Date: Jun 26, 2018
Source: جريدة الحياة
اللامركزية في تونس: تمكين البلديات بهدف إنتاج طبقة سياسية جديدة - سارة يركيس ومروان المعشّر
أنجزت تونس، منذ ثورة 2011، العديد من الخطوات لنقل السلطة من الهياكل شديدة المركزية التي أدارتها عائلة بن علي، إلى حكومة مركزية ديمقراطية جديدة، ومن ثَمَ من السلطة التنفيذية إلى البرلمان. واليوم، تُواجه البلاد مهمة حاسمة ودقيقة للغاية تكمن في تحويل السلطة من المستوى الوطني إلى المراتب المحلية. ومثل هذه اللامركزة للسلطة، قمينة بمعالجة القضايا المُعلَّقة منذ أمد بعيد والخاصة بالتفاوتات الجهوية الحادة في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم، وفي مجالات الفقر والبنية التحتية.

فُرص اللامركزية

• ستُؤدي اللامركزية، إذا ما طُبقت على نحو سليم، إلى تعزيز الأطراف المحلية وتمكينها من اتخاذ القرارات المتعلّقة بالبلديات والجهات، ما يُوفّر تغييراً حقيقياً لمصلحة قواعدها الشعبية.

• قد يُنتج هذا طبقة سياسية جديدة خارج إطار الأحزاب السياسية التي لطالما هيمنت على تونس، كما قد يوفّر المزيد من الفرص أمام النساء والشباب لطرق أبواب العمل السياسي.

• يجب أن تحسّن اللامركزية كذلك إيصال الخدمات على الصعيد المحلي، حيث أسفر الأداء البائس منذ ثورة 2011 عن تبخّر الثقة بين المواطنين وبين الدولة، وأيضاً إلى انخفاض عائدات الضرائب.

• تتطلّب اللامركزية إرادة سياسية قوية من قِبَل المسؤولين في الحكومة المركزية، الذين يتعيّن عليهم أن يتخلّوا طوعاً عن بعض سلطاتهم، وأن يؤكدوا التزامهم بالحوكمة التشاركية على المستوى المحلي. كما أنها تستدعي من المسؤولين المحليين، الذين يقع على عاتقهم تشييد صرح الثقة مع قواعدهم الشعبية، وتوفير الفرص لانخراط المواطنين، ومنع إعادة إنتاج المؤسسات غير الفعّالة على المستوى المحلي.

ما يُمكن فِعْله؟

• يجب على الحكومة التونسية مقاربة التطلعات الشعبية، من خلال إحاطة المواطنين علماً بحيثيات انتقال الصلاحيات الإدارية والمالية.

• وهي قادرة على إتاحة فرص الحوكمة التشاركية خارج الأطر المنصوص عليها في القانون، مثل إنشاء مجالس مواطنين أو إجراء استطلاعات دورية لمعرفة مواقفهم حيال السياسة العامة.

• كما يتعيّن على الحكومة الوطنية توفير الموارد المالية والبشرية، بما في ذلك ضمان توزيع عائدات الضرائب على المستوى المحلي.

• يجب أن يواصل المجتمع المدني حماية وصيانة العملية الديمقراطية. لكنه يؤدّي أيضاً دوراً أهم على المستوى المحلي، يتمثّل في تشجيع وترسيخ ثقافة الديموقراطية التشاركية، من خلال إطلاق حملة توعية في صفوف الرأي العام حول اللامركزية.

• كما في وسعه أن يساعد على وضع آليات الحكومة التشاركية في متناول المواطنين، وبلورة آليات لاستطلاع آرائهم وتفضيلاتهم وإعلام المسؤولين المحليين بها.

• يتعيّن أن تعمل الجهات المانحة الدولية على تحسين قدرة الشبكات والمنظمات الأهلية المحلية (والوطنية) على الترويج للحوكمة التشاركية.

• علاوةً على ذلك، يجب على الجهات المانحة مواصلة تمويل جهود الحكومة الإلكترونية، بما في ذلك رقمنة إجراءات وعمليات الحكومة المحلية، بهدف إيجاد محطة واحدة يقصدها المواطنون للحصول على الخدمات البلدية والتواصل مع المسؤولين البلديين.

• ثمّ، يتعيّن على الجهات المانحة تدريب وإعداد المسؤولين المحليين استناداً إلى الممارسات الفُضلى المُطبَّقة حول العالم.

