Date: Jun 29, 2018
Source: جريدة الحياة
اللامركزية كخطوة رئيسة نحو توطيد العملية الديموقراطية في تونس - سارة يركيس ومروان المعشّر |
إذا ما أراد المسؤولون الوطنيون في تونس حصد فوائد اللامركزية، مثل تقليص أعباء العمل وتحسين المداخل إلى المعلومات في المناطق القصِيَة، سيتعيّن أن يكون لديهم شركاء من ذوي الكفاءة في كل أنحاء البلاد. وفي حين لن يكون لدى بعض المناطق، خاصة تلك التي تطل على الساحل، مشكلة في مجال اجتذاب أفضل وألمع العاملين إليها، إضافةً إلى قدرتها على توفير معدات ذات نوعية عالية للمسؤولين الحكوميين المحليين، إلا أن الجهات المحلية المهمّشة عادةً ستحتاج إلى مساندة الحكومة المركزية.

إحدى الوسائل لتحقيق ذلك تكمن في ابتكار هياكل تحفيزية لجذب الموظفين الرسميين من ذوي الكفاءة إلى البلديات الأكثر فقراً. أما المسؤولون المُنتخبون فقد لا ينجحون «بسبب التفاوت الكبير بين الموارد المتاحة وبين الإنفاق الموعود»، ما يخلق مضاعفات لكلٍّ من الحكومتين المركزية والمحلية.

الحكومة المحلية

إضافةً إلى الدور الواضح الذي تلعبه الحكومة المحلية في عملية اللامركزية، يجب أن تعمل المجالس البلدية ورؤساء البلدية والولاة على إقامة علاقات إدارية ومالية سوية وصحية مع الحكومة المركزية وحفز الانخراط عبر الحدود البلدية. كما يتعيّن على المسؤولين المحليين تطوير وسائل لصياغة وتطبيع الحوكمة التشاركية.

صياغة الحوكمة التشاركية

في حين تخصّص مجلة الجماعات المحلية قسماً كاملاً للحوكمة التشاركية، تترك التفاصيل للمسؤولين المحليين، وتنصّ على أن «المجلس المحلي المنتخب، بالتشاور مع المجتمع المدني، يحدّد آليات وطرق الديموقراطية التشاركية». 93 كما تكلّف المجلة المجالس المحلية والجهوية اتّباع نهج تشاركي في مراقبة المرافق وتطوير خطة التنمية المحلية. وتدعو المجلس المحلي والجهوي إلى تشكيل لجنة متخصّصة في مجال الحوكمة التشاركية والديموقراطية المحلية. مع ذلك، أوصت الباحثة التونسية انتصار خريجي بتكريس وسائل حماية أقوى لانخراط المواطنين في هذا القانون. ودعت، على وجه الخصوص، إلى أن يتمتع المواطنون بالحق في مطالبة السلطات المحلية بعقد جلسات استماع عامة وتلقّي عرائض عامة. وقالت إن «ذلك يمكن أن يعزّز الشفافية، عبر تمكين وإشراك المواطنين عبر آليات متعددة تتجاوز طلبات الحصول على المعلومات، وعبر إلزام السلطات المحلية بإيصال قراراتهم وتبريرها في شكل أكثر انفتاحاً».

