسؤولين المحليين وبين المواطنين.

وأخيراً، اللامركزية هي عملية مديدة زمنياً، إذ تقدّر الحكومة بأن الأمر قد يستغرق 27 سنة لنقل السلطة بالكامل إلى المسؤولين المحليين، ولجعل البلديات ذات الأداء البائس على قدم مساواة مع بقية البلاد، الأمر الذي يُهدّد بتبديد الزخم. ولاحظ أحد المشاركين في ورشة عمل لكارنيغي وجود خشية من اللامركزية الجزئية، فيما الفشل في تطبيق اللامركزية الكاملة قد ينشر الفوضى ويعيق المحاسبة في كلٍّ من الحكومتين المحلية والمركزية. وقد كانت اللامركزية الجزئية مشكلة في بعض الحالات حول العالم: ففي البرازيل وباكستان وجنوب أفريقيا، مُنحت السلطات المحلية صلاحيات إدارية وحُجِبَت عنها الصلاحيات المالية، ما حرمها من القدرة على تفعيل وتجسيد قراراتها في مجال السياسة العامة.

الاعتناء بالتوقّعات

بدا واضحاً من المناقشات التي أجريناها مع المسؤولين ونشطاء المجتمع المدني داخل تونس العاصمة وخارجها، أن التوقعات تتباين بحدة حول ما يمكن أن تحققه اللامركزية للبلاد. فالمناطق التونسية المُهمّشة تاريخياً تحتضن توقعات عالية حيال المركزية (بأنها ستجلب المساواة وتوفّر توزيعاً أكثر عدلاً للموارد). بيد أن مثل هذه المحصلات ليست في الجيب. إذ حتى مع وجود نظام من التمييز الإيجابي، قد لا تتأثّر قضايا الضرائب وتوزيع الموارد، «لأن بعض المناطق المحلية ستجد من الأسهل عليها رفع وتيرة عائدات الضرائب في شكل كبير أكثر من غيرها»، بسبب توافر الموارد الطبيعية والبنى التحتية ومسائل أخرى لن تُحل في شكل سحري مع اللامركزية». ففي غانا، على سبيل المثال، لا ينجح سوى أولئك الذين يقيمون في بلدات كبيرة أو لديهم نفوذ سياسي خاص يمكّنهم من تطوير مناطقهم. وقد جرت الإطلالة على اللامركزية بكونها مسـألة علاقات عامة أكثر منها عملية حقيقية، ما أصاب الإرادة السياسية لفرض التغيير مقتلاً نتيجةً لذلك. وعلى العكس، نجحت أوغندا حيث فشلت غانا، بفعل التنسيق السليم بين الوزارات (بقيادة مكتب تابع للرئاسة)، في مجال بناء القدرات على مستوى النواحي (التي قام بها موظفون محليون درّبهم خبراء أجانب).

يتعلّق جزء من تدبّر أمر التوقعات، كما لاحظ تقرير للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) بأن «فوائد نقل السلطة يمكن أن تستغرق سنوات قبل أن ترى النور، لكن الأكلاف تتم في بداية العملية». صحيح أن خطة السنوات الـ27 التي وضعتها حكومة الشؤون المحلية محمودة وجاءت بعد سنوات طوال من التحضيرات (من ورش العمل والحلقات الدراسية في طول البلاد وعرضها، إلى المشاورات مع خبراء دوليين من 12 بلداً)، إلا أنه من غير الواضح ما ستقدّمه اللامركزية على المدى القصير لسكان المناطق الداخلية. وقد لاحظ وفد من سيدي بوزيد أن اللامركزية عملية بطيئة ستدوم عقداً، «ولذا لا يجب أن تكون التوقعات عالية للغاية، فهي ليست على وشك اجتراح المعجزات».