مقدّمة

شكّلت الانتخابات البلدية في 6 أيار (مايو) 2018، التي كانت الانتخابات المحلية الأولى في تونس، خطوة مهمة لدفع البلاد قدماً نحو التعزيز الكامل لانتقالها الديموقراطي. فمن خلال انتخاب 7200 مسؤول محلي سيُمثلون 350 بلدية، أظهر التونسيون مدى عمق التزامهم بالديموقراطية. بيد أن هذه الانتخابات كانت مجرد خطوة صغيرة نحو برنامج أكبر بكثير، يتمحور حول اللامركزية التي لا يبدو مصيرها واضحاً بعد. والحال أن الانتخابات ستخلو من أي معنى يُعتد به، إذ خلت من إطار قانوني قوي يتعلق باللامركزية التي تُحدّد السلطات والمسؤوليات بين المستويين الوطني والمحلي. كما أن هذه العملية ستتطلّب أيضاً توافر الإرادة السياسية لتطبيق اللامركزية على كلٍّ من هذين المستويين.

عدوى الفساد في تونس: المرحلة الانتقالية في خطر

نظرياً، كان ثمة حوكمة محلية في تونس لبعض الوقت، حيث مُنحت السلطات البلدية والجهوية صلاحية اتخاذ بعض القرارات، وإن اقتصرت على الشأن الإداري في معظمها. بيد أن اللامركزية التي جرت ممارستها منذ استقلال تونس العام 1956 كانت، وفقاً للباحث التونسي ناجي بكوش، «خيالاً بخيال». فالنظام السياسي كان في الحقيقة شديد المركزية في عهدَي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وهذا كان «خياراً سياسياً افتُرِض أنه يلبّي الحاجة إلى إعادة بناء دولة موحّدة، تكون قادرة على الكفاح ضد النظام القبلي القديم»، على حد تعبير هذا الباحث. وهكذا، كان يتم تعيين معظم السلطات المحلية من قِبَلْ الدولة المركزية، وكانت فرائص مثل هذه السلطات ترتعد من وزارة الداخلية المُخيفة.

علاوةً على ذلك، كانت الدولة تُصفّي الحساب على جناح السرعة مع الأطراف المحلية التي كانت تُبدي أي قدر من الاستقلال السياسي، وهي احتفظت بسلطة تنصيب مسؤولين تختارهم هي مكان المجالس المحلية. ويوضح مختار الهمّامي، المسؤول عن عملية اللامركزية في تونس في حقبة ما بعد 2011، مضمون هذه العملية كالتالي: «المعضلة الرئيسية التي واجهناها حين بدأنا عملية اللامركزية، كانت هيمنة النظام المركزي الذي انعكس سلباً على البلديات، التي تحوّلت إلى مرافق تابعة ومجرّدة من الصلاحيات. خلقت هذه المركزية بيروقراطية مُكلفة وشوّهت صورة البلديات». هذا إضافةً إلى أن الجهات والبلديات شُكِّلت أساساً استناداً إلى مشاغل أمنية هدفت إلى تقسيم المناطق المثيرة للمشكلات، وتم توظيف التقسيم الترابي «لفرض سلطة الدولة المركز على كامل المجال الترابي. وهو ما يمكن إثباته في العديد من الولايات التي تم إحداثها في ظروف استثنائية بغض النظر عن المتطلبات التنموية». وبالتالي «اقتصر دور البلديات على الخدمات الكلاسيكية، كرفع الفضلات وتهيئة المدن. أما الخدمات الحيوية المتصلة باحتياجات المواطنين الأساسية، كالصحة والتعليم، فكانت خارج نطاق تدخّلها، وهو ما ساهم في إضعاف البلديات وانعدام الثقة في هذا الهيكل».

بيد أن عملية اللامركزية التونسية قمينة بإنعاش عملية الانتقال الديمقراطي، من خلال تمكين الأطراف المحلية، وتحسين إيصال الخدمات، وضخ أفكار ودم جديد في عروق العملية السياسية على المستوى المحلي، وتخفيف وطأة الضغوط على الحكومة المركزية. لكن هذه العملية يجب أن تُسفر عن تغييرات بعيدة المدى في أجهزة الحوكمة والسلطة المالية، وأن تُظهر أيضاً مكاسب دانية، خصوصاً لصالح المناطق الداخلية المحرومة عادة. فنجاح اللامركزية يعتمد على ذلك.