إحدى الطرق المستخدمة تقليدياً لإشراك المواطنين تكمن في الميزانية التشاركية. ففي بورتو أليغري، مثلاً، كانت الميزانية التشاركية فعّالة للغاية في تعزيز الشفافية والمساءلة في استخدام الأموال العامة، وأدّت القرارات التي تمخّضت عن العملية إلى إنفاق أكثر إنصافاً وتنمية مجتمعية قائمة على الاحتياجات. الجدير ذكره هنا أن لتونس أصلاً بعض التجارب في وضع الميزانيات التشاركية، والتي تمّ تطبيقها في شكل تجريبي في عدد قليل من الجهات المحلية. في المرسى، على سبيل المثال، علّمت العملية أن الميزانية التشاركية تتطلّب معارف تقنية، وبالتالي يكون الموظفون التقنيون مفيدين في مساعدة المواطنين على فهم الصورة العامة للميزانية، فضلاً عن اتّخاذ قرارات مدروسة. ثمّة طرق أخرى لتشجيع مشاركة المواطنين تتمثّل في إنشاء دوائر بلدية، وعقد جلسات مفتوحة للمجالس، وإجراء دراسات استقصائية للمواطنين لإيصال تفضيلات المواطنين إلى الحكومة المحلية. في هذا الإطار، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دوراً في زيادة الخيارات التشاركية للمواطنين. فقد قامت مثلاً مؤسسة الياسمين، وهي مركز بحوث تونسي، بتجربة إعداد بطاقات أداء للمواطنين لعرض تفضيلاتهم على الحكومة المحلية، وهي تأمل بتوسيع نطاق ذلك ليصبح مؤشراً من شأنه إظهار المقارنات مع مرور الوقت، بما في ذلك مقارنات بين البلديات.

تتمثّل إحدى الطرق الأخرى التي يتمّ الاستعانة بها للحصول على استجابة أكبر من المواطنين، في استخدام الوثائق الرقمية ومبادرات الحوكمة الإلكترونية. وفي هذا السياق، أوصت خريجي بإنشاء «محطات واحدة للإجراءات الحكومية» تسمح للمواطنين في كل بلدية بوصول أسهل إلى المعلومات المتعلقة بالخدمات والإجراءات الحكومية. ويمكن أن تكون هذه المحطات متوافرة في مبانٍ أو على شكل منصات رقمية، لسهولة أكبر في الاستخدام، كما أنها ستوفّر الوقت للبيروقراطيين المحليين الذين كانوا سيقضون ساعات طوال في الردّ على الأسئلة شخصياً. يمكن أن نأخذ هنا نموذج الخدمة 311 التي تقدمها حكومة واشنطن العاصمة، المتوافرة عبر الهاتف والتطبيق والموقع الإلكتروني، ما يسمح للمواطنين بالتواصل مع المكتب الحكومي المحلي المناسب للعمل الذي يحتاجون إليه. فعبر الهاتف، يقوم المواطنون بالاتصال على الرقم 3-1-1، ويتم توجيههم من قبل مشغّل إلى المكتب المناسب. وباستخدام التطبيق أو الموقع الإلكتروني، يمكن للمواطنين الإبلاغ عن المشكلات التي يواجهونها (مثل عدم جمع النفايات في وقتها أو الحفر)، أو الاطلاع على المشكلات الأخرى التي تمّ الإبلاغ عنها، أو الاتصال برئيس البلدية، أو وضع تصنيف للخدمات والوكالات المحلية.

تطبيع الحوكمة التشاركية

يتعيّن على المسؤولين المحليين، إلى جانب الآليات الرسمية للحوكمة التشاركية، أن يشجّعوا ثقافة هذا النوع من الحوكمة في أوساط المجتمع المدني والقاعدة الشعبية الأوسع. ويُعتبر الجزء الأكبر من عملية إشراك المواطنين تقديرياً، ففي بلد كانت المشاركة العامة فيه معدومة، أو محفوفة بالمخاطر طيلة عقود، سيحتاج المسؤولون المحليون إلى العمل مع المجتمع المدني لتشجيع المشاركة العامة. ومن شأن ذلك أن يفيد جميع الأطراف على الأرجح، فيفيد المسؤولين المحليين لأنهم أكثر قدرة على الاستجابة لمواطنيهم، الأمر الذي يجعل احتمال اعتبارهم فعّالين أكثر ترجيحاً، وبالتالي يحتفظون بمواقعهم في السلطة. كما لا شكّ أن المواطنين يستفيدون من المشاركة العامة القوية، لأن أولوياتهم وتفضيلاتهم ستجد ترجمتها على الأرجح في السياسات العامة. علاوةً على ذلك، يمكن أن تساهم المشاركة العامة المدعومة من الحكومة المحلية في الحؤول دون بروز فجوة ثقة هائلة كتلك الموجودة حالياً بين التونسيين وبين الحكومة الوطنية.