لم يتضح من خلال أحاديث مع أفراد في المناطق الداخلية أي نمط تغيير يريدون تحقيقه على المدى القصير، عدا السيطرة المحلية على شؤونهم الخاصة. وعلى رغم أن هذا هدف واقعي، إلا أنه لن يضمن التنمية الاقتصادية التي تحتاجها البلديات التونسية التي لطالما كانت مُهمّشة. وكما أظهرت تجارب أخرى، فإن الحكومات المركزية هي عموماً أكثر فعالية من الحكومات المحلية في توزيع الثروة وتخفيف وطأة التفاوتات الاقتصادية. وهكذا، وحالما تتحرّك اللامركزية قدماً إلى الأمام، وتتناقص بالمثل سلطة الحكومة المركزية للتدخّل محلياً، قد تتناقص بالمثل قدرة الحكومة على تحقيق العدل والمساواة بين المناطق.

يتعيّن على المسؤولين والسياسيين والمجتمع المدني أن يعتنوا بالتوقعات الشعبية المتعلقة بقدرة اللامركزية على تحقيق الحوكمة المحسّنة. وتقول هنا أحلام حشيشة شاكر، المديرة التنفيذية لمعهد السياسات العامة في حركة مشروع تونس، إن العامة لديهم توقعات عالية بأن الانتخابات المحلية ستحسّن ظروف مشاركة المواطنين. فمن خلال الانتخابات البلدية «يختار الناخب، بطريقة مباشرة، الأشخاص الذين يمثلونه محلياً، ويديرون الشأن العام بالنيابة عنه». لكنها تضيف: «أعتقد أننا نعطي هذه الانتخابات معانٍ أكثر مما هي عليه. فنحن نريد أن نعتقد أن هذه الانتخابات ستحل كل مشكلات المجتمع، وأنها بمثابة «ديموقراطية فورية» ستلد النموذج الجديد من الحوكمة الذي طال انتظاره». بيد أن مثل هذه المحصلات غير محتملة إلى حد كبير.

بناء الإرادة السياسية

أحد أهم المؤشرات التي تنبئ بنجاح اللامركزية، هي مستوى الإرادة السياسية على المستويين المحلي والوطني. ذلك أن الفرضية الأساسية لعملية اللامركزية، هي تحوّل السلطة من الدولة المركزية إلى المستوى المحلي. ولذا، يُحتمل أن تعارض البيروقراطية المُمركزة هذا «التهديد» لسلطتها وسيطرتها. يقول الباحث السياسي كينت إيتون إنه «في تشيلي والأورغواي، كان مسؤولو المناطق غائبين إلى حد كبير عن المفاوضات حول اللامركزية... وبالتالي كانت إجراءات اللامركزة محدودة للغاية، وحذرة، وتدريجية، على عكس المقاربات الراديكالية غالباً التي انتهجتها بلدان مجاورة».

الإرادة السياسية في تونس مُتوافرة، ولكن نظرياً فقط. فالدستور كرّس باباً كاملاً (الباب السابع، والفصول من 131 إلى 142) للحكومة المحلية. ويوصّف الفصل 12 عملية التمييز الإيجابي كالآتي: «تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، استناداً إلى مؤشرات التنمية واعتماداً على مبدأ التمييز الإيجابي». علاوةً على ذلك، ينص الفصل 14 على أن الدولة «تلتزم بدعم اللامركزية واعتمادها في كامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة». وهكذا، يتضح أن الدولة ملتزمة قانونياً باللامركزية، بيد أن بعض ناشطي المجتمع المدني والمحللين يشكّون بمدى التزام الطبقة السياسية بذلك.

ثمة مثل فاقع هنا هو التأجيل المتواصل للانتخابات البلدية (ناهيك عن عجز البرلمان عن وضع اللمسات الأخيرة على قانون السلطات المحلية قُبيل إجراء هذه الانتخابات). وقد قال المشاركون في ورشة عمل كارنيغي حول المجتمع المدني، إن اللامركزية ليس لها أنصار كثر، وأشار أحدهم إلى أن «أبدان السياسيين تقشعرّ خوفاً من اللامركزية، بسبب المخاطر التي قد تجلبها لسلطتهم. لذا، لا تروّج الأحزاب لها».