أهداف ومنافع اللامركزية

على الصعيد العالمي، يُعتقد أن اللامركزية لها تأثيرات إيجابية عدة، من تطوير فعالية الحكومة، وتقليص وتائر الفساد، إلى ترقية آفاق العلاقات بين المواطنين وبين الدولة. فالمسؤولون الذين يُقيمون مع الناس عن كثب، يستطيعون تفهّم حاجياتهم أكثر من أي طرف آخر، ما يؤدي إلى توفير خدمات عامة فعّالة. وهذه دورة ناجعة يُسفر فيها تقديم خدمات أفضل وأكثر شفافية عن معدلات أعلى من تحصيل الضرائب، التي تؤدي بدورها إلى وجود أموال أكثر في الخزينة وحتى إلى خدمات أرقى. يقول هنا بعض الباحثين: «اللامركزية، خصوصاً نقل السلطة، ستُحسّن المحاسبة والحوكمة، من خلال جعل الحكومة أقرب إلى الناس». ويقول وزير الشؤون المحلية والبيئة التونسي، رياض المؤخر: «اللامركزية، في حال نجاحها، ستُصبح العامل الرئيس في التنمية المحلية».

لا ضرائب من دون تمثيل

توفّر اللامركزية أيضاً الفرصة لتجربة واختبار سياسات مختلفة. فلأن تغيير السياسة العامة أسهل بكثير على المستوى المحلي مع تباين الحاجات والموارد لدى كل بلدية، تستطيع اللامركزية إطلاق يد صانعي السياسات في تقييم أنواع البرامج والمبادرات الفعّالة وتحديد أماكنها. علاوةً على ذلك، غالباً ما يكون السياسيون والبيروقراطيون على المستوى الوطني أقل استعداداً لركوب موجة المخاطر من زملائهم على الصعيد المحلي. ولذا، تستطيع الحكومات المحلية أن تكون خلاّقة في تطوير السياسات الكفيلة بحل القضايا المحلية. صحيحٌ أن الحلول الخلاقة لا تُصيب كلها عين النجاح، إلا أن المسؤولين المحليين أكثر استعداداً لتجربة أفكار جديدة قابلة، في حال نجاحها، لأن تُستنسخ في أماكن أخرى.

لدى برنامج اللامركزية التونسية، عدا عن الخطة الشاملة لنقل السلطة المالية والإدارية من الدولة المركزية إلى الدوائر المحلية، ثلاثة أهداف: ضمان توزيع أكثر عدلاً للموارد، وتمكين الأطراف المحلية لاتخاذ القرارات لمجتمعاتهم المحلية، وتحسين توفير الخدمات عبر البلاد. لكن، تتطلب اللامركزية كي تنجح قدراً هائلاً من الاستعدادات، وأيضاً درجة من الظروف المؤسسية والسيكولوجية. وهنا، الشرط المُسبق واللازب هو توافر الإرادة والرؤية السياسيين، خصوصاً من جانب الحكومة المركزية. إذ أن أي حكومة مركزية تُطبّق اللامركزية بهمّة فاترة أو تنشط لتقويض هذه العملية، ستُنتج سياسات فاشلة.

إضافةً إلى الإطار القانوني والهياكل المؤسسية المترافقة مع الأدوار الجديدة التي تم نقلها، يجب أن يحظى برنامج اللامركزية بموارد مالية وبشرية وازنة على كلٍّ من المستويين المركزي والمحلي. إذ يتعيّن أن تكون هناك بعض أشكال الإدارة البيروقراطية المختلطة لضمان المحاسبة، وأيضاً لمنع ازدواجية الجهود. ثم يجب إجراء شكل من أشكال الحوار المجتمعي، على المستويين الوطني والمحلي، لجعل المواطنين مشاركين في هذه العملية. فالرأي العام، من خلال منظمات المجتمع المدني والشبكات غير الرسمية وعمليات المشاركة المباشرة، يلعب دوراً حاسماً في تأمين الرقابة والمحاسبة.