دور المجتمع المدني والمواطنين

يضطلع المجتمع المدني بدور حاسم في تطوير عملية اللامركزية في تونس وكذلك في تنفيذها، بما في ذلك العمل كجهة رقابة على الحكومات المحلية والوطنية، وجمع وإيصال تفضيلات المواطنين إلى المسؤولين المحليين، والتشجيع والمشاركة في الحكم التشاركي.

الاضطلاع بدور جهة رقابة

يُعتبر المجتمع المدني التونسي بارعاً بشكل خاص في العمل كجهة رقابة على الحكومة الوطنية. وقد أبدت العديد من المنظمات الوطنية الأكثر نفوذاً وقوة في البلاد– على غرار البوصلة، ومراقبون، وبرّ الأمان– قدرتها ورغبتها في لعب هذا الدور على المستوى المحلي. فقد أطلقت البوصلة مشروع «مرصد بلدية» في كانون الثاني (يناير) 2014 لمراقبة البلديات وتشجيع المواطنين على التواصل معها. ويَجمع فريق «مرصد بلدية» معلومات تتعلق بميزانية البلدية والموارد البشرية والممتلكات والاستثمارات ونشاط المجلس البلدي، وينشرها على الموقع الإلكتروني للمشروع.

من جهتها، قامت شبكة «مراقبون»، التي انطلقت كمنظمة لمراقبة الانتخابات في العام 2011، بعمل مهم لجهة مراقبة تسجيل الناخبين في الانتخابات البلدية ومراقبة قطاع الصحة. وفي شراكة مع منظمة Democracy International، أنشأت «مراقبون» مقراً مركزياً للبيانات والخرائط والتحليلات المتعلقة بالانتخابات، والتي «تسهّل صنع القرارات المستندة إلى البيانات لتحسين العملية الانتخابية». وفي القطاع الصحي، عمدت شبكة «مراقبون» إلى مراقبة 2060 مركزاً للرعاية الصحية الأساسية في 264 معتمدية في كانون الثاني2017 لمراقبة حالة بنيتها التحتية، وطريقة إجراء الاستشارات الطبية، ووضع المعدّات واللوازم، وغيرها من المؤشرات.

أما «برّ الأمان» فتعمل على تحسين الحوكمة من خلال وسائل الإعلام. ويركّز برنامجها الإذاعي الأسبوعي الذي يستمر ساعة على الهيئات المحلية والوطنية المُنتخبة. وهي تسعى إلى «عرض القضايا المتعلقة باللامركزية، والانتخابات المحلية المقبلة، والإجراءات الإدارية، وحسن أداء مؤسسات الدولة وأوجه قصورها، في شكل ملموس وقريب من واقع المواطنين». إضافة إلى ذلك، تمتلك منظمات وطنية مثل «كلنا تونس» فروعاً محلية في جميع أنحاء البلاد، ويديروها ناشطون محليون وتسعى إلى معالجة القضايا المحلية.

بيد أن الناشطين التونسيين يشعرون ببعض القلق من أن يتمّ تهميش المنظمات المحلية من قبل المنظمات التي تتخذ من تونس مقراً لها أو المنظمات الدولية. في هذا السياق، قال أحد ممثلي المجتمع المدني:

وحده المجتمع المدني الجهوي يمكن أن يعطي الأولوية لمسألة اللامركزية... سيواجه المجتمع المدني في المناطق الجمعيات التي تأتي من تونس العاصمة بالرفض، وبالتالي سننشئ شرخاً داخل المجتمع المدني بحدّ ذاته. شجعنا هؤلاء الناس لتكون كلمتهم مسموعة، والخطوة التالية هي التحدث إلى المجتمع المدني التونسي... لإخبارهم بأنه يجب علينا الاستماع إلى هؤلاء الناس، يجب أن يتم تمثيلهم، يجب علينا دمجهم. في جميع التحليلات التي أجريت، ظهر أنه لمن الضروري أن تقوم وسائل الإعلام بدعوة الجمعيات العاملة في المناطق الداخلية. لابدّ من الاستماع إلى هؤلاء الأشخاص.

