Date: Jun 25, 2018
Source: جريدة الحياة
الحزب الشيوعي العراقي إذ يهدّد - عصام الخفاجي
لم أرَ في بيان المجلس المركزي للحزب الشيوعي العراقي الذي طمأن جمهوره بأنه سيغادر تحالف «سائرون» الصدري وينتقل إلى صفوف المعارضة إن لم يلتزم التحالف بـ «البرنامج» المُتّفق عليه وهو إقامة دولة المواطنة ومحاربة الفساد إلا محاولة لحفظ ماء الوجه بعد صفعة مهينة وجّهها له «حليفه» مقتدى الصدر بتحالفه مع قائمة «الفتح». صفعة كان في وسع أي مراقب (ما عدا قيادة الحزب) أن يراها آتية وإن لم يكن يتوقع حدوثها بهذه السرعة.

وضعت مفردتي «البرنامج» و «الحليف» بين مزدوجين، لأن ما تم الاتّفاق عليه عند انضواء الشيوعي في «سائرون» لم يكن برنامجاً، بل كان مجموعة شعارات رفعتها غالبية الكتل السياسية ولأن الاتفاق على شعارات كهذه لا ينقض وقائع عرضها كثيرون، وأنا منهم، تبرهن أن التيار الصدري لا يقل فساداً ولا استباحة لسلطة الدولة ولا طائفية عن غيره من حركات الإسلام السياسي الشيعي. يكمن الاختلاف في مكيافيلية قائد هذا التيّار الذي يمكّن أنصاره من التمتع بثمار الفساد بعد نيل حصته منها ثم يخرج إلى الناس ليعلن براءته منهم وليبرز أتباعاً جدداً إلى الواجهة، مكيافيلية نجحت في إقناع جمهرة هائلة من الفقراء الناقمين على الطبقة السياسية الحاكمة بأنه بطلهم الخارج عن تلك الطبقة والمنقذ لهم من سطوتها فيما هو يتمتّع بكل امتيازاتها ونفوذها. ويحفل التاريخ بأمثلة لا حصر لها لساسة انتهازيين متعطّشين للسلطة استطاعوا، في ظروف الأزمات، كسر توازن القوى داخل الطبقة الحاكمة عبر تحويل حركات الاحتجاج الواسعة إلى أدوات إضافية لهم في معركة الهيمنة على تلك الطبقة، وهو ما كان هاجسي منذ أن ضخّ مقتدى الصدر أتباعه إلى ساحات الاحتجاج الشعبي قبل أربع سنوات ليوصل الدراما الشعبوية المسنودة بالطقسية الشيعية إلى ذروتها وهو معتكف عند بوّابة المنطقة الخضراء يتسابق الشباب على تقبيل يده وتقديم أنفسهم فداء له.

ليست هذه بالطبع رؤية غالبية قادة الحزب الشيوعي للصدر، فقاعدة حركته المكوّنة من الكادحين مبرّر كاف، في نظرهم، للتقارب معه. فهم، في نهاية المطاف، المدافعون عن مصالح الكادحين ورافعو رايتهم. خطاب قادة الحزب يوحي بأن الزمن توقّف منذ خمس وأربعين سنة، أو أن الحزب متخلّف عن الزمن خمساً وأربعين سنة. خطابهم يقول: «لا تحكموا على الصدر بناءً على ممارساته السابقة، فقد نضج الرجل وبات يقترب في مواقفه من مواقفنا». كان هذا هو بالضبط خط التثقيف الرسمي للحزب لأعضائه أوائل سبعينات القرن الماضي، لا تحكموا على حزب البعث بناءً على جرائمه، فقد تطور الحزب (وفي أحيان كثيرة كان يقال لنا صراحة: فقد تطور الرفيق صدام حسين) كثيراً وبات يقترب في مواقفه من مواقفنا. تذبذب حزب البعث وقادته يعود، وفق تحليل الحزب آنذاك، إلى تمثيله مصالحَ الطبقة البرجوازية الصغيرة الواقعة بين البرجوازية والطبقة العاملة والتي انحازت أخيراً إلى مواقعنا وتحالفنا مع البعث كفيل بجرّها بعيداً من مصالح البرجوازية. وخطاب «بات يقترب من مواقفنا» يشي، هو الآخر بأن الحزب توقّف في الزمن ولم يتعلّم من خيباته المتكرّرة الدرس. خطاب متعال يرى أن موقف الحزب، يمثّل الجوهر الصحيح ومعيار الحقيقة، وليس حليفنا غير فتى غضّ التجربة، لا حركة لها مصالحها ومواقفها، وما علينا سوى أن نأخذ بيده لندلّه على طريق الصواب. خطاب كان يشعرنا (جيل الشيوعيين الشباب، أو بعضنا) بالخجل لأننا كنا نلمس أننا نزداد تهميشاً وأن «الحليف» الذي «نرعاه» يكرّس مواقعه محيلاً «الجبهة الوطنية» معنا إلى ديكور يمكن استبداله في أي لحظة إن لم يعد يؤدي وظيفته التجميلية.