إضافةً إلى ذلك، يشكّك العديد من المواطنين بنوايا هذا المشروع، لأن وزارة الداخلية سيطرت على عملية اللامركزية. ويشعر بعض المسؤولين البلديين ونشطاء المجتمع المدني بالانزعاج مما أطلق عليه أحدهم تعبير «مركزية اللامركزية». ولاحظ ناشط في المجتمع المدني أن «المديرية العامة للسلطات المحلية في وزارة الداخلية، وضعت مسودة مجلة الجماعات المحلية الهادفة إلى تنفيذ اللامركزية. إنها هذه الوزارة أي السلطة المركزية التي تتخيّل اللامركزية... المركز تاريخياً سيطر على كل شيء ويجد مضاضة في التخلّي عن هذه السيطرة». وكرر مسؤول بلدي مثل هذه المشاعر حين قال إن قانون اللامركزية «وضعه أناس هم ضد اللامركزية... فوزارة الداخلية أعدّت المشروع... وطالما أنه لم يجر إصلاحه سيبقى تحت نيرها».

يشعر بعض المواطنين على وجه الخصوص بأن اللامركزية لن تفعل شيئاً سوى إعادة إنتاج الهياكل السلطوية التي ابتُلي بها عهد بن علي. وقال مسؤول بلدي: «المسألة هي كيف يقطع المشروع الجديد للامركزية مع إرث الدولة البوليسية والسلطوية، ويتجنّب الفوضى، ويضمن التنمية، وكل هذا كان على رأس مطالب الثورة».

حين يتم استحداث هياكل الحكومة المحلية، يكون ثمة ميل إلى استنساخ تنظيم الحكومة المركزية. وفي حين أن هذا يبدو أسهل خطوة إلى الأمام، إلا أنه يخاطر بإعادة إنتاج التوجهات السلطوية والشبكات الزبائنية، ويمكن أن يساهم في الفساد الجهوي. ولاحظت دراسة حول اللامركزية في العالم النامي أن «الطبيعة الأساسية للقطاع العام لا تتغيّر في شكل تلقائي حين يتم «لامركزة» هذا القطاع عبر قطع المراتب الدنيا من بيروقراطية الدولة عن المراتب العليا، وفي الوقت نفسه يجري استبدال «الرأس الكبير» في أعلى هرم الحكومة المركزية بـ «رؤوس كبيرة» في قمة كل إهرامات حكومة محلية». وقد أوضحت الأمم المتحدة أنه في بعض الحالات الأميركية اللاتينية، على سبيل المثال، «كانت إصلاحات اللامركزية موجّهة إلى التغلغل في شكل أفضل في المجتمع، ومراقبة المعارضة، وتعزيز استقرار الأنظمة السطوية». وأشار باحثون إلى أن الحكومات «غالباً ما تُطبّق خطوات اللامركزية كمجرّد تمثيلية مسرحية لاسترضاء المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية، أو للتأثير على القواعد الشعبية المحلية».

علاوةً على ذلك، وعلى الصعيد المحلي أيضاً، من الصعب توظيف كوادر مهنية والحفاظ على نوعية كفاءات عالية، لأن هؤلاء الموظفين يضعون نصب أعينهم الحصول على مواقع متميّزة في العاصمة. ولاحظت دراسة حول اللامركزية في تونس أن العديد من البلديات لا يتوفّر لديها حتى مهندس مدني أو معماري». ويوضح رئيس بلدية في التقرير نفسه: «نحن فقراء للغاية في مجال الإدارة العليا، ولدينا معدلات بائسة للغاية في مدى شغل الوظائف. وكل هذا له مضاعفات سلبية على تنفيذ المشاريع وتقدّمها... من يدقق ويراقب هذه المشاريع؟ نحن في حاجة إلى تقنيين».