علاوةً على ذلك، أشار أحد ممثلي المجتمع المدني إلى أنه حتى تلك المنظمات التي تتخذ من العاصمة التونسية مقراً لها، ينظر إليها الممثلون المحليون بعين الريبة، فقد قال:

تتمثّل المشكلة مع البلديات في أنه حتى لو كنّا منظمة غير حكومية تونسية، ستُطرح في شكل منهجي الأسئلة نفسها مثل: من يقف وراءك؟ ما هي أجندتك؟ هذه نظرية المؤامرة الكلاسيكية... في الوقت نفسه، لا يستطيع المواطنون قبول المزيد من الوعود المنكوثة من المجتمع المدني. فهذا المجتمع يحل محل الحكومة، إذ تقوم الجهات الفاعلة في المجتمع المدني بعقد الاجتماعات والمناقشات المغلقة في كل مكان، تبحث في الحلول، وبعدها لا يرون أي شيء ملموس... الناس يريدون أموراً ملموسة، لا يريدون الكلام لمجرد الكلام، لقد سئموا من الكلام الذي لا معنى له... لذلك نقول لهم، إذا حضرتم الجلسات التمهيدية، لن تتغيّر حياتكم بين ليلة وضحاها، لكنكم ستفهمون كيفية سير الأمور، هذا كل شيء. كما قلنا للبلديات، سنساعدك في التحدث عن قضايا التوظيف والمعدات الخاصة بك للمواطنين، وهذا هو أقصى ما يمكننا القيام به. الوعود المنكوثة هي الأسوأ بعين المواطنين والبلديات.

جمع وإيصال تفضيلات المواطن

يمكن للمجتمع المدني أن يقوم، إلى جانب مراقبة أداء الحكومات المحلية، بجمع وإيصال تفضيلات المواطنين إلى المسؤولين المحليين. ففي سيدي بوزيد، مثلاً، عملت المنظمة غير الحكومية Smart Solutions في شكل ناشط على إطلاع المواطنين على دور البلدية، وكيفية التعامل في شكل أفضل مع مسؤوليهم المنتخبين. عقدت المنظمة أكثر من عشرين ورشة عمل في بعض المناطق الأكثر حرماناً في تونس– مثل سيدي بوزيد والقصرين- وجمعت خلالها 6500 شخص للإجابة على السؤال التالي: «ماذا ستفعل إن كنت رئيس بلدية؟»

كما كان المجتمع المدني فعّالاً في شرح أهمية اللامركزية وآلياتها. وقد ذكر أحد ناشطي المجتمع المدني في سيدي بوزيد، قائلاً «يريد الناس أن يكونوا مستقلين، لكنهم لا يثقون بالأحزاب السياسية. لذا لن يدلوا بأصواتهم». باختصار، يمكن أن تتمكّن حالة انعدام الثقة المتزايدة بين الناس وبين حكومتهم من كبح جماح فوائد اللامركزية. وبالتالي، يجب على المجتمع المدني إقناع الناس بأن من مصلحتهم المشاركة في قرارات الحكومة المحلية التي تؤثّر مباشرة على حياتهم. وكما قال الناشط في المجتمع المدني: «ليست أولويات الناس سياسية، بل تتمثّل في العمل على تحسين الوضع الاقتصادي ووضعهم المعيشي»، لكن الكثير من الناس، لا سيما من هم خارج العاصمة، لا يدركون تماماً أنهم يملكون فرصة القيام بذلك من خلال المشاركة في الحوكمة المحلية. وقد لفت أحد ممثلي المجتمع المدني في تونس العاصمة، إلى أن المجتمع المدني في حاجة إلى المزيد من الدعم المالي ليتمكّن من رفع مستوى الوعي حول مسألة اللامركزية. واعتباراً من اليوم، «معظم الناس لا يملكون معلومات حولها».