التوزيع المتساوي للموارد

تُعاني تونس راهناً من تفاوت جهوي كبير وفق كل المؤشرات (انظر الجدول1). ففي العام 2013، نالت 18 بلدية (بما في ذلك تونس العاصمة وضواحيها المرسى وحلق الوادي وسيدي بوسعيد وقرطاج) 51 في المئة من ميزانية الدولة للبلديات، فيما لم تنل الـ246 بلدية المتبقية سوى 49 في المئة. وقد وجدت دراسة لمنظمة العمل الدولية في حزيران(يونيو) 2017 أن ثمة لا مساواة فاقعة في مختلف المناطق، حين تجري المقارنة بالاستناد إلى معدلات الفقر، والقوة الشرائية، ونوعية ومدى قرب الخدمات العامة. وفي آخر ميزانية لنظام بن علي قُبيل سقوطه، كُرِّس 82 في المئة من مخصّصات الدولة للمناطق الساحلية، فيما لم يحصل الداخل سوى على 18 في المئة.

إضافةً إلى ذلك، كان أكثر من 50 في المئة من البلاد «من دون بلديات»، وهذا عنى أن ثلث سكان تونس كانوا يعيشون خارج النطاق البلدي، وبالتالي لم يكن بمقدورهم انتخاب المسؤولين المحليين. وبهدف ضمان أن يقطن كل مواطن في إطار بلدية، أقدمت الحكومة على تكوين 86 بلدية جديدة، ووسّعت أراضي العديد من البلديات الأخرى. كما كان من ضمن الركائز الأساسية لعملية اللامركزية تصحيح التفاوتات الجهوية من خلال مبدأ «التمييز الإيجابي». هذه العملية هدفت إلى توفير توزيع عادل (وليس متساوٍ) للموارد من ميزانية الدولة لدعم القدرات البشرية والإدارية، التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى توفير الفرص المنصفة لكل التونسيين، بغض النظر عن أماكن سكنهم.

التمييز الإيجابي منصوصٌ عليه في دستور العام 2014 (الفصل12)، لكنه ليس مفهوماً مُستجدّاً في تونس. فالحوافز الضريبية ومنح الاستثمار للتنمية الجهوية كانت قيد التطبيق منذ السبعينيات. بيد أن عملية اللامركزية أُعدَّت، في المقام الأول، بوصفها وسيلة لتصحيح التفاوتات الجهوية القائمة منذ زمن طويل، عبر منح الأولوية لبعض المناطق على حساب غيرها.

يأمل مواطنو المناطق التي كانت مهمّشة تاريخياً أن تجذُب اللامركزية اهتماماً أكبر بنواحيهم. وكما لاحظ ناشط في المجتمع المدني في سيدي بوزيد: «في أوائل 2018 لم يكن هناك أي وزير وطني أو مسؤول عالي الرتبة من سيدي بوزيد»، ما يساهم في مفاقمة مشاعر الاغتراب والنفور، ويخلق فجوة مادية ونفسية مع المركز. وقال مواطن في ولاية سليانة ترشّح للانتخابات البلدية في بلدة كسرى، إنه يأمل بأن تجلب اللامركزية تحسينات لبلدته «لأن الأشخاص الذين سيُنتخَبون سيتجاوبون مع حاجيات المواطنين وآرائهم»، على عكس المسؤولين الحاليين الأغرار وقليلي الخبرة الذين يتلقّون توجيهاتهم من تونس العاصمة. وأضاف إن المجلس البلدي الجديد المُنتخب سيحظى على الأرجح بشرعية أكبر، جزئياً لأن أعضاءه جرى انتخابهم، وأيضاً «لأنهم سيتفهمون حقائق المنطقة». صحيحٌ أن اللامركزية قد لا تُصحّح مشكلة عدم تمثيل المصالح المحلية على المستوى الوطني في تونس العاصمة، إلا أنها ستخلق الفرص لمواطني سيدي بوزيد وسليانة كي يتخذوا قرارات حول سيدي بوزيد وسليانة.