بالطبع، الطاقة البشرية مسألة حاسمة للغاية. فالانتخابات البلدية ستجلب إلى المناصب آلاف المسؤولين الجدد الذين لا يتمتعون بخبرة إدارة المواقع العامة أو تسيير البلديات. وفي حين أن بعض المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية تخطط لإطلاق برامج تدريب لهؤلاء المسؤولين، إلا أنه سيكون تحدياً شاقاً للغاية أن يتم تدريب هذا العدد الكبير من المسؤولين على مهام الحوكمة، وبناء التوافق، والاتصال بالرأي العام، والعمل مع الحكومة المركزية. وما يفاقم من هذه الصعوبة الحقيقة أن قانون السلطات المحلية لم يُنشر بعد، ما يعني أن هؤلاء المسؤولين الجدد سيُمسكون بصولجان السلطة، من دون أن يتسنى لهم سوى النذر اليسير من الوقت للتدرُّب على مسؤولياتهم الجديدة، ناهيك عن تنفيذ هذه المسؤوليات بفعالية.

مكافحة الفساد

يمكن الأنظمة السياسية اللامركزية أن تكون أكثر عرضة إلى الفساد، بسبب الطبقات الإضافية من البيروقراطية التي في الوسع التأثير عليها. وقد وجدت منظمة الشفافية الدولية أن الدول الفيدرالية أكثر فساداً بوجه عام من الدول البسيطة، «حيث أن القيود من جانب أحد مستويات الدولة يزيد فقط التقاط (المنافع) في مرتبة أخرى». وحين نضع في الاعتبار أن مسؤولي المناطق طليقي اليد، نجد أنهم ينخرطون دائماً في ممارسات الفساد التي تقوّض الدولة. أما الأنظمة البسيطة فهي تحد من هذه الإمكانية. الهياكل المحلية تكون عادة أقل تطوراً من البنى الوطنية، ولذا الفساد فيها أيسر. فالمسؤولون فيها يحظون بالإجمال بتدريب ورواتب أقل، لأن أولئك الذين يحوزون على التعليم المطلوب والطموح يسعون للحصول على وظائف على المستوى الوطني. ومع توافر موظفين مهرة، تميل الهياكل الوطنية إلى أن تكون أكثر شفافية وعرضة إلى مساءلة المواطنين. إضافةً إلى ذلك، إن الثقة باللامركزية على أنها علاج للفساد يغفل احتمال إحكام النخبة قبضتها على موارد الحكومة المحلية. إذ «غالباً ما يفرط المسؤولون المحليون في تقديم الخدمات للنخب المحلية على حساب غير النخب»، ما يقوّض اللامركزية عبر إعادة إنتاج المشكلات الوطنية على المستوى المحلي.

دور الحكومة

في حين يتعيّن على مسؤولي ومؤسسات الحكومة المحلية والوطنية العمل معاً لجعل اللامركزية حقيقة واقعة، إلا أن الإرادة السياسية لدى الحكومة الوطنية هي أكثر العوامل حسماً لتحقيق النجاح. فالحكومة الوطنية يجب أن تقوم بدفع العملية قدماً في البداية، وتلتزم بنقل السلطة المالية والإدارية، وأن تقيم أيضاً فصلاً واضحاً بين السلطات على المستويات المحلية والوطنية. كذلك، يجب أن تكون الحكومة الوطنية رأس الحربة في الجهود الرامية إلى بث ثقافة التواصل المستمر والواضح بين المسؤولين على كل المستويات. وكما جادل تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن «تنفيذ اللامركزية المنظّمة في تونس، يعتمد على مدى قدرة البلاد على إقامة تنسيق فعال وأنظمة ضبط». بيد أنه يتعيّن أن تقوم الحكومة الوطنية في الوقت نفسه بحماية سلامة أراضي الدولة. ووفق ما لاحظه تقرير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية: «يجب على الحكومة الوطنية أن تكون قوية بما فيه الكفاية للدفاع عن الحريات المدنية، والحقوق السياسية وحكم القانون في كل أنحاء البلاد».

تتطلّب اللامركزية على المستوى المحلي تعاوناً نشطاً وتنسيقاً بين مختلف مراتب الحكومة المحلية (مثلاً بين رئيس البلدية والمجلس البلدي)، وبين مختلف الإدارات المحلية (مثل الصحة، والتعليم، والنقل). كما تتطلب التعاون بين المسؤولين المحليين من جانب، وبين القطاع الخاص والمجتمع المحلي الأعم، من جانب آخر. والدستور نفسه يطلب من السلطات المحلية العمل وفق مبادئ «الحوكمة الرشيدة» و «الحوكمة المفتوحة» و «مشاركة المواطنين والمجتمع المدني»، بيد أن هذه المبادئ ستبقى واهية ما لم يبتكر المسؤولون المحليون، كتفاً بكتف مع المجتمع المدني وبتشجيع من الحكومة المركزية، آليات لوضعها موضع التطبيق.