ولفت مندوب من سيدي بوزيد إلى أن المواطنين هم «صنّاع سياسة» على المستوى المحلي. وقد أعاد ناشط آخر التأكيد على هذه النقطة، مشيراً إلى أن المواطنين يجب أن يفعلوا أكثر من مجرد التصويت، فهم بحاجة إلى الانخراط في عملية صنع القرارات والسياسات التي ستؤثر على مدينتهم وحياتهم.

المشاركة النَشِطة في الآليات المُتاحة

أثارت مسألة الحوكمة التشاركية الكثير من الجدل– حيث كانت إحدى البنود القليلة في مجلة الجماعات المحلية التي تم تأجيل البتّ فيها إلى ما بعد انتهاء النقاش، بسبب غياب التوافق حولها. مع أن آلية الميزانية التشاركية مُعتمَدة راهناً في تونس، إلا أن ناشطي المجتمع المدني أجمعوا على ضرورة توسيع نطاق المشاركة المحلية في شكلٍ أكبر. يقدّم الدستور تعريفاً واسعاً وشاملاً للمشاركة: «تعتمد الجماعات المحلية آليات الديموقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها طبقاً لما يضبطه القانون».

لكن ثمة بعض الخوف الناجم من واقع أن المجلة لا تنصّ على آليات تطبيق مبدأ الديموقراطية التشاركية طبقاً لما هو محدّد في الدستور. وعليه، لابدّ للمجتمع المدني من تيسير انخراط المواطنين في الشؤون المحلية كي يتكلّل مسار اللامركزية بالنجاح. في غضون ذلك، أشارت دراسة إلى أن «إشراك المواطنين في عملية صنع القرار في إطار الحوكمة المحلية لا يحدث في شكلٍ تلقائي، بل يتطلّب وضع استراتيجيات محدّدة تهدف إلى إقامة قنوات اتصال وبناء قدرات كلٍّ من المواطنين (والمنظمات التي تمثّلهم) والحكومات المحلية، للانخراط معاً في حوار بنّاء».

وإذ يبدو من الأسهل عموماً تطبيق آليات الديموقراطية التشاركية على المستوى المحلي، إلا أن الانتقال من الحوكمة المركزية التي تنطلق من أعلى مستويات الهرم إلى أدناه، نحو عملية تشاركية تنطلق من أدنى إلى أعلى، يتطلّب تقديم محفّزات رسمية– في المراحل الأولى على الأقل- من خلال سنّ مرسوم تشريعي يقتضي من الحكومة المحلية «استطلاع المواطنين عن حاجاتهم، والوقوف عند آرائهم، أو منحهم حق المشاركة في مداولات المجلس، أو إبلاغهم بالقرارات الحكومية المطروحة على بساط البحث»، وفقاً لتقرير صادر عن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.

لكن حتى المشاركة المنصوص عليها قانوناً ستبقى محدودة ما لم تتوافر الإرادة السياسية. فقد قال ناشط في المجتمع المدني:

في العام 2016، كانت كل المشاريع التنموية في تونس تشاركية. أقول ذلك لأن وزارة الداخلية أرسلت إلى البلديات دليلاً توجيهياً حول المشاركة. لكن ما من آلية لضبط تطبيق هذه المقاربة التشاركية، فالإيعاز الوحيد الذي وُجِّه إلى البلديات دعاها إلى عقد اجتماعين على الأقل وأغفل ذكر ممثّلي المواطنين... إذن، كل ما يجب على البلديات فعله هو عقد اجتماعين على الأقل، وتوثيق الاجتماعات بالصور ورفع تقرير في شأنها.

