Date: Jun 11, 2018
Source: جريدة الحياة
حقوق الإنسان وآفة التسييس - بشير عبدالفتاح
على رغم التنوع الواسع في مجالات حقوق الإنسان، يأبى بعض الدول الغربية إلا التعاطي معها، في نطاق سياسي، مع تجاهل النطاقات الأخرى التي نصت عليها عشرات العهود والاتفاقات والبروتوكولات ذات الصلة. غير أن تفاقم الأزمات الاقتصادية وتعاظم التحديات الأمنية والاجتماعية والثقافية على نحو مقلق خلال العقدين الماضيين، مهّد السبيل لتبلور اتجاه دولي جديد يتبنى رؤية إنسانية تصحيحية وأكثر شمولاً في التعاطي مع حقوق الإنسان، بحيث يسلط الضوء على أهمية الحق في العيش في بيئة آمنة ومستقرة من خلال إعادة الاعتبار للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى جانب تلك المدنية والسياسية.

وتدريجاً، نجح تكتل يضم عدداً من دول نامية ومتقدمة في إعادة صياغة جدول أعمال المنظمات والجهات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بحيث تتسع قائمته لتشمل قضايا على شاكلة الحق في الحياة والأمن والتنمية والغذاء والهجرة والعمال الأجانب والحق في تلقى العلاج وغيرها. ودعماً لهذا التوجه، بدأ التكتل يتبنى سلوكاً تصويتياً جماعياً لمصلحة المقاربة الجديدة الإنسانية والشاملة في التعاطي مع حقوق الإنسان، والتي ترمي إلى الحد من تسييس بعض القوى العالمية الكبرى لتلك الحقوق، والتي دأبت على التصويت في شكل جماعي في المحافل الدولية لمصلحة أي توجه يسهم في استغلال شعارات حمل دول العالم الثالث على احترام حقوق الإنسان لخدمة مصالح تلك القوى بالأساس. وهو المنحى الذي دفع بمنظمات ومنابر دولية ذات صلة لوصفه بتضامن القوى الكبرى من أجل انتهاك حقوق الإنسان وتسييسها.

فخلف أستار التشدق بنشر قيم الديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وإجبار دول العالم الثالث على الالتزام بها، ترعرعت الرغبة العارمة في توظيف ذلك المسعى وتسييسه بما يخدم الحسابات المصلحية للدول الكبرى، فتارة تبرر بها غزوها لبعض دول العالم الثالث واستنزاف مواردها وإفقار شعوبها، ثم تستغلها تارة أخرى كغطاء للتدخل في شؤون تلك الدول وإسقاط أنظمتها الحاكمة وتفكيك جيوشها النظامية وتهديد وحدتها الترابية، وتارة ثالثة تتعامل معها من منظور أمني بحت عبر استخدامها كحائط صد لمنع تمدد الإرهاب والغضب المتصاعد من تلك الدول باتجاه الغرب الذي يحمله الكثيرون في الشرق نصيب الأسد من المسؤولية عن المآلات المأساوية التي آلت إليها الأوضاع في عدد من بلدانه. وهذا وضح في رسالة منظر ومهندس سياسات الغرب حيال العالم الإسلامي والشرق الأوسط طيلة ما يربو على نصف قرن، برنارد لويس، وعنوانها «القسوة أو الخروج». اعتبرت «وول ستريت جورنال» الأميركية تلك الرسالة بمثابة مذهب لويس Lewis Doctrine، علماً أنها تدعو الغرب إلى العمل على «زرع الديموقراطية في دول الشرق الأوسط الفاشلة للحيلولة دون وصول الإرهاب المستشري فيها إلى الحواضر الغربية».

ومع اشتداد وطأة التهديدات الأمنية حول العالم، برزت معضلة تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في تحري الإجراءات والتدابير الكفيلة بمحاربة الإرهاب واستئصال شأفته من جانب، مع عدم المساس بالديموقراطية أو الجور على حقوق الإنسان وحرياته على الجانب الآخر. أو بصيغة أخرى، كيفية الوصول إلى أقرب نقطة للتوازن يتحقق عندها أقصى قدر ممكن من متطلبات تحقيق الأمن، وأقصى قدر ممكن من موجبات تحقيق الممارسة الديموقراطية الفعالة، بما يعنى من منظور آخر التوفيق بين الوظيفتين الأمنية والسياسية للدولة.

فبينما ظل كثيرون يعتقدون دهراً في ضرورة أن تتقدم الوظيفة السياسية للدولة ممثلة في إرساء دعائم الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان، على وظائفها الأخرى كالأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أفضى تنامي التحديات الأمنية أخيراً وعودة المساعي الأميركية لإسقاط الأنظمة الحاكمة، وما استتبعه كله من اضطرابات اقتصادية واجتماعية، إلى تصاعد أهمية الوظيفة الأمنية المتمثلة في استبقاء الدولة وحماية مقدراتها ومكتسباتها وترسيخ الأمن والاستقرار في ربوعها، وكذا الوظيفة الاقتصادية الرامية إلى توفير سبل العيش الكريم للمواطن، بحيث تمضيان بالتوازي مع باقي وظائف الدولة، إن لم تتقدم عليها. فالمؤسسات التي يرتكن إليها النظام الديموقراطي وتتأسس عليها البيئة الحاضنة لحقوق الإنسان، سواء الرسمية منها كمؤسسات الإدارة والقضاء والبرلمان والاقتصاد وغيرها، أو غير الرسمية، كالأحزاب السياسية والإعلام والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات والأنشطة الاقتصادية الخاصة، تحتاج إلى أجواء مستقرة، حتى يتسنى لها الاضطلاع بالدور المنوط بها في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة بالتوازي مع إقرار الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان عبر النأي بها عن التسييس.

* كاتب مصري