الحكومة الوطنية

إضافةً إلى منحها عملية اللامركزية برمّتها غطاء من أعلى، لدى الحكومة الوطنية ثلاثة أدوار تلعبها لدفع هذه العملية قدماً وهي: نقل السلطة بفعالية وإنصاف، وتطوير وسيلة فعّالة وعادلة لنقل المخصّصات، وضمان وجود قوة عاملة كفؤة على المستوى المحلي من خلال التدريب وتجهيز المسؤولين المحليين، وتحفيز الأشخاص من ذوي الأداء الأرقى على تسنّم مناصب في المناطق المهمّشة.

نقل السلطة الإدارية بفعالية وإنصاف

تحتفظ الحكومة الوطنية حتى في الدولة اللامركزية بسلطات راجحة. وفي تونس ستكون هذه الحكومة مسؤولة عن تحديد مدى السلطات والمسؤوليات التي ستتلقاها مختلف مستويات الحكومة المحلية. وهنا قد يكون النقاش الذي جرى حول مجلة الجماعات المحلية مشوّقاً ومثيراً للاهتمام. فأعضاء البرلمان تنازعوا بشدة حول دور الوالي الذي يُعيَّن مركزياً- في مقابل المستشارين البلديين المُنتخَبين. وينص الفصل 21 من مشروع القانون على ما يلي: «يتولى كل من رئيس الجهة ورؤساء المجالس البلدية والوالي باعتباره ممثلاً للسلطة المركزية بالجهة وضع آلية للتنسيق والتعاون بين البلديات والجهات والمصالح الخارجية للإدارة المركزية والمنشآت التابعة لها». وقد أبدى بعض الأعضاء توجسّهم من أن هذا القانون غامض للغاية ويخاطر بجعل الوالي يتعدّى على عمل المجالس المحلية.

أطلق الفصل 200، الذي يصف الظروف التي يمكن بموجبها حل المجلس البلدي، نقاشات عميقة. فبعض البرلمانيين جادلوا بأن المجلس البلدي يجب أن يُحل كليّاً إذا ما فشل في القيام بواجباته، فيما كان آخرون غير مرتاحين حيال مدى السلطة المعطاة إلى المسؤولين غير المنتخبين لحل المجلس.

ثم أن الفصل 264، الذي ينص على أنه يحق للوالي أن يباشر صلاحيات رئيس البلدية بنفسه أو أن يُكلِّف من ينوبه لهذا الغرض، إذا امتنع رئيس البلدية أو أهمل القيام بالمهام المُستوجَبة، كان على رأس بنود النقاش الأكثر التهاباً. فقد اقترح عضو أن يحاول المجلس أولاً حل المشكلة، على ألا يتدخّل الوالي إلا إذا عجز المجلس البلدي عن حل المشكلة. لكن هذا التعديل رُفض في نهاية المطاف.

توضح هذه النقاشات بجلاء أن الخلافات لا تزال قائمة على قدم وساق حول مدى السلطة التي يجب أن تُمنح للمسؤولين المحليين المنتخبين، وما الدور الذي يجب أن يلعبه الوالي المُعيَّن، وأيضاً مدى السلطة التي يجب أن تُناط بوزير الشؤون المحلية والبرلمان في مجال التدخّل في الشؤون المحلية. لكن، لكي تنجح اللامركزية، من اللازب تمكين المسؤولين المحليين بما فيه الكفاية كي يمثّلوا حقّاً قواعدهم الناخبة، وإلا فإن العملية تخاطر بإعادة إنتاج هياكل السلطوية السامّة ومعها الإجراءات التي ابتُلي بها عهد بن علي. كما أنها قد تساهم في مفاقمة فجوة الثقة المتّسعة على نحو خطِر بين الشعب التونسي وبين حكومته.