وحتى إعداد مشروع مجلة الجماعات المحلية لم يستوفِ المعايير التشاركية التي كان يتوقّعها المجتمع المدني. فقد أشار ناشط إلى أن خبراء قانونيين تولّوا صياغة القانون من دون استشارة المجتمع المدني سوى في النزر القليل من البنود. وحينما طُرح مشروع القانون للمناقشة، أُعطيَ القضاء مهلةً لم تتعدّ نصف اليوم لمراجعته، ونصف اليوم للمجتمع المدني، ونصف اليوم لكلٍّ من الأقاليم الستة. وقد استغرق تقديم المجلة وتعريفها معظم الوقت المخصّص للمجتمع المدني، ولم يُعطِ كلٌّ من منظمات المجتمع المدني المُشاركة في النقاش أكثر من دقيقتين للإجابة. يُضاف إلى ذلك أن مشروع القانون هذا، الذي يضمّ أكثر من 300 فصل، عُمِّم على الرأي العام قبل ثلاثة أيام فقط من موعد الاستشارة، وبالتالي لم يحظَ كلٌّ من المجتمع المدني وعامة الناس سوى بقسط ضئيل من الوقت لدراسته. في غضون ذلك، جادل أحد نواب حزب النهضة بأنه «ثمة أزمة ثقة بين المواطنين وبين السياسيين لا يمكن حلّها إلا عبر تكثيف الحوار مع المواطنين».

دور المجتمع الدولي

باستطاعة المجتمع الدولي نشر التوعية حيال عملية اللامركزية، وتوفير المساعدة التقنية والدعم المالي اللازمَين لتطبيقها. أجرى العديد من الجهات المانحة الدولية أبحاثاً وافية لاستطلاع الأولويات المحلية، إلى جانب المشاريع التمهيدية التي أطلقتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لتحسين توفير الخدمات على المستوى المحلي. كما يمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص أن تؤدّي دوراً بارزاً في هذا الصدد. يُشار أيضاً إلى الدعم الكبير الذي قدّمته المنظمات غير الحكومية والجهات المانحة الدولية خلال الفترة السابقة للانتخابات البلدية التي أُجريت في 6 أيار (مايو)، والذي شمل تدريب المرشّحين، وحملات توعية، والانخراط في الجهود الرامية إلى زيادة نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع. والحال أن الخبراء الدوليين بدأوا بتدريب المسؤولين المحليين قبل وقتٍ طويل من موعد الانتخابات. وعلى حدّ قول ناشط في المجتمع المدني في سيدي بوزيد، يمكن للجهات المانحة الدولية المساعدة على «توسيع آفاق» المجتمع المدني والمسؤولين المحلين، من خلال مدّ جسور التواصل بينهم وبين مناطق أخرى من العالم لتعليمهم الممارسات الفُضلى.

لقد أحرز برنامج التنمية الحضرية والإدارة المحلية المدعوم من البنك الدولي نجاحاً كبيراً في التحفيز على الحوكمة الرشيدة على المستوى المحلي، وفي رقمنة وإعادة تنظيم الإجراءات البيروقراطية. فبوابة الجماعات المحلية التابعة لوزارة الشؤون المحلية والبيئة والمدعومة من البنك الدولي «تضع في متناول المستخدمين معلومات متنوعة حول المالية، وأداء البلديات، والخطة الاستثمارية، والإطار القانوني والتنظيمي المنظّم للجماعات المحلية. يمكّن الفضاء الإلكتروني للعرائض المواطنين من إيداع الشكاوى، ويعزّز الفضاء الخاص بالجماعات عملية التعاون على المستوى المركزي والمحلي».

وُضع هذا البرنامج الذي يمتدّ إنجازه على مدى 60 شهراً وتبلغ كلفته 1220 مليون دينار (أي 508 مليون دولار، موّل البنك الدولي 300 مليون دولار منها) بهدف «تطبيق الأحكام الدستورية في مجال اللامركزية التي يكرّسها الدستور، واعتماد آليات الديموقراطية التشاركية، ومبدأ التدبير الحر للجماعات المحلية». أحد الجوانب الرئيسة في البرنامج هو استحداث نظام جديد لتخصيص أموال المنح، بحيث يتم تحديد مقدار المنح التي ستتلقّاها البلديات على أساس آليات وُضعت لتقييم أدائها. وقد خُصِّصت هذه المنح لدعم المشاريع الرامية إلى تحسين البنى التحتية والخدمات. وحتى تصبح البلدية مؤهّلة لتلقّي هذه المنح، يجب أن تستوفي على الأقل خمسة شروط أساسية هي:

إعداد ميزانية يقرّها المجلس.