طرح سكان كسرى قضية جذب الانتباه هذه، حين أعربوا عن أملهم بأن تزودهم اللامركزية بالفرصة لعرض قضية منطقتهم على باقي التونسيين. والحال أن قلة من التونسيين، ناهيك عن الأجانب، على دراية بوجود كسرى، وهي بلدة تقع في أعلى بقعة في تونس، وموطن لتعددية بيولوجية هائلة، ومواقع تاريخية، ونقطة جذب سياحية محتملة. وفي حين أن السياحة في كسرى تحسّنت بالفعل بعد الثورة، إلا أن القطاعين السياحي والزراعي لا زالا متأخّرين فيها إلى حد كبير. ويقول مرشح آخر للانتخابات المحلية في كسرى أن اللامركزية هناك لها أهداف تنموية محضة. سليانة هي إحدى الولايات المهمّشة، حين يأمل محبّذو اللامركزية فيها أنها سترقّي التنمية الاقتصادية، من خلال حشد الموارد في شكل أكبر لقطاعي الزراعة والسياحة. وقد أشار المرشح المذكور إلى أنه يمتلك تصوّراً حول كيفية تحسين صناعة السياحة، ومكافحة التلوث، وتطوير قطاع الزراعة في الولاية كي يصبح نموذجاً للفلاحة العضوية، لكنه يحتاج إلى موارد مالية واستقلالية إدارية وسياسية لتنفيذ هذه التطلعات

تمكين القوى المحلية

وفقاً للبنك الدولي، يكمن أحد أبرز أهداف المركزية في جعل البلديات «أكثر فعالية ونشاطاً في تخطيط وتنفيذ وتوفير مرافق البنية التحتية والخدمات البلدية». ولاحظ بعض المحللين أن استجابة الحكومة المحلية تكون أقوى من استجابة الحكومة المركزية بفعل حصولها على معلومات أفضل، وحوافز أقوى. وكتب الباحث الغاني جوزيف آيي أن المركزية في بلاده «أيقظت روح التطوّع و «الصحوة» في أوساط قطاعات من المجتمعات المحلية». وتابع: «كما أنها أدّت إلى زيادة مداخل الناس في المناطق التي كانت مهملة سابقاً إلى موارد ومؤسسات الحكومة، وفتحت عدداً كبيراً من الفرص لأشخاص جلّهم من الشبان المُتطلعين إلى العمل السياسي».

تستطيع اللامركزية أن توفّر فرص العمل للشباب المُتبطلين، خاصة منهم أولئك الذين لديهم شهادات في تخصصات الإدارة أو السياسة العامة، وبالتالي في وسعهم لعب أدوار جديدة كبيروقراطيين محليين. ومثل هذه القيادة الجديدة ستمنح النساء والشباب الفرصة كي يكونوا جزءاً من عملية صنع القرار. وكما لاحظ ناشط تونسي في المجتمع المدني: حتى حين يكون النساء والشبان أعضاء ناشطين في حزبهم السياسي، إلا أنهم «يُطرحون جانباً» حين يحاولون الترشّح إلى منصب وطني.

يحاول القانون الذي يحكم الانتخابات البلدية معالجة هذه القضية، فينص على أن المجالس البلدية والجهوية يجب أن تتضمّن المساواة الجندرية (بين الجنسين). وهذا يتحقّق من خلال التناوب بين الرجال والنساء في كل قائمة مرشحين، مع التساوي بين رؤساء لوائح الأحزاب التي لديها أكثر من لائحة. كل من هذه اللوائح يتعيّن أن تشمل فرداً عمره أقل من 35 سنة من بين المرشحين الثلاثة الأوائل. ونتيجةً لذلك، يكون عمر 75 في المئة من المرشحين المُسجلين أقل من 45 سنة، وعمر أكثر من 50 المئة أقل من 35 سنة.

تحسين إيصال الخدمات

أظهرت اللامركزية على المستوى العالمي تحسّناً في فعالية استخدام الموارد العامة، وزيادة في التنافس عليها. ففي مدينة بورتو أليغري البرازيلية، على سبيل المثال، تضاعفت تقريباً حظوظ الناس في الوصول إلى المياه، ومعالجة الصرف الصحي، والانتساب إلى المدارس الابتدائية والثانوية، خلال الفترة بين 1989 و1996، وفي الوقت نفسه ارتفع معدل تحصيل العائدات 48 في المئة. وفي بوليفيا، أسفرت اللامركزية عن تحوّل كاسح في مجال تخصيص الموارد العام لصالح البلديات الأصغر والأفقر. هناك، ارتفعت الاستثمارات في التعليم، ومعالجة المياه، والصرف الصحي في ثلاثة أرباع كل البلديات، ما شكّل نقلة نوعية من الإنتاج الكبير إلى الحاجات الاجتماعية.