لمعالجة هذا الأمر، يجب على الحكومة الوطنية أن تُعطي الأولوية بسرعة لنقل السلطة إلى المستوى المحلي، كما يتعيّن عليها أيضاً أن توضح للرأي العام بجلاء حدود هذه السلطة. أما بالنسبة إلى التونسيين الذين يعيشون منذ عقود في ظل دولة شديدة المركزية، فإن النقلة الثقافية إلى اللامركزية والحوكمة المحلية ستستغرق وقتاً. لكن مثل هذه النقلة يمكن أن تكون أسلس إذا ما كان ثمة شفافية كاملة حول من يسيطر على ماذا، وماذا يمكن للمواطنين أن ينتظروا واقعياً من المسؤولين المحليين.

مستويات الحكومة

تتوزّع الحكومة المحلية على ثلاثة مستويات هي: الجهات والولايات والبلديات. يتولّى رئاسة الجهات الأربع والعشرين في تونس ولاة تعيّنهم الدولة المركزية. على رأس كل من البلديات الـ350 هناك رئيس بلدية، ينتخبه أعضاء المجلس البلدي لمدّة خمس سنوات، وتشمل مهامه أعمال التخطيط، والأمن العام، وحركة المرور، والإدارة البيئية. كما يعمل رئيس البلدية مع المجلس البلدي لتطوير خطة استثمار خاصة بالبلدية وفرض الضريبة البلدية. وقد كانت الإدارة العامة للجماعات العمومية المحلية، التي تشرف على البلديات، تابعة سابقاً لوزارة الداخلية، لكن جرى إلحاقها في العام 2016 بوزارة الشؤون المحلية والبيئة المُنشأة حديثاً.

تُشرف وزارة الداخلية على عمل ولاة الجهات، الذين يمثّلون الدولة المركزية، من خلال الإدارة العامة للشؤون الجهوية. وقد تم فصل كلٍّ من الإدارة العامة للشؤون الجهوية والإدارة العامة للجماعات العمومية المحلية عن الوزارة، ثم إلحاقهما بوزارة الشؤون المحلية والبيئة عند إنشائها في أيار(مايو) 2016. لكن في حزيران (يونيو) 2017، أُعيد إلحاق الإدارة العامة للشؤون الجهوية بوزارة الداخلية بموجب أمر حكومي. تشمل بعض مهام الإدارة العامة للشؤون الجهوية ما يلي:

• تنشيط عمل الولاة وتوجيهه ومراقبته في الميادين الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.

• التنسيق مع الوزارات والوكالات المعنية في كل المسائل التي تقع ضمن نطاق مهام الإدارة العامة للشؤون الجهوية.

• متابعة تنفيذ البرامج الجهوية للتنمية.

• السهر على التنسيق بين مختلف الولايات، ودراسة المشكلات والإصلاحات المتعلقة بالهياكل الإدارية الجهوية.

تطوير وسيلة فعّالة وعادلة لنقل المخصّصات

إضافةً إلى الحفاظ على القليل من السلطة الإدارية، ستستبقي الحكومة الوطنية سلطة المحفظة، أي القدرة على تقديم التحويلات المالية إلى الكيانات المحلية. اليوم، تسيطر تونس العاصمة على 96 في المئة من الإنفاق العام، فيما يُنفَق 4 في المئة فقط من ميزانية الدولة على المستوى المحلي. وتحاول عملية اللامركزية أن تعالج هذه المسألة، حيث أعلن أخيراً وزير الشؤون المحلية والبيئة، رياض المؤخر، أنه يخطط لزيادة الـ4 في المئة لتصبح 10 في المئة في غضون سنوات ست. بيد أن مجرد ضخ المال إلى المستوى المحلي ليس كافياً. فالحكومة يجب أن تتبنّى وسيلة شفافة ومُنصفة في مجال نقل الموارد إلى المراتب الدنيا، وأن تُرقي توزيعها في شكل عادل.