• تقديم بيانات مالية لوزارة المالية ضمن مهلة أقصاها 31 تموز/ يوليو.

• إعداد خطة استثمارية تحظى بموافقة المجلس.

• تحميل خطط المشتريات على الموقع الإلكتروني الخاص بالصفقات العمومية.

• التوقيع على مذكرة تفاهم مع «صندوق القروض ومساعدة الجماعات المحلية».

إضافةً إلى الشروط الواردة أعلاه، يتم تقييم البلديات باستخدام نظام تصنيف من مئة نقطة، يستند إلى مؤشرات تغطي مجالات الحوكمة والاستدامة والإدارة. وتتولّى هيئة مراجعة مستقلّة تقييم أداء البلديات، ثم يتم نشر النتائج على بوابة الجماعات المحلية. وفي حال حصلت البلدية على 70 نقطة أو أكثر، يتم مضاعفة مقدار المنح التي تتلقّاها للعام 2018 والأعوام اللاحقة. في السنة الأولى، استوفى أكثر من 90 في المئة من البلديات الشروط الخمسة الأساسية التي خوّلتها تلقّي منح للعام 2016.

تُعدّ إمكانيات تحقيق اللامركزية في تونس باهرة. فهي ترتدي أهمية رمزية باعتبارها خطوة رئيسة نحو توطيد أركان عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد، وخطوة عملية نحو معالجة بعضٍ من أوجه الظلم والتفاوت الجهوي التي كانت تعتمل قبل الثورة. فواقع الحال أن الجهود التي تبذلها الحكومة بهدف إرساء اللامركزية، قد تسهم في ردم هوة فقدان الثقة الكبيرة بين التونسيين، من خلال تمكين اللاعبين المحليين وتحسين آلية توفير الخدمات. لكن هذه العملية لن يُقيَّض لها النجاح ما لم تدلُ جميع الأطراف بدلوها فيها، بدءاً من الحكومة المركزية والحكومة المحلية، مروراً بالمجتمع المدني، ووصولاً إلى الجهات المانحة الدولية.

توصيات

باستطاعة الحكومة المركزية التونسية اتّخاذ سلسلة من الإجراءات لإبداء استعدادها السياسي لدعم الدمقرطة:

مقاربة التطلعات الشعبية من خلال إحاطة المواطنين علماً بحيثيات انتقال الصلاحيات الإدارية والمالية، بما في ذلك تعميم خطة الـ27 عاماً، والتي لم يتسلّمها بعد بعض النواب حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وتحديد المعايير قصيرة وطويلة الأمد التي ستقيّم بموجبها وزارة الشؤون المحلية والبيئة عملية اللامركزية. كذلك، ينبغي على الوزارة تعميم نتائج البحث الذي طال مناطق واسعة في العالم وأفضى إلى صياغة مسودة مجلة الجماعات المحلية.

تقديم محفّزات لموظّفي الخدمة المدنية من ذوي الكفاءات العالية لتشجيعهم على العمل في الجهات الأكثر تهميشاً، من خلال مكافآت على شكل زيادة في الرواتب، أو جعل الترقية مشروطة بتوفير خدمات في مناطق محدّدة.

ضمان تحقيق عملية مراجعة عامة فعّالة لتعزيز المشاركة العامة على المستوى المحلي. فمجلة الجماعات العامة لا تحدّد بوضوح حيثيات الديموقراطية التشاركية، بل يتولّى ذلك الدليل التوجيهي حول المشاركة الذي يصدر بموجب أمر حكومي. لكن إصدار مرسوم حول المشاركة العامة هو أمر يتنافى مع جوهر الديموقراطية التشاركية. لذا، ينبغي على الدولة صياغة مشروع المرسوم ثم إفساح المجال أمام جميع مكوّنات المجتمع التونسي لمراجعته ضمن مهلة زمنية كافية، بحيث تتمكّن كل الأطراف الفاعلة من المساهمة في إعداد الدليل التوجيهي.