يقول بعض الأشخاص الناشطين في المجتمع المدني والذين يعملون في مجال اللامركزية، إن التونسيين يودّون أكثر ما يودّون تحسين الخدمات القائمة حالياً، على غرار إضاءة الشوارع، وجمع القمامة، ونوعية الطرق وشقّها، وتحسين النقل المحلي. وهذا ينطبق على وجه الخصوص على المواطنين التونسيين في المناطق المحرومة عادةً، الذين يداعبون الأمل بتحقيق هذا التحسّن.

يترافق تحسين إيصال الخدمات مع العديد من المحصّلات الثانوية. فهو يساعد على إعادة بناء الثقة بين المواطنين وبين المسؤولين المُنتخبين. ووفقاً لاستطلاع أجراه المعهد الجمهوري الدولي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، صنّف 57 في المئة من التونسيين أداء الحكومة بأنه «سيّئ للغاية» أو «سيّئ إلى حد ما»، وقال 67 في المئة منهم إن الوزراء» لا يفعلون شيئاً على الإطلاق» لتلبية حاجات أناس مثلهم، فيما أسبغ 73 في المئة الأمر نفسه على البرلمان.

علاوةً على ذلك، أوحت بعض الدراسات بأن اللامركزية المالية يمكن أن تخفض مشكلة الفساد. فمن خلال إقامة روابط مباشرة أوثق بين المواطنين وبين السلطات، برز قدر أكبر من الشفافية، وبات في قدرة الناس تحديد مراكز السلطة وكيفية التواصل معها. قد يكون هذا، كما يقول ناشط، «مجرد أمر رمزي إلى حد كبير»، لكن من السهل تحقيقه. يتلقى التونسيون حالياً القليل من الاتصالات من البلديات. ووفق استطلاع للبنك الدولي في العام 2015، قال 3 في المئة فقط من المُستطلعة آراؤهم إنهم تلقوا اتصالات من بلديتهم خلال السنة المنصرمة. جزءٌ من هذه المشكلة يكمن في البنية التحتية الرقمية، إذ أن العديد من البلديات ليس لديها مواقع إلكترونية قيد العمل، ولذا يتعيّن على مسؤولي البلدية استخدام صفحاتهم الشخصية على فايسبوك للتواصل. إضافةً إلى ذلك، ليس لدى العديد من البلديات مسؤول عن التواصل، فيما لا يوجد في بلديات أخرى سوى موظف واحد أو موظفين اثنين لتغطية كل القضايا في البلدية. وهكذا، ثمة حاجة ماسة إلى زيادة كبيرة في الوظائف المحلية.

ثمة تأثير ثانوي يتعلق بإيصال الخدمات في شكل أفضل، يتمثّل في أنه يساعد على جعل البلديات، خاصة في مناطق الداخل، أكثر جاذبية للمانحين الدوليين والقطاع الخاص. على سبيل المثال، لا تزال هناك تفاوتات ضخمة في أوضاع الطرقات بين تونس العاصمة في الشمال، وبين المناطق الجنوبية والشمالية- الغربية. فحين نقود السيارة جنوباً من العاصمة، نجد الطريق السريع الموصِل إلى القيروان في حالة جيدة، لكن الطريق يعج بعدها بالمفاجآت، فيتحوّل حيناً إلى ممر مُغبر ومرة أخرى إلى طريق سريع عريق. لذا، وبسبب بؤس حالة الطرقات، تستغرق السياقة إلى الجهة الجنوبية الغربية من تونس العاصمة إلى سليانة، أي نحو 80 ميلاً، وقتاً أطول من السياقة من واشنطن العاصمة إلى فيلادلفيا على رغم أن المسافة بينهما ضعف المسافة بين تونس وسليانة.

وأخيرا، تستطيع اللامركزية أن تساهم في إزالة الاختناقات البيروقراطية والإدارية التي تنزع إلى تأخير عملية صنع القرار، ما يُثبط المواطنين ويشجّع على الفساد. وفي هذا المجال، تكون اللامركزية مفيدة ليس فقط للقادة المحليين بل أيضاً للمسؤولين الوطنيين، الذين تُطلق حينذاك يدهم للتركيز على صنع السياسات على المستوى الوطني، إذا ما نقلوا مهام الحوكمة الروتينية إلى مسؤولين محليين.

* بحث أعده مركز كارنيغي الشرق الأوسط