وقد أوضحت ورقة بيضاء أصدرتها الحكومة التونسية في العام 2011 أهداف تقليص التفاوتات الجهوية كما يلي:

الهدف الأول هو تحسين أوضاع المناطق المهمّشة من خلال الحد من التفاوت الاجتماعي- السياسي. والهدف الثاني هو ربط المناطق المهمّشة بالمناطق المتقدّمة كي تفيد من التدريب والتواصل اللذين تمارسهما التجمّعات السكانية». والهدف الثالث هو دمج المناطق كافة في الاقتصاد العالمي كي تصبح جزءاً من رؤية تنموية ديناميكية ومستدامة.

وجادل تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أنه «من دون تمكين مالي مناسب، لا يمكن تجسيد استقلالية الحكومات الجهوية. وحينها لن تتحقق الإمكانات الكاملة للامركزية. وهكذا، يتعيّن على الحكومة الوطنية أن «تحدد بوضوح مسؤوليات الإنفاق بهدف تحسين مسألة المحاسبة، وتجنُّب التداخل غير المنتج... وازدواجية السلطة، والتحديات القانونية». والحال أن أبحاثاً عديدة وحبراً كثيراً أُهرق حول الوسيلة الأنجع والأكثر إنصافاً التي بموجبها يمكن تحقيق هذا الهدف، من خلال شراكة بين وزارة الشؤون المحلية والبيئة من جهة والبنك الدولي من جهة أخرى (لمزيدٍ من التفاصيل، انظر الجزء المتعلق بالمجتمع الدولي).

مع ذلك، شطر كبير من السلع والخدمات لا يمكن تقسيمها بسهولة بين المستويات الوطنية والمحلية. فالعناية الصحية، والتعليم، والنقل، تتجاوز كلها حدود المناطق وتتطلّب تنسيقاً دقيقاً. علاوةً على ذلك، يجب على الحكومة الوطنية أيضاً أن تحتفظ بمسؤولية إعادة توزيع الدخل بين الجهات، لأن الحكومات المحلية لن تكون قادرة على الأرجح على تنفيذ ذلك بطريقة عادلة. 85 ثم، لضمان توزيع منصف وعادل للموارد، يتعيّن على الحكومة المركزية تشجيع التنمية في كل أنحاء البلاد «لأن رفع دخل الفرد ليس الأمر نفسه كما زيادة قدرات التنمية في المناطق».

إضافةً إلى التحويلات من الحكومة الفدرالية، يمكن للحكومات المحلية زيادة العائدات من خلال فرض مختلف أنواع الضرائب على الملكية، والبيع بالمفرّق، والعربات الآلية، ووقود الموتورات، وأيضاً من خلال وضع رسوم على مستخدمي الخدمات المحلية. لكن، وفقاً لتقرير صدر عن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في العام 2016، فإن قانون الضرائب التونسي «يفاقم اللامساواة، والتهرّب من دفع الضرائب، واللاقانونية». فعلى سبيل المثال، بلدية قرطاج مدعومة بالكامل، والسكان لا يدفعون الضرائب. ووفقاً لاستطلاع للبنك الدولي العام 2014، 38 في المئة من العائلات التونسية لا تدفع الضرائب. ولاحظت دراسة حول عملية اللامركزية التونسية أنه «بعد الثورة... قرر العديد من المواطنين أنهم لن يدفعوا للسلطات المحلية غير الكفؤة وغير الشرعية». ومع ذلك، من الضروري للغاية أن تقوم الحكومات المحلية برفع الضرائب وجبايتها- «فحين يدفع المواطنون الضرائب إلى الحكومات المحلية، يُرجّح حينها أن يطلبوا خدمات منها، ما يخلق دورة حميدة من المحاسبة». وقد أثبت هذا نفسه بالفعل في تونس. ففي البلديات التي طُبِّقت فيها الميزانيات التشاركية، أفادت السلطات البلدية أن المزيد من المواطنين باتوا يدفعون الضرائب أكثر مما كان عليه الحال في النظام السابق.

* بحث أعده مركز كارنيغي للشرق الأوسط