باستطاعة الحكومات المحلية القيام بما يلي:

• إتاحة فرص الحوكمة التشاركية خارج الأطر المنصوص عليها في القانون، مثل إنشاء مجالس مواطنين أو إجراء استطلاعات دورية لمعرفة مواقفهم حيال السياسة العامة.

• بلورة آليات للتنسيق والتواصل بين البلديات. صحيحٌ أنه ينبغي على المسؤولين المحليين التركيز على نطاق بلديتهم، لكن عليهم أيضاً العمل مع المسؤولين المحليين في البلديات المجاورة لمناقشة القضايا المشتركة في ما بينها، وعقد جلسات عصف ذهني لإيجاد حلول سياسية مُبتكرة.

• ينبغي على منظمات المجتمع المدني أن تواصل الاضطلاع بدورها كحارس أمين للعملية الديموقراطية. لكنها تؤدّي أيضاً دوراً أهم على المستوى المحلي، يتمثّل في تشجيع وترسيخ ثقافة الديموقراطية التشاركية. إذن، ينبغي على المجتمع المحلي تحديداً:

• إطلاق حملة توعية في صفوف الرأي العام حول اللامركزية، تقودها منظمات أهلية محلية تتمتع بمصداقية كبيرة في بلدياتها، وتركّز على شرح كلٍّ من الدور الذي يضطلع به المجلس البلدي بموجب مجلة الجماعات المحلية، وفرص المشاركة العامة في الحكومة المحلية.

• وضع آليات الحوكمة التشاركية في متناول المواطنين. يجب على المجتمع المدني أن يشكّل مصدراً للمعلومات في ما يتعلق بفرص المشاركة، وجسراً بين المسؤولين العموميين والمحليين. وينبغي على المجتمع المدني، كذلك بلورة آليات لاستطلاع آراء المواطنين وتفضيلاتهم وإعلام المسؤولين المحليين بها– إما من خلال اللقاءات البلدية، أو الاستشارات الرسمية، أو الاستمارات الإلكترونية، أو القنوات غير الرسمية.

• لمساعدة المجتمع المدني على تأدية هذه المهام، يتعيّن على الجهات المانحة الدولية العمل على بناء قدرات الشبكات والمنظمات الأهلية المحلية (وتلك التي يقع مقرّها في تونس العاصمة) كي تتمكّن من الترويج للحوكمة التشاركية على نحو فعّال. كذلك، ينبغي على هذه الجهات المانحة الدولية:

• تمويل جهود الحكومة الإلكترونية، بما في ذلك رقمنة إجراءات وعمليات الحكومة المحلية. يجب أن يكون الهدف إنشاء مبنى وموقع إلكتروني يقصدهما المواطنون للحصول على الخدمات البلدية والتواصل مع المسؤولين المحليين. كذلك، يمكن للجهات المانحة دعم الحكومة التونسية في إنشاء بوابة إلكترونية للمساعدة على تحقيق المواءمة بين الوظائف الشاغرة في الحكومة المحلية وبين المسؤولين الحكوميين الحاليين على أساس كفاءاتهم وخبراتهم.

• تدريب وإعداد المسؤولين المحليين استناداً إلى الممارسات الفُضلى المُطبَّقة حول العالم. بإمكان الجهات المانحة، بالشراكة مع القطاع الخاص، ضمان حصول المسؤولين المحليين في أرجاء البلاد كافة على الموارد التكنولوجية المناسبة التي تتيح لهم التواصل مع تونس العاصمة من جهة، ومع قواعدهم الشعبية من جهة أخرى. كذلك، يتعيّن على الجهات المانحة تدريب المسؤولين المحليين على كيفية أداء مهامهم على النحو الأكثر فعالية.

* أُعدّت هذه الدراسة قبل إجراء الانتخابات البلدية في تونس.

* بحث أعده مركز كارنيغي للشرق الأوسط