يعرف قادة الحزب الشيوعي أن تحالفهم مع الصدر أعاد إلى الذاكرة تجربة التحالف مع البعث قبل خمس وأربعين سنة. فسارعوا إلى تذكير المنتقدين بأن تحالفهم مع الصدريين مختلف تماماً لأن قواعد حركتيهما تقاربت من خلال التشارك في الحراك الجماهيري المستمر منذ أربع سنوات وما عاد التحالف فوقياً كما كان مع البعث. ولكن، هل نجحوا في إقناعهم بأن ثمة فرقاً شاسعاً بين التشارك والابتلاع؟

هنا مدخلي لتفسير وضعي لمفردة «تحالف» بين مزدوجين. معطيات بسيطة تؤكد أن الناخب العراقي لم يرَ في انضمام الشيوعيين إلى الصدر اقتراباً للأخير من مفاهيم الدولة المدنية وشعاراتها، أو دولة المواطنة، بل رأى أن الحزب دخل تحت رداء حركة طائفية شيعية.

فانتخابات هذا العام شهدت خرقاً إيجابياً مهمّاً تمثّل في اتّجاه نسبة كبيرة من الناخبين نحو التصويت لقوائم اعتبرها الناخب غير طائفية بحيث ذهب نصف أصوات العرب السنّة لقوائم يقودها شيعة مثل أياد علاوي وحيدر العبادي، بل إن قائمة «النصر» التي رأسها العبادي لم تحصل على المرتبة الأولى إلا في محافظة نينوى (الموصل) العربية السنّية/ الكردية/ الكلدوآشورية. وفي المقابل، لم تحصل قائمة الصدريين «سائرون» على أي مقعد في أي محافظة غير شيعية ما عدا مقعدين حصلت عليهما في محافظة صلاح الدين. لا سرّ يكمن وراء تفرّد هذه المحافظة بالتصويت لهم، فأكبر أقضيتها، سامراء، خاضع لسلطة ميليشياتهم «سرايا السلام».

حزب «الاستقامة» الذي أسّسه الصدر بمرسوم لم يقنع غير قادة الحزب الشيوعي بأنه حامل مشروع عابر للطوائف. ومفاوضات الشهر والنصف الفائتة قدّمت الدليل لمن يحتاج إليه. فالحزب الذي تأسس بمرسوم صدري تم إلغاؤه عملياً بمرسوم صدري آخر. سماحة السيّد، بعمامته السوداء، هو الذي يفاوض ويستقبل الوفود ويبرم التحالفات ويفكّها. والتصريحات والمواقف تنطلق على ألسنة مسؤولي مكتبه. ولهاثه وراء تكوين الكتلة الأكبر التي تمكّنه من الظفر بالسلطة يستحقّ التحالف مع قائمة «الفتح» التي تجسّد كل معاني الطائفية واستباحة سلطة الدولة والخضوع للولي الفقيه في قم. نسي السيّد قوله أنه سينتقل إلى صفوف المعارضة إن لم يأتلف مع حركات تشاركه الرؤى واستجاب لمطالب، أو تهديدات، قاسم سليماني فعاد الحديث عن وشائج قديمة تربط الصدر بإيران ونفي لما يشاع عن ابتعاده منها.

مقعدان يتيمان كانا حصّة الحزب الشيوعي من تحالف القواعد الجماهيرية. هل يُعقل أن ليس بين السنّة والمسيحيين جمهرة تبحث عن صوت مدني يمثّلها في البرلمان؟ خرج الحزب الشيوعي من تحالف مدني ديموقراطي كان هو من أهم مؤسسيه ليلتحق بالصدر وتشتّت المناضلون المدنيون في قائمتين لا ماكنة انتخابية تسندهم، ومع هذا حصلوا على ثلاثة مقاعد بينها مقعد في الموصل، وهو العدد ذاته الذي حصلوا عليه في انتخابات 2014 قبل تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية. على كم مقعداً كان التيار المدني سيحصل لو أنه دخل في قائمة ديموقراطية موحّدة تضمّ الحزب الشيوعي؟

لا تكمن المأساة في زيف مقتدى، بل في أن رفاق الحزب كانوا يتبادلون التهاني بفوز «قائمتهم» بـ54 مقعداً عوض أن يبادروا إلى عقد مؤتمر استثنائي يناقش أسباب هزيمتهم وجدوى التحاقهم بالصدر ويطرحون الثقة في قيادتهم التي أوقعتهم في هذا الشرك.

لم يدر في بالي يوماً أن أسخر من حزب ناضلت في صفوفه سنوات طويلة، لكنني أعترف أنني حين كنت أسمع أو أقرأ تصريحات بعض قياديه المنتشية بـ «النصر» عن شكل الحكومة التي ستنبثق عن تحالفهم، ومواصفات رئيس الوزراء التي يرتأونها والجهات التي يوافقون أو لا يوافقون على ضمّها إلى التحالف، كان ذهني ينصرف إلى نكتة قديمة عن ساعٍ يعمل في خدمة وزير مقابل راتب مئة دولار، لكنه يتباهى على الدوام بأنه يعمل معه. وحين سئل عن دخله الشهري، أجاب «أنا والوزير نستلم خمسة آلاف ومئة